شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
قصة حقيقية جمعتها بشاب يصغرها بثلاثين سنة... آني إرنو في أحدث أعمالها

قصة حقيقية جمعتها بشاب يصغرها بثلاثين سنة... آني إرنو في أحدث أعمالها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 16 أكتوبر 202201:12 م

"قبل خمسة أعوام، قضيت ليلة حرجة مع طالب ظل يكتب لي سنة كاملة رغبةً في لقائي. كثيراً ما مارست الحبّ لإرغام نفسي على الكتابة، فلطالما أردتُ أن أجد في التعب والإهمال الذي يلي ذلك ما يكفي ليجعلني لا أنتظر شيئاً من الحياة. كنت آمل أن تشعرني لذة الجنس، أكثر التوقعات عنفاً، بيقين أنّ لا متعة أعظم من تلك التي تمنحها الكتابة. ربما كانت الرغبة في تحفيز نفسي لأبدأ كتاباً ترددت في بدئه بسبب حجمه، ما جعلني أدعو (أ) إلى شقتي على كأس بعد عشاء في مطعم ظلّ خلاله صامتاً... كان يصغرني بثلاثين عاماً تقريباً.

بعدها صرنا نلتقي نهاية كلّ أسبوع، وبين كلِّ موعد وموعد يزداد اشتياقنا لبعض. كان يكلّمني من هاتف عام في الشارع كي لا تستيقظ شكوكُ الفتاة التي تعيش معه، ففي خضمّ اعتيادهما على مشاركة الحياة في شقة واحدة وقلق الامتحانات، لم يتخيلا قط أن ممارسة الحبّ يمكن أن يكون شيئاً آخر غير الرضى الذي تبطئه رغبة. لم يتخيّلا قط أنه نوع من الخلق المستمرّ. جعلتني الحماسة التي أصبح يبديها أكثر ارتباطاً به، وشيئاً فشيئاً تحولت المغامرةُ إلى قصةٍ أردنا الاستمرار فيها إلى النهاية، من دون أن نعرف يقيناً إلى أين تأخذنا".

أظهرت آني إرنو أنها كاتبة لا تأبه بالأحكام، ولا تخشى أن تمنح الأشياء أسماءها الحقيقية، فهي تعيش ما تكتب، وتكتب ما تعيشه بكل التفاصيل حتى تلك التي تثير في غيرها شيئاً من الخجل 

هكذا تبدأ الروائية الفرنسية آني إرنو، الحائزة على جائزة نوبل هذه السنة، قصتها الطويلة "الرجل الشاب" التي نشرتها مؤخراً في دار غاليمار الفرنسية، والتي رغم صفحاتها القليلة ارتأت دار نشرها إصدارها في كتاب مستقل، في إشارة لأهمية النص وصاحبته التي خاضت كما عوّدت قرّاءها غمار موضوع مستفزّ ومثيرٍ في الوقت نفسه، لم تحبكه من خيالها بل من حياتها الشخصية قبل عشرين عاماً.

علاقة جنسية تتحول إلى قصة حبّ

لم تمهل إرنو قراءها ليشرعوا في قراءة هذا العمل، حتى بدأت قصتها بجملة تخطف الانتباه: "إذا لم أتمكن من كتابتها، فإن الأشياء لن تبلغ أبداً غايتها. كل ما هناك أننا عشناها فحسب"؛ جملة سنكتشف بعد نصف الساعة التي نقضيها لقراءة كلّ هذا الكتاب، أنها لخصت كلَّ القصة التي بدت وكأنها سباق مع الزمن لتقول كل شيء قبل أن تختفي الأشياء، أو ربّما قبل أن تزول المشاعر التي سمحت لإرنو لكتابة ما لا يكتبه غيرها إلا في المئات من الصفحات. هنا لا نتحدث عن الموهبة التي صقلتها بعقود طويلة من الكتابة، بل على صدق ما تكتبه وتماهيها مع أعمالها إلى درجة أنها جعلت كلَّ حياتِها ضمن رواياتها المنشورة.

كثيراً ما مارستُ الحبّ لإرغام نفسي على الكتابة، فلطالما أردت أن أجد في التعب والإهمال الذي يلي ذلك ما يكفي ليجعلني لا أنتظر شيئاً من الحياة... الروائية الفرنسية آني إرنو، الحائزة على جائزة نوبل هذا العام، في كتابها الجديد

وبجرأتها المعهودة، تحكي الكاتبة قصة عاطفية حقيقية جمعتها بشاب يصغرها بثلاثين سنة؛ علاقة جنسية بدأتها رغبة في تحفيز نفسها لتشرع في تحرير كتاب تأخرت في إنجازه، سرعان ما تحولت إلى قصة حبّ لم تتوقعها هي نفسها، تقرّر الاستمرار فيها من دون أن تهتم بما ستنتهي إليه.

وفي خضم هذا الجنون العاطفي والجنسي، تكتشف إرنو أن هذه العلاقة تحوّلت إلى جسر ممتد إلى ماضيها، لتجد نفسها مجبرةً على مواجهة أشباحه، واستحضار ذكريات اعتقدت أنها دفنتها، ولم تعد قادرةً على الخروج من غرفة النسيان. ولكن وجود شقة عشيقها غير بعيدة عن المستشفى الذي شهد أكبر مآسي شبابها،  صدفةً، دفعتها إلى ولوج أكثر الأماكن ظلمة في روحها:


"تطلّ شقته على فندق الرب الذي طالته الأشغال منذ سنة من أجل تحويله إلى مقرّ المحافظة. كانت نوافذ هذا المبنى تضاء كل مساء، وتبقى كذلك طوال الليل. أما الساحة المربّعة الكبيرة في مدخله، فبدت كظلٍّ ممتد وواضح يقبع خلف سياج مغلق. لم يكن هناك أحد، وأنا أنظر في اتجاه الأسطح السوداء وقبة الكنيسة الناتئة. باستثناء الحراس لم يبق أحد. في هذا المكان، هذا المشفى، تم نقلي وأنا طالبة، ذات ليلة من شهر يناير، بسبب نزيف داخلي حصل لي إثر عملية إجهاض غير مرخّصة. لم أعد أذكر في أيِّ جناح من المستشفى كانت غرفتي التي قضيت فيها ستة أيام... في هذه الصدفة المدهشة غير المعقولة علامة عن لقاء غامض وعن قصة لا بد أن أعيشها".

حقيقة المجتمع المنافق

وتستمر الكاتبة في سرد تفاصيل يومياتها مع عشيقها الشاب؛ تفاصيل عادية قدّمتها إرنو بفضل لغتها المدهشة غير التقليدية، وخروجها عن المعتاد في تركيب الجمل، بصبغة رومنسية تجعلنا ندرك كيف تكون صورة الحب والمغامرة في عيون امرأة عاشقة، تواقة إلى المجهول. كل ذلك من دون أن تستطيع منع نفسها من مواجهة حقيقة المجتمع الذي تعيش فيه، والذي رغم ادعائه الانفتاح، لا يمكن أن يمنع نفسه من استغراب علاقةٍ من هذا النوع، علاقة تجمع بين شاب في منصف العشرينيات من عمره بامرأة في نهاية الخمسينيات، فآني إرنو تحكي قصة وقعت لها وهي في سن الـ55 مع شاب في الخامسة والعشرين من العمر.

"كنت آمل أن تشعرني لذة الجنس، أكثر التوقعات عنفا، بيقين ألا متعة أعظم من تلك التي تمنحها الكتابة" آني إرنو

لم تحتج الكاتب إلى الكثير من الجمل لترصد حقيقةَ المجتمع المنافق الذي يعلن قبوله لعلاقة تجمع رجلاً مسناً بامرأة شابة، لكنه يستهجن علاقةً تعلن فيها امرأةٌ ناضجة عن إعجابها برجل شاب يصغرها عقوداً. فافتراض الأمومة في علاقة كهذه ليس مجرد افتراضٍ لدى هذا المجتمع، بل يقين يبعث على مشاعر الاحتقار والاشمئزاز تجاه هذه المرأة التي وقعت في الحبّ أو الرغبة، على عكس الأبوة التي لا تفترض في علاقة الرجل المسن بمن تصغره سنّاً، بل تبرّر بكل التبريرات وإن كانت غير منطقية.

ومع انغماس الكاتبة في مغامرتها تلك، يبدو أنها لم تستطع الانفصال عن الواقع، ليس الذي يفرضه مجتمعٌ متحيّز، بل ذاك الذي يرسمه عقلُها وقدرتُها على الملاحظة.

إنها وطوال سردها لقصتها لم تكفّ عن تأمل علاقتها بالرجل الشاب من الخارج، رغم اندماجها التامّ في تفاصيل تلك المغامرة. هي تلاحظ ما بمقدورِ فارق السنّ أن يصنعه من فجوةٍ تزداد اتساعاً مع مرور الوقت. تلاحظ أيضاً اختلاف جيلها بجيله، رغم محاولتهما في كلِّ لحظة لإيجادِ أماكنَ عقليةٍ وفكرية يلتقيان ويؤويان إليها. تعبّر إرنو عن هذه الحقيقة بقولها: "كان يجتثّني من جيلي، لكنني لم أكن في جيله".

رسالة أخيرة

أظهرت آني إرنو في هذا العمل أنها كاتبة لا تأبه بالأحكام، ولا تخشى أن تمنح الأشياء أسماءها الحقيقية، فهي تعيش ما تكتب، وتكتب ما تعيشه بكل التفاصيل حتى تلك التي تثير في غيرها شيئاً من الخجل، أو تلك التي تخشى غيرها أن تصرح به خوفاً من المجتمع. ربما يكون حصولها على جائزة نوبل للآداب لا غاية منه إلا بعث رسالة صارمة إلى الأدب المستكين إلى الأحكام المسبقة في كلِّ شيء، بما فيه الأدب العربي، خاصة تلك المتعلقة بمعايير مختلقة ووهمية للكتابة، وعلى رأسها أن الحياة الشخصية لا تصلح للكتابة عنها؛ معيار ندرك أنه لم يبتكر إيماناً بجدواه، بل فقط لخوف مزمن يقبع في أكثر الأمكنة ظلمةً في العقل العربي، والمتعلّق بحالة الشيزوفرينيا المتعصية التي يعيشها برضاه.


المقاطع المترجمة في المقال من ترجمة الكاتب سمير قسيمي، وجاءت خصيصاً لهذه المادة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard