شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"حضنّي أبي فشعرت بـ.."... معاناة ضحايا "اغتصاب" المحارم في تونس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 26 يوليو 202004:45 م
ليس من السهل على ضحايا الاغتصاب أن يبُحْنَ بحكايا معاناتهن التي خلّفت جروحاً غائرة، ليس في أجسادهن فحسب، بل أيضاً في أرواحهن وحياتهن الشخصية والاجتماعية، فأصبحن أجساداً بلا روح. ولعلّ هذه الجروح تكون أعمق عندما يكون المغتصب أحد أفراد العائلة، وتختار العائلة غالباً، طمس الحقيقة لـ"حفظ ماء الوجه" ودرء "الفضيحة".

"روحي تاهت مني"

مريم، هكذا اختارت اسمها المستعار، تيمناً بـالعذراء التي أنجبت دون أن تتزوّج، عمرها 47 عاماً، تقيم في محافظة منوبة، وهي من محافظة الكاف، تروي لرصيف22 قصّتها قائلة: "هربت بجسدي، لكن روحي تاهت مني بلا رجعة".

توضح مريم، مشددة على أثر التجربة النفسي عليها: "سُلبت عذريتي في العاشرة من عمري، ليس عذريتي فحسب، بل أيضا طفولتي وبراءتي".

توفيت والدة مريم عندما كانت في الثامنة من عمرها، انقطعت عن الدراسة وهي في الصف الثالث من التعليم الابتدائي، وليس لها أحد سوى والدها.

"خلال السنتين التاليتين لوفاة والدتي، كان ينيّمني في حضنه، وأصحو في الليل على لمساته الغريبة، رغم الإحساس غير المريح الذي كان يراودني، لم أشكّ أبداً في أن تكون لمساته غير بريئة، أو ربما عقلي البسيط آنذاك رفض تقبّل الفكرة".

تتنهّد مريم، تهيم بنظراتها ثم تتابع بصوت متعثّر: "في ليلة كنت نائمة، وإذا بي أحسّ بيدين تنزعان سروالي، رفعت رأسي مذعورة، فإذا به أبي، قلت: بابا؟ فوضع يداً على فمي، والأخرى واصلت نزع سروالي، وعقلي لم يستوعب بعد، لا أطيل عليك أكثر، لقد كانت تلك الليلة بداية كابوسي مع اغتصاب والدي المتكرر لي حتى بلغت الـ19... لما حملت... أجل، حملت من والدي!".

هربت مريم إلى العاصمة وهي حامل في الشهر الخامس، أرادت إجهاض الجنين لكنها لم تستطع، أنجبته، وتركته خلفها بالمستشفى وغادرت دون رجعة.

ربما توقفت اعتداءات خال أمل عليها عند حدّ التحرش، رغم ذلك تقول إن تأثيراته على نفسيتها لا تزال إلى يومنا هذا، فهي إلى اليوم لا تثق بالرجال ولم ترتبط بأي أحد ولا تفكر بالارتباط أساساً

"لست نادمة على تركه، ولا أحن إليه ولا حتى أفكر به، كيف لي أن أكون أماً لابن أبي؟ هل تدركين حجم المأساة؟"، تزفر طويلاً ثم تستدرك: "لم أرَ والدي من يومها ولم ألجأ إليه مجدداً، رغم ما مررت به من صعوبات، اشتغلت خادمة منذ سنّ 19، أقضي عمري في الذل والهوان، لكن أن ألعق أرضيات المراحيض أهون عليّ من أن ألعق… لقد بلغني أنه قد مات لا رحمه الله!".

قصة مريم لا تختلف عن قصص كثيرات ممن تعرّضن للاغتصاب أو التحرش من ذوي القربى، لكنهن اخترن الصمت خوفاً من ردود الفعل ومن نظرة الآخر. هكذا حدث مع أمل اسم مستعار (27سنة)، من محافظة القيروان، التي تعرّضت لاعتداءات جنسية من خالها مرّات متكررة، دون أن تتمكن من البوح بذلك لأي أحد.

تقول أمل لرصيف22: "تطلّق والداي منذ صغري، فاضطررنا أنا وأمي إلى الانتقال للعيش في منزل جدتي. كانت حياتي عادية إلى غاية تلك الليلة".

تضيف أمل بصوت متردّد: "في العاشرة من عمري، في ليلة ذهبت أمي وجدتي إلى عرسٍ، وكنت نائمة في الصالون، أفقت على لمسات غريبة في مناطق حساسة من جسدي، وإذ به خالي".

"هربت إلى الحمام"

تصمت أمل قليلاً ثم تردف: "لمساته تمادت وجذبني إليه ليقبلني، فدفعته بقدميّ بكل قوة وهربت إلى الحمام وأقفلت الباب من الداخل، لم أخرج إلا عندما عادت أمي إلى المنزل".

"لم أخبر أحداً بذلك، خفت كثيراً لأن أمي صعبة المراس، واستبعدت تصديقها لي فاخترت الصمت. تكرّرت محاولاته في أكثر من مناسبة لأنه أدرك أنني لن أشي به، لكنني كنت دائماً أتحاشاه، ومن حسن حظّي أنه تزوج وأنا في الـ18، فتخلّصت من إزعاجه".

"تزوج خالي فتخلصت من إزعاجه".

ربما توقفت اعتداءات خال أمل عليها عند حدّ التحرش، رغم ذلك تقول إن تأثيراته على نفسيتها لا تزال إلى يومنا هذا، فهي إلى اليوم لا تثق بالرجال ولم ترتبط بأي أحد ولا تفكر بالارتباط أساساً.

تقول: "بالنسبة لي، خالي لم يتحرّش بي فقط بل اغتصبني، حتى لو لم يكن اغتصاباً بالمفهوم الدارج".

يعرّف الفصل227 من القانون الأساسي عدد 58 لسنة2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة، الاغتصاب بأنّه "كل فعل يؤدي إلى إيلاج جنسي مهما كانت طبيعته والوسيلة المستعملة ضد أنثى أو ذكر بدون رضاه".

وينصّ القانون على أنّ مرتكب جريمة الاغتصاب يعاقب بالسجن عشرين عاماً، وأنّ "الرضا يعتبر مفقوداً إذا كان سن الضحية دون الـ16 عاماً".

كما ينص الفصل ذاته على أن "سِفَاح القربى يعاقب عليه القانون بالسجن بقية العمر".

ولئن يُعتبر القانون حاسماً في إقراره عقوبة السجن مدى الحياة لاغتصاب أحد من ذوي القربى، فإنّ العائلات غالباً ما تختار الصمت وطمس الجريمة لتجنّب الفضيحة. هذا ما ترويه دنيا (اسم مستعار) في منشور نشرته صفحة "أنا زادا"، فرع حركة Me too في تونس.

"أدفع عمري مقابل النسيان"

كتبت دنيا، (38 سنة): "دفعت إلى اكتشاف الجنس وأنا في السابعة من عمري، سُرِقت طفولتي ودُنّست براءتي. أدفع عمري مقابل أن أنسى ما عشته".

دنيا تعرّضت للاغتصاب من ابن عمّها، كان منزلاهما يفتحان على بعض، وعندما أخبرت والدتها، سلطت عليها استجواباً أمام أفراد العائلة لإنقاذ "شرفها"، قالت لها والدتها: "ماذا فعل لك؟ قولي! لماذا لم تخبريني؟ أعجبك ذلك، هاه؟"، ثم صفعتها.

D.N

On m'a volé mon enfance, on m'a ôté mon innocence. Je donnerais n'importe quoi pour effacer ce qui m'est arrivé et...

Posted by EnaZeda on Tuesday, 30 June 2020

وأضافت دينا: "وجدت نفسي خلف الستارة. خذلني لساني وغابت الكلمات. والدته قالت: "ابني رجل، ليس هناك ما يخجل منه، كلّ اللوم على ابنتكم".

قضت دنيا سنوات مراهقتها وحتى سن الـ20 تفكّر بأنها فتاة "قذرة"، تقول: "خجلت من نفسي وكرهت جسدي... كنت فاقدة للثقة في نفسي بالكامل... عشت انهياراً عصبياً حاداً في الـ17، ولم أستطع اجتياز الثانوية العامة ذلك العام".

وتختم دينا: "استغرق الأمر مني حوالي 15 عاماً قبل أن أتمكن من الحديث عنه. ثم بضع سنوات أخرى قبل أن أتمكن من الحديث عنه دون أن أبكي. اليوم، قررت أن أقولها بأعلى صوتي: أنا الضحية وهو الجاني، هو الذي يجب أن يخجل وأن يلوم نفسه، وليس أنا".

"اغتصاب جسدي ومعنوي"

تحت عنوان "ما يكفيش يغتصبها خوها جسدياً يغتصبوها والديها معنوياً"، نشرت القاضية كلثوم كنو، في يونيو/حزيران الماضي، منشورا على فيس بوك تحدثت فيها عن قضيّة قالت إنها لم تستطع محوها من ذاكرتها.

كتبت كلثوم: "في أحد المبيتات المدرسية، طفلة في الـ15 من عمرها أحست بآلام في بطنها، نُقلت إلى المستشفى وتبيّن أنها في حامل في شهرها السابع وعلى وشك الولادة. تمّ إعلام النيابة العمومية، وتقرّر فتح تحقيق في الموضوع. الفتاة أنجبت رضيعاً توفّي مباشرة بعد الولادة، وتم أخذ عينات منه لاعتمادها في التحليل الجيني".

ما يكفيش يغتصبها خوها جسديا "يغتصبوها "والديها معنويا

من القضايا الي ما تتنحاش أبدا من مخي ولا يمكن ننساها.

طفلة...

Posted by Kalthoum Kennou on Sunday, 7 June 2020

تضيف القاضية: "بعد مغادرة الطفلة للمستشفى، استدعيتها لمكتبي لسماعها كمتضررة، بحضور والديها باعتبارها قاصراً. كانت شاحبة مصفرّة الوجه، مطأطئة الرأس. حاولت طمأنتها وقلت: لا داعي أن تخافي، فأنت الضحية. رفضت الافصاح عن اسم مغتصبها في البداية، ومع إصراري قالت بصوت خافت: خويا، وبمجرّد أن نبست بذلك هاج والداها وصاحا قائلين: كاذبة. دخلت المسكينة في هستيريا من البكاء وأخذت تقسم دون أن تنظر إليهما بأنها تقول الحقيقة. تدخّلت حينها وأشرت إليهما بأن يكفّا عن التدخل، لأن وجودهما معها لكونها قاصر لا غير".

"بينما كانت البنت تقص علي واقعة الاغتصاب كان أبوها يتوعّدها".

"أخي استغل ذهاب والديّ إلى عرس، وكنت أنا نائمة، أفقت لأجده فوقي ومن الصدمة هرب صوتي وعجزت عن طلب النجدة، ثم خفت ولم أروِ الحادثة لأي أحد. تكرّر ذلك، ولم أدرك أنني حامل"، هكذا نقلت القاضية عن البنت قصتها، وأضافت: "بينما كانت البنت تقص علي الواقعة كان والدها يحدجها بنظرات حانقة، ثم بدأ يتوعدها بحبسها في المنزل، ما دفعني للاتصال بمندوب حماية الطفولة مباشرة لحمايتها في مركز رعاية الطفولة".

ثم تتابع: "من الغد تم جلب شقيق الضحية، الذي أنكر التهمة قطعاً فأجرينا تحليلاً جينيّاً وتأكدنا أنه الجاني. لكنّ الصدمة الحقيقية كانت عند جلسة المكافحة التي حضر فيها الأبوان والأخوان، أخذت الأم تتوسّل بأن يُغفر لابنها، وزعق الوالد لابنته: "افتحي فمك وقولي إنك سامحته"، ما أثار حفيظتي وقلت حتى لو سامحته الضحية فإنه لن يهرب من العقاب، فارتعشت الفتاة خوفاً وقالت لوالديها: "ماذا ستفعلان بي الآن؟"... مشهد لن أنساه ما حييت".

في تعليقه على ذلك، يقول الباحث في علم الاجتماع، سامي نصر، لرصيف22، إن "جرائم اغتصاب ذوي القربى مستفحلة منذ سنوات عديدة، ولكنها من الظواهر المسكوت عنها".

"الأدهى والأمر أن الضحية تصبح منبوذة، ومدانة، كأنها هي من اقترفت الجرم، لأننا لا زلنا نعيش في مجتمع ذكوري، ينزّه الرجل مهما فعل"

ويتابع نصر: "نتحدث هنا عن سوسيولوجيا الفرص المتاحة، هناك عاملان أساسيان وراء صيرورة هذه الممارسات من المتاح والمُستَسْهَل. أولاً، القانون لم يعد يخيف هؤلاء، وثانياً، ما أسماه دوركهايم بالاشمئزاز والاستنكار الاجتماعي فقد مفعوله خلال السنوات الأخيرة"، ويوضح نصر: "ذلك مرتبط بتراجع المعايير الاجتماعية الضابطة، ما خلق نوعاً من التفكك الاجتماعي وأخلّ بمنظومة القيم وضاعف منسوب الجريمة".

ويؤكّد السوسيولوجي: "صرنا اليوم نعيش أزمة أخلاق في تونس ألقت بظلالها على جلّ الأصعدة، بما في ذلك ارتفاع منسوب العنف على اختلاف أشكاله ومستوياته".

ومن جانب علم الاجتماع النفسي، يشير نصر إلى أن الجرائم المرتبطة بالجنس لاتزال من المحرمات اليوم، لذلك تحاول الأسرة غالباً، التكتم للسيطرة على الفضيحة، دون مراعاة الحالة النفسية للضحية، "بل الأدهى والأمر أن الضحية تصبح منبوذة ومدانة كأنها هي من اقترفت الجرم، لأننا لا زلنا نعيش في مجتمع ذكوري ينزّه الرجل مهما فعل".

ويرى نصر أنه بقدر السكوت عن هذه الظاهرة بقدر ما تنتشر وتستفحل داخل المجتمع، مشددا على ضرورة الحرص على "التوعية والتنشئة الجنسانية" للطفل، كي يكون أكثر وعياً، ويبوح مباشرة إذا ما تعرّض لاعتداء جنسي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard