شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
رفضت

رفضت "الذبح" ووصفني أبي بالجبان… لماذا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 28 يوليو 202011:27 ص

حين تنشأ في عائلة اعتادت "النحر" سنوياً في عيد الأضحى، تُصبح مشاهد الذبح والدماء جزءاً من طفولتك، وتصبح مطالبتك وأنت طفل صغير بتعلم مهارات الذبح "أمراً طبيعياً" كباقي أقرانك، لذلك حين طلب مني أبي أن أذبح لأول مرة، وأنا ابن الثانية عشرة، لم يكن ما يفعله غريباً، فسبق ذلك بعامين اعتيادي على مساعدته بإمساك "الخروف" وتلطيخ يدي بالدماء تبركاً، لكني حين أمسكت السكين لأول مرة لم أستطع.

ما مفهوم الشجاعة؟ سؤال شغلني خاصة في أوقات كتلك وعيد الأضحى على الأبواب.

لم يكن هذا الفشل الأخير، تكررت التجربة مرتين بنفس النتائج، فوصل أبي لنتيجة أني "جبان". قالها على سبيل التشجيع ليس أكثر، وحين كبرت قليلاً استخدم مصطلح "قلبك خفيف"، وهو ما بدأت أقتنع به، خاصة حين رأيت أخي الأصغر قد تعلم الذبح بسهولة، وتنبهت إلى أنني منذ محاولتي الأولى لم "أتبرك بالدماء"، بل وبمجرد دخولي الجامعة صرت أقضي يوم الذبح خارج البيت، هرباً من تلك المشاهد التي لم تعد تثير فيّ سوى الغثيان، رغم أني لست نباتياً وأتناول اللحوم.

صرت أتقبل أن "قلبي خفيف"، خاصة أن الأمر تطور، فكرهت مشاهد الدماء أينما كانت، على شاشة السينما أو في مقاطع المشاجرات التي تمتلئ بها مواقع التواصل وأفلام الرعب، والأمر الأخير جعل بعض الصديقات يسخرن من "رهافتي" كما وصفوها بتعبير أكثر تهذيباً.

أبي كغيره من البسطاء، لم يشغل نفسه بأسئلة كثيرة في الموروثات من العادات والتابوهات الدينية، حفظها ورددها كما هي، عكسي حين تعددت قراءاتي وكثرت أسئلتي، وبدأت طريقي الرافض لأي قداسة لفكرة أو شخص دون الاقتناع بها.

حين كبرت قليلاً استخدم أبي مصطلح "قلبك خفيف"، وهو ما بدأت أقتنع به، خاصة حين رأيت أخي الأصغر قد تعلم الذبح بسهولة، وتنبهت إلى أنني منذ محاولتي الأولى لم "أتبرك بالدماء"، بل وبمجرد دخولي الجامعة صرت أقضي يوم الذبح خارج البيت، هرباً من المشاهد التي تثير الغثيان

لذلك لم نتفق على رأي في أي مناقشة دينية، والأهم إنكاره لبعض الحقائق الثابتة في كتب التراث الذي يستشهد هو بها، مثل أن الصحابة تركوا جثة النبي للاتفاق على من يتولى السلطة، وحين أتيت له بصحيح البخاري وأريته الحديث الذي ينص على الواقعة، تهرب من الرد بطريقته التي أصبحت سائدة بعد ذلك ولخصها في: "والنبي سيبني في حالي إنت محدش فاضيلك"، لكنه نصح أختي الصغيرة أن تسألني في الأمور الدينية التي تجهلها، في اعتراف ضمني بصحة ما أقول، وأخيراً حين قرأ لي مقالاً بالصدفة عن مفهوم أهل السنة، أبدى إعجابه بـ"شجاعتي" في الطرح وحذرني من العواقب.

حالة الإنكار التي يتبعها أبي لبعض الحقائق لا تخصه وحده، تناقشت مع كثيرين يفعلون ذلك، خاصة حين تقدم لهم الأدلة من الكتب التي يثقون بها أو تطرح عليهم أسئلة لم يفكروا فيها من قبل، هم لا ينكرون الحقيقة لكنهم يخافون إعلان ما يقتنعون به إذا كان عكس السائد، وحالة الإنكار تلك ليست إلا تعبيراً عن "الجبن".

ما مفهوم الشجاعة؟ سؤال شغلني خاصة في أوقات كتلك وعيد الأضحى على الأبواب. في العصور الماضية كانت الشجاعة مقتصرة على فرسان الحروب الذين لا يخافون الموت ويلتقون أعداءهم بكل إقبال، وبتلك القاعدة صار هناك فرسان في كل تاريخ وتماثيل لبعضهم في ميادين العالم، ثم تطورت الأمور ليصبح الشجاع هو أيضاً من يدفع حياته مقابل الدفاع عن أهل بيته، ثم اتسع المفهوم ليشمل قادة البلاد الذين رفضوا التبعية وعملوا من أجل أوطانهم، كما شمل المعارضين السياسيين الذي وقفوا ضد الحكومات والأنظمة المستبدة.

لكن، وإن كان الفارس يحمل سلاحه ويعرف عدوه، والذي يدافع عن بيته تُحركه عواطف شخصية، والقادة يحلمون بالتاريخ والمعارضون يحلمون بالمنصب السياسي، وتلك كلها أحلام مشروعة، فما بالنا بالذي لا يحمل سيفاً ولا يسعى لمنصب ولا يحلم بالتاريخ ولا يعرف عدوه، ولكنه يقول ما يؤمن به بشجاعة نادرة الوجود، ويدفع عمره مقابل ذلك؟

الآن أقول لأبي: صحيح أنني لازلت أخشى مشهد الدماء ولا أستطيع الذبح، لكني لست جباناً، لأني أدركت أن الجبان الحقيقي هو الذي لا يستطيع قول رأيه بحرية، وهو من يطلق الرصاص ويذبح الناس لأنه لم يتحمل أن يناقشه أحد بالمنطق أو الحجة، فأسكتهم بالدم

تلك الحالة الأخيرة هي ما تنطبق على كثير من الكتّاب والصحافيين في عصرنا الحديث والذين يعدّون برأيي "الشجعان الحقيقيين"، فهؤلاء، بداية من فرج فودة ومروراً بنجيب محفوظ ونصر حامد أبوزيد وآخرين، لم يحمل أحد منهم سلاحاً ولم يطمع في مال أو منصب سياسي، بل ولم يعرفوا عدوهم، لكنهم استمروا في التعبير عن أفكارهم ودعوا للحرية ووقفوا ضد أي شكل من أشكال الاستعباد.

ولأن أعداء الحرية، سواء من السلطة أو من غيرها، يعرفون جيداً أن هؤلاء الكتّاب وغيرهم "شجعان حقيقيون" ولن يقبلوا أي مساومة أو ترضية بمناصب، لم يلجؤوا سوى لوسيلة واحدة هي الاغتيال، تخفّوا وأطلقوا رصاصهم في الظلام وهربوا كاللصوص، كما حدث مع فرج فودة.

الآن أقول لأبي: صحيح أنني لازلت أخشى مشهد الدماء ولا أستطيع الذبح، لكني لست جباناً، لأني أدركت أن الجبان الحقيقي هو الذي لا يستطيع قول رأيه بحرية، وهو من يطلق الرصاص ويذبح الناس لأنه لم يتحمل أن يناقشه أحد بالمنطق أو الحجة، فأسكتهم بالدم.

كما أقول له إن الشجاعة الحقيقية هي ما رأيتها في زملاء وزميلات لي مستمرين في قول ما يؤمنون به ويدافعون عن حرية الجميع، رغم تهديدهم بالقتل، تضييق السلطات عليهم واتهامهم بالكفر والإلحاد من أناس آخرين، وددت إخباره أني أخاف "الذبح" لكني قادر على مناقشة كافة الأفكار، كسر كافة التابوهات وتحمل العواقب دون أي تردد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard