شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حرب أكتوبر: التضامن العربي الأول والأخير

حرب أكتوبر: التضامن العربي الأول والأخير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 11 أكتوبر 201710:42 ص

في السادس من أكتوبر 1973 كسر الجيشان المصري والسوري حالة الجمود العسكري مع إسرائيل وبدأت محاولة رد الأراضي المحتلة عام 1967، ومعها تبلور أول تضامن عربي فعلي لم يتكرر حتى يومنا هذا. بعد أن اندلعت الاشتباكات وتقدمت القوات المصرية والسورية على الجبهتين محطمة حصون إسرائيل، ومعها أسطورة التفوق والجيش الذي لا يقهر. شرارة الحرب كانت نقطة انطلاق لتضامن عربي غير مسبوق، لم نر له مثيلاً من قبل على مستوى الشعوب والحكومات، ولم يتكرر حتى اليوم. وربما كانت بعض أسباب هذا التضامن هي نفسها أسباب عدم حدوثه لاحقاً. فالنكسة القاسية التي تلقتها كل من مصر والأردن وسوريا عام 1967 بضياع أراضٍ وانكسار إرادة كانت زلزالاً امتدت توابعه إلى جميع أنحاء العالم العربي. كانت النكسة صعوداً حاداً للمشروع الصهيوني في فلسطين، وانهياراً شبه كامل للحلم القومي العربي. وكان هذا أحد أهم أسباب الاصطفاف العربي لدعم العمليات العسكرية على الجبهتين المصرية والسورية.

فالتمدد الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة، أشعر العرب بأن الخطر الإسرائيلي بدأ يتجاوز حدود دول المواجهة ويعرض الأمن القومي العربي كله للخطر، خصوصاً بعد أن أغلقت الحرب قناة السويس وأعطت إسرائيل إطلالة واسعة على البحر الأحمر، ومكنتها من الأماكن المقدسة في القدس. كان التشتت العربي قبل النكسة أحد أهم عوامل وقوعها. فالعرب الثوريون كانوا يهاجمون باستمرار معسكر "الرجعية" المتمثل في رأيهم بالملكيات العربية والأنظمة المحافظة. وكانت تلك الأنظمة بدورها ترد بهجمات إعلامية ومخابراتية خوفاً من التأليب الثوري ضد حكوماتها. وفي ظل تلك الدائرة المفرغة من المشاحنات وصراعات النفوذ، تبدد الكثير من القوة العربية في حروب كاليمن، ومؤامرات ودسائس وحملات إعلامية مزقت الرأي العام العربي. وعلى تلك الخلفية، جاءت الحرب لتوقظ الجميع على الحقيقة المرة وهي أن العدو كان متربصاً ومستعداً، في وقت كنا مستعدين ومتربصين بعضنا ببعض. ولهذا كان الهم الرئيس في قمة الخرطوم التي عقدت بعد الهزيمة هو فض الاشتباك العربي الذي تمثل في المصالحة بين مصر والسعودية، وخصوصاً في ما يخص موضوع اليمن.

لماذا كانت حالة التضامن بين الدول العربية في حرب أكتوبر نادرة الحدوث وغير قابلة للتكرار؟
التضامن العربي العسكري والمالي والنفطي والإعلامي والسياسي كان في قمته في أيام حرب أكتوبر، ولكن…
مع كل تلك الخلفية المضطربة في الأذهان، جاءت الطلقة الأولى في أكتوبر 1973 لتعطي العرب فرصة التعويض عن فشلهم السابق في العمل المشترك. فشاهدنا الطائرات العراقية تشترك مع سلاح الجو المصري في الضربة الأولى بطائرات الهوكر هنتر. وشاهدنا تدفق المتطوعين والأسلحة من ليبيا والجزائر وبعض دول الخليج على الجبهة المصرية، ودخول فرقتين عراقيتين إلى الجبهة السورية بعد اشتداد الضغط على سوريا إثر الوقفة التعبوية المصرية. كما أشهرت دول النفط العربية سلاحها الأهم وبدأت بتقليص ضخ النفط عموماً، ووقف تصديره للدول المساندة لإسرائيل. وأحدث هذا الأمر اضطراباً حاداً في الأسواق الدولية وأثبت فاعليته في تراجع بعض الدول عن دعمها لإسرائيل بسبب ما واجهته من مصاعب إثر الارتفاع الحاد في سعر النفط وقلة المعروض منه.

كان التضامن العربي العسكري، والمالي، والنفطي والإعلامي والسياسي في قمته في أيام حرب أكتوبر. وبدت الأمور وكأن التضامن العربي والعمل المشترك لم يعدا وهماً أو كلام أغانٍ وطنية فقط بل أصبحا حقيقة ملموسة يعيشها نفس الجيل الذي عانى من الهزيمة بسبب التشرذم العربي. ولكن تلك الحالة لم تدم طويلاً بعد وقف إطلاق النار. فالتفوق العربي العسكري في الأيام الأولى لم يدم طويلاً، إذ تمكنت القوات الإسرائيلية في الأيام اللاحقة من العودة بقوة إلى مواقعها السابقة على الجبهة السورية وتهديد دمشق. كما تمكنت على الجبهة المصرية من خرق الضفة الغربية للقناة ومحاصرة الجيش المصري الثالث بشكل كامل.

كانت مبادرة السادات بزيارة القدس عام 1977 نقطة التحول الأساسية التي حكمت على التعاون العربي بالشلل

وهنا بدا التباين في المواقف وتغيرت الصورة بشكل تدريجي. فالسادات الذي كان مصراً على إنهاء إرث عبد الناصر من "اشتراكية الفقر" كما أسماها، والاعتماد على الاتحاد السوفياتي المترنح، وجد الاهتمام الأمريكي بالمنطقة فرصة ليبدأ مسيرة التحول. أما القيادة السورية الاشتراكية فلم يكن في تفكيرها أن تغير المسار السياسي من ثوابت كانت تؤمن بها لمصلحة مقاربة براغماتية مثل القيادة المصرية. وكان هذا الخلاف بداية تفكك الوحدة العربية المؤقتة التي تشكلت أثناء الحرب. ويمكننا هنا أن نجمل أسباب هذا التلاشي السريع للصورة التضامنية في ما يلي:
  • الموقف العربي أثناء الحرب كان هبة عاطفية أكثر منه تنفيذاً لإستراتيجية مدروسة في التعاون والتخطيط المشترك. فحتى التعاون المصري السوري لم يكن بمستوى التحالف الكامل سياسياً وعسكرياً بل اقتصر على تنسيق العمليات العسكرية بين الطرفين.
كما أن التناقضات العربية ما لبثت أن أطلت برأسها بعد وقف إطلاق النار. فالعراق أصر على سحب قواته من سوريا بسبب قبولها بوقف إطلاق النار. والقذافي بدأ يشكك بأن الحرب كانت حرب تحريك لا تحرير. وارتفعت الأصوات مشككة في النيات السياسية من وراء تلك الحرب. كل هذا يبين لنا أنه لم تكن هناك أرض صلبة يقف عليها هذا التضامن سوى العواطف الآنية التي تعد من سمات العرب خصوصاً في تعاملهم السياسي بعضهم مع بعض.
  • الحرب غطت على التناقضات العربية ولم تحلها. وبالتالي، وبعد أن هدأ غبار المعركة، عاد كل نظام إلى أولوياته الخاصة. فمصر السادات كانت قد فقدت الأمل في عمل عربي دائم يمكن أن يعينها على تنمية اقتصادية مستدامة تجعلها قادرة على أن تضطلع بمواجهة إسرائيل.
وكان السادات قد وصل إلى قناعة تامة بأن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا. وكان هذا تناقضاً مع شريك الحرب الأول حافظ الأسد الذي تمسك بشعارات قديمة وبوسائل أقدم. وكانت مبادرة السادات بزيارة القدس عام 1977 نقطة التحول الأساسية التي حكمت على التعاون العربي بالشلل بسبب غياب مصر عن المعادلة بكل ما لها من ثقل جيوسياسي. فلا السادات استطاع الانتظار، ولا العرب تمكنوا من مواكبة العصر وخوض لعبة السياسة باتقان وبراغماتية. 
  • غياب الرؤية الإستراتيجية البعيدة المدى عند القيادات العربية أدى إلى ضياع هذه الفرصة لاقتناص هذا التعاون النادر وتحويله إلى حالة فعلية من التنسيق والعمل المشترك الدائم.
  لقد عاد العرب بعد الحرب إلى حالة القبائل المتفرقة، إن لم نقل المتناحرة. فدول النفط أصبحت تنعم بواردات مضاعفة بسبب ارتفاع أسعار النفط التي سببها الحظر النفطي، فيما رزحت دول المواجهة تحت أعباء الحمل الاقتصادي الذي أفرزته الحرب دون تغيير جذري في مواردها إلا في حالات محدودة مثل إعادة افتتاح قناة السويس. ولم نر أي استثمار حقيقي لجو التعاون الذي ازدهر أثناء الحرب وكان يمكن أن يشكل قاعدة جيدة لبناء عمل عربي مستقبلي على أسس علمية. وبالنظر إلى الوضع الراهن يمكننا أن نفهم لماذا كانت تلك الحالة نادرة الحدوث وغير قابلة للتكرار كثيراً. فظروف الحرب عام 1973 خلقت جواً مؤقتاً من الوحدة كان فيها غبار المعركة يغطي الفشل العربي في إدراك وتنفيذ إستراتيجية للأمن العربي الموحد. ربما لأننا لم نقتنع بعد بأننا قادرون على أن نحقق شيئاً من الوحدة أو التكامل أمنياً واقتصادياً على الأقل. بل نرى الآن أن العكس هو الصحيح، فالدول العربية تضرب أمنها الوطني وهي تتواطأ بعضها ضد بعض ظناً أن النار لن تمسها، والنتيجة أن الحرائق تشتعل في البيت الكبير الذي نسميه الشرق الأوسط بسبب تناحر وفوضى السياسات التي لا تستند إلا إلى صراع نفوذ ضيق الأفق. لهذا، ما لم تدرك القيادات العربية أن التنسيق المشترك هو حاجة واقعية عملية أكثر منها شعارات عاطفية رومانسية، فلن نرى فقط غياباً للتضامن العربي الذي رأيناه عام 1973، بل سنرى تدهوراً أشد في الأيام المقبلة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard