شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"لاعبها نضال وكفاح؟ يلعن أبوك وأبو سيدي بوزيد"... التضييق على حرية التعبير في تونس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 25 يوليو 202006:38 م

"لاعبها (تدّعي) نضال وكفاح؟ يلعن أبوك وأبو سيدي بوزيد وكل ما جاورها يا ابن الكلب". كيل من الشتائم تعرّض له قيس البوعزيزي، من قبل أعوان أمنٍ اعتقلوه، حين كان ماراً من الشارع الرئيسي لمحافظة سيدي بوزيد، مهد الثورة الواقع في وسط غرب تونس.

حوكم البوعزيزي (34 عاماً)، الناشط في الحركات الاجتماعية منذ الثورة، في أكثر من 15 قضيّةً متعلقة بحرية التعبير والتظاهر. يقول لرصيف22: "لديّ قصصٌ طويلةٌ ومثيرة مع مراكز الإيقاف والأمن، بدايتها كانت في 9 آب/ أغسطس 2012، حين فوجئت بأكثر من 12 شخصاً يحيطون بي، وسط مدينة سيدي بوزيد، كلٌّ يضرب من مكانه. لم أستوعب في بادئ الأمر ما يجري، لكنّي تيقنت بعد ثوانٍ أنّهم تعزيزات أمنية تحاول اقتيادي إلى مركز الإيقاف. قاومت قليلاً لكن تحت الكم الهائل من الضرب والشتم استسلمت".

يتابع: "حين وصلنا إلى مركز الإيقاف في المدينة، علمت أنّ المكتب الفرعي لحركة النهضة الإسلامية، الحزب الحاكم حينذاك، قدّم ضدّي شكوى بتهمة حرق شعار الحركة، وإتلاف محتويات مكتبها، وقد تفرّعت إلى عدّة قضايا تعدّدت فيها التهم، ومنها تكوين عصابة والتحريض والتآمر على أمن الدولة وإضرام النار في مقرات السيادة"، مشيراً إلى أنّ غاية الحركة من هذه الادّعاءات كانت إخماد صوته، المنتقد لسياساتها.

يروي البوعزيزي أنّه قضى 11 يوماً في مراكز الإيقاف في كل من سيدي بوزيد ومحافظة القيروان، وسط غرب تونس، وصفاقس، في الجنوب، ورفض الأمنيون التحقيق معه، وأن رئيس مركز صفاقس أخبره أنّه لن يحقق معه لأنّ بانتظاره "مردومة" (عدد ضخم) من التهم، لكنّه خرج بضغطٍ شعبي، بعد أن دخل برلمانيون عن سيدي بوزيد في إضراب عن الطعام، للمطالبة بإطلاق سراحه، على أن يُحاكم وهو خارج المعتقل، لكن لم يُستدعَ مرّةً أخرى في القضية.

وفي 15 كانون الثاني/ يناير 2018، اعتقلته الشرطة في مدينة سيدي بوزيد مرّةً أخرى، بسبب تعليقين على فيسبوك دعا فيهما للخروج إلى الشوارع للاحتجاج على سياسات الحكومة الاقتصادية المتعلّقة بارتفاع تكاليف المعيشة، وارتفاع الضرائب.

قال في الأول: "يظنون أن الثورة ستكون برمي الورود والتلويح بوشاح أبيض. الثورة فوضى أو لا تكون"، وقال في الثاني إنّ تونس تسير على خطى الثورة الفرنسية لمّا ثار الفقراء على الجمعية العامة، وإنّ ما تبقى هو المرحلة الثالثة من الثورة، ما يُسمى بـ "الرعب الأبيض"، أي المحاكمات الثورية والإعدامات في الساحات العامة.

أمضى قيس البوعزيزي ليلة رهن الاحتجاز ثم نُقل في اليوم التالي إلى المحكمة، حيث وجّه له المدّعي العام تهمة توزيع مناشير "من شأنها تعكير صفو النظام العام أو النيل من الأخلاق الحميدة"، بموجب الفصل 121 من المجلة الجزائية. كلّفه ذلك أسبوعاً في السجن على ذمة المحاكمة، قبل أن تبرّئه المحكمة الابتدائية في 23 كانون الثاني/ يناير، بعد أن تطوّع عشرات المحامين للدفاع عنه، وأطلق ناشطون حملات تضامن واسعة معه.

رحلة قيس البوعزيزي مع الملاحقات القضائية لم تنتهِ. في نيسان/ أبريل 2019، حوكم في قضية تتعلّق بالإرهاب رفعتها ضدّه رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، الموالية لنظام ما قبل الثورة، بسبب تدوينة ساند فيها احتجاجات أهالي سيدي بوزيد الداعية إلى رفض زيارة موسي للمحافظة للترويج لحزبها، لأنّها تجاهر بعدائها للثورة. كتب في التدوينة أن عبير موسي لن تطأ سيدي بوزيد إلا عندما يكون هو ميّتاً أو مسجوناً، "لأنّ مشروعها السياسي بُني على مقولة أن مَن قام بالثّورة يجب أن يُحاكم من أجل الخيانة العظمى".

ومن التهم التي وُجّهت لقيس تكوين خلايا إرهابية، والتحريض على القتل، غير أنّ محاميه استطاعوا إسقاط الطابع الإرهابي عن القضية، لتبقى مدنيةً، في انتظار تحديد موعد للمحاكمة.

شبح قمع الحريات

البوعزيزي لم يكن الوحيد الذي قُمع صوته. تعرّض عددٌ كبير من المدونين للاعتقال لأسباب غريبة، منها نشر تدوينات أو فيديوهات تنتقد وتفضح بعض التجاوزات التي تمارسها الحكومة أو مسؤوليها، ولأسباب أخرى كالمس بالمقدسات، على غرار الحكم بسجن المدوّنة آمنة الشرقي، ستّة أشهر، بتهم تتعلق بالدعوة إلى الكراهية بين الأديان عبر التحريض على التمييز واستعمال الوسائل العدائية، وذلك على خلفية مشاركتها تدوينة بعنوان "سورة كورونا"، وهي عبارة عن نصّ ساخر يحاكي على مستوى الشكل النص القرآني، واعتبره الادّعاء مسيئاً للإسلام.

ووصفت الباحثة المعنية بشؤون تونس في منظمة العفو الدولية فداء همامي الأحكام الصادرة بحق الشرقي، بـ"المظلمة"، واعتبرتها "اعتداء على حرية التعبير وحرية المعتقد، وصفعة قاسية في وجه حرية التعبير في تونس"، مضيفة لرصيف22: "ستكون لها تأثيرات مخيفة من خلال منع باقي المدوّنين من التجرؤ على التعبير عن آرائهم".

وأكّدت منظمة العفو الدولية، في بيان أصدرته، في 21 نيسان/ أبريل الماضي، أنّها وثّقت اتجاهاً متنامياً لمحاكمات المدونين والصحافيين والناشطين في تونس، واعتبرته مؤشّراً خطيراً على التراجع في مكسب حرية التعبير.

ركلها عناصر الأمن وبصقوا على وجهها وحاولوا إجبارها على خلع حجابها وملابسها الداخلية، ونعتوها بعبارات مثل "العزري" (متشبهة بالرجال)، و"يا عاهرة"، و"يا رخيصة"... المدوّنة وفاء مباركي تتحدث عن "عودة القبضة البوليسية الحديدية من الباب الواسع" في تونس

أنيس المبروكي ناشط آخر طالته الملاحقات القضائية، بسبب نشر تدوينات وفيديوهات تُظهر تقصير السلطات في إنجاز مشاريع تنموية في المنطقة التي يعيش فيها، طبربة، 30 كيلومتراً عن العاصمة. يقول لرصيف22 أنّه تعرّض خلال الأشهر الثمانية الأخيرة إلى الإيقاف ثلاث مرّات متتالية، قضى خلالها 26 يوماً في مراكز إيقاف مختلفة في العاصمة.

يروي المبروكي أنّ الأمنيين سلبوه هاتفه في مركز الإيقاف في محافظة منوبة، ومنعوه من الاتصال بمحاميه ليخبره بإيقافه، رغم أنّه حق من حقوقه، كما سلبوه ساعته، وكافة أوراقه، فيما امتنعوا لاحقاً عن تسلميه بطاقة هويته بحجّة أنّها ضاعت، وأنّهم سيستخرجون له أخرى، ويضيف أنه كان يعاني من مرض ارتفاع مستوى السكر، ولم يراعوا حالته، ولم ينقلوه إلى المستشفى إلا حين أغمي عليه.

 ولفت المبروكي إلى أنّه أودع السجن لمدّة 16 يوماً دون إخضاعه لاستجواب، ما يعني، بحسب كلامه، أنّه تم تلفيق التهم الموجهة إليه والمتعلقة بإحداث ضوضاء من شأنها تعطيل صفو النظام العام، ونسب أمور غير قانونية لموظف عمومي متعلقة بوظيفته.

واعتُقل الشاب سابقاً في أواخر عام 2019، لأنّه تحدّث عن تجاوزات رافقت مشروع إنارة منطقة نائية في ضواحي العاصمة، ثم اعتُقل بعدها لأنّه طالب بالتحقيق في أسباب إيقافه ومحاكمته دون استجواب.

ويؤكد المحامي المختص في الدفاع عن المدوّنين محمد علي بوشيبة لرصيف22 أنّ الدستور التونسي يقرّ في الفصل 31 منه بحريّة التعبير، لكن السلطات لا تطبّقه وتعمل على فرض قيود على الحريات، عبر استغلال فصول مجلّة الاتصالات التي تعود إلى عام 2001، والفصل 128 من المجلّة الجزائية التي تعود إلى ما قبل الاستقلال (1956) لإحالة المدوّنين على القضاء، ومحاكمتهم بتهمة الإساءة إلى الغير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على أساس الفصل 81 من المجلة.

يتابع بوشيبة أنّه ترافع خلال فترة الحجر الصحي الشامل على خلفية وباء كورونا، والتي امتدّت من 22 آذار/ مارس حتى الرابع من حزيران/ يونيو 2020، عن 50 مدوّناً أحالتهم السلطات على القضاء بسبب تدوينات متعلّقة جميعها بحرية التعبير.

"أصحاب القرار السياسي الذين فشلوا في تحقيق مطالب الثورة التونسية المتعلّقة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية يلجأون، كلّما مرّت الحكومات بأزمات سياسية، إلى استهداف الناشطين، كنوعٍ من الانتقام منهم على خلفية الضغط الذي يمارسونه"

ردّاً على موجة الملاحقات، أنشأت مجموعة من المحامين شبكة "مدونون بلا قيود". وتقول المحامية نادية شواشي إنّ الشبكة تلقت أكثر من 300 ملفٍّ لمدوّنين وناشطين، تتعلّق جميعها بحرية التعبير، وإنّ الملاحقات القضائية بلغت ذروتها خلال فترة الحجر الصحي، حيث كانت الشبكة تتلقى يومياً ملفات إيقافات، وقد سجّلت ذات مرّة 12 إيقافاً في يوم واحد.

وتضيف الشواشي لرصيف22 أنّ الشبكة سجّلت خلال فترة الحجر الصحي، إيقاف 27 مدوّناً وناشطاً، اتُّهم كل واحدٍ منهم بأكثر من قضية، وتشدّد على أنّ وضعية الحقوق والحريات في تونس أصبحت كارثية، ولم تستبعد أن يصل النشطاء إلى مرحلة التوقف نهائياً عن الكتابة.

محاولات لعودة القبضة الحديدية؟

من المدوّنين الذين طالتهم الملاحقات أمينة منصور، وهي بحسب نادية الشواشي أوّل امرأة تعاقَب بسبب حرية التعبير، لأنّها انتقدت رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، واتهمت موظفاً في الجمارك بالفساد. أمضت منصور ليلة في السجن، وحكم القضاء بسجنها شهرين مع وقف التنفيذ، ليتم استئناف الحكم لاحقاً بقصد تخفيفه.

واحتُجز المدوّن الصحبي العامري مرّات عدّة في قضيتَي تشهير ضدّ مدّعييْن عامين انتقدهما لعدم فتح تحقيق ضدّ فساد الحكومة، وحُكم عليه بالسجن 18 شهراً عن كل قضية، قبل الاستئناف لاحقاً وصدور حكم بعدم سماع الدعوى.

تؤكد محاميته نادية الشواشي لرصيف22 أنّه حوكم في أكثر من 300 قضية متعلقة جميعها بتدوينات نشرها على فيسبوك، وانتقد فيها شخصيات مسؤولة في الدولة، وأنّ أطول مدّةٍ قضاها في السجن كانت ثلاثة أشهر لكن تم استئناف الحكم في كل مرّة، وربح القضايا، وراعى القضاء في أغلب الأحيان وضعيته الخاصة باعتباره يعاني من إعاقة جسدية ألزمته الكرسي المتحرّك، وهو الآن خارج أسوار السجن.

"القبضة البوليسية الحديدية عادت من الباب الواسع، بعد أن جثم النظام لمدة سنوات على أنفاس الشعب التونسي"، تقول لرصيف22 وفاء مباركي، مدوّنة ومدافعة عن مطالب الحركات الاجتماعية. هي الأخرى واجهت حوالي 10 قضايا منذ بداية الثورة إلى اليوم، لأنّها مارست حقّها في التعبير والتظاهر.

تؤكد مباركي لرصيف22 أنّها تعرّضت إلى الركل والبصق على الوجه من قبل أعوان الأمن في مركز الإيقاف في محافظة توزر، خلال اعتقالها في كانون الثاني/ يناير 2018، على خلفية تحرّك احتجاجي يطالب بالتشغيل، كما حاولوا خلع حجابها، وملابسها الداخلية، لولا استماتتها في الدفاع عن نفسها.

تضيف وفاء أنّها، وبعد تفنّن أعوان الأمن في تعنيفها لفظياً بعبارات مثل "يا زرقاء"، في إشارة إلى لون بشرتها، و"العزري" (متشبهة بالرجال)، أحيلت إلى عون أمن امرأة لمواصلة التحقيق، فواصلت الأخيرة تعنيفها بعبارات أكثر وطأة مثل "يا عاهرة"، و"يا رخيصة"، لكن أُطلق سراحها صباح اليوم التالي بعد حضور محاميها، وممثلين عن رابطة حقوق الإنسان.

الدستور مجرّد نص جميل

نجحت تونس في إقرار دستور ديمقراطي، بعد ثورة يناير 2011، مثّل منعرجاً هاماً في تاريخها، بنصّه على إقرار مبادئ حقوقية وحريات ناضلت من أجلها أجيال من الحقوقيين والسياسيين في البلاد، وأشاد العالم بهذا الدستور الذي تضمن حوالي 30 فصلاً تنص على جملة من الحقوق.

ولكن في الواقع، تتواصل سياسة القمع والترهيب وكتم الأصوات التي اختارت فضاء فيسبوك الأزرق للنقد والتعبير، وسط خرق للدستور، بحسب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلّم، الذي تحدّث لرصيف22 عن تسجيل بوادر تراجع في مجال الحريات العامة والفردية، رغم الضمانات الدستورية، لافتاً إلى أنّ منظمته كثيراً ما لاحظت انتهاكات جسيمة متعلقة بالحريات.

ووصف مسلّم حملة الاعتقالات التي طالت مجموعة من المدوّنين والناشطين، بالمؤشر الخطير على عودة السلطات إلى مربّع ما قبل الثورة من خلال اعتماد العقوبات السالبة لحرية المدونيين والصحافيين، بهدف تخويفهم وإسكاتهم وجرّهم نحو بيت الطاعة.

مقابل ذلك، يرى النائب وعضو لجنة الحقوق والحريات لسعد الحجلاوي أنّ تونس بعد الثورة أفضل وضعاً مما كانت عليه قبل الثورة في مجال الحريات مقارنةً بمحيطها العربي، بفضل الدستور الذي كتبه برلمانيون من مختلف التوجهات، ويضيف لرصيف22 أنّ ذلك لا يجب أن ينطبق على التدوينات التي تمسّ من المقدّسات.

يربط الباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين بين القمع وفشل الحكومات في تلبية المطالب الشعبية. يقول لرصيف22 إن أصحاب القرار السياسي الذين فشلوا في تحقيق مطالب الثورة المتعلّقة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية يلجأون كلّما مرّت الحكومات بأزمات سياسية، إلى استهداف الناشطين، كنوعٍ من الانتقام منهم على خلفية الضغط الذي يمارسونه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard