شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
اغتراب الأغنية الفلسطينية... تاريخ متفوق وواقع متعثر

اغتراب الأغنية الفلسطينية... تاريخ متفوق وواقع متعثر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 28 يوليو 202001:31 م

لقد جالت الأغنية الفلسطينية في دول عديدة ومناطق كثيرة من العالم، إلا أنها كانت تصل كل محطاتها التي توقفت فيها؛ بثوبها التراثي (يا ظريف الطول، دلعونا) الذي توفقت عنده بين نظيراتها في المنطقة العربية، مهملة بذلك ضرورة التحديث والتجديد والمواكبة العصرية، أو متعثرة في الطريق إلى هذه العناصر!

لكن، كان واضحاُ وجلياً مرور الأغنية الفلسطينية بفترات فتور في العصر الحديث، يمكن تبريرها بجملة من المبررات؛ لعل أبرزها؛ مراحل الثورة والنضال الوطني المستمر للتحرر والانعتاق من الاحتلالات المتوالية، والتي أدت على مر سنواتٍ طوالٍ إلى انحسار الأغنية الفلسطينية بالنمط والطابع الوطني والثوري أو فرضت عليها ذلك (طالعلك يا عدوي، طل سلاحي، ياجماهير الأرض المحتلة).

برغم تفوقها التراثي، مرت الأغنية الفلسطينية بفترات فتور في العصر الحديث ولعل ذلك يعود سببه إلى الانشغال بالثورة والنضال الوطني ضد الاحتلالات المتوالية

وهنا، دخلت الأغنية الفلسطينية في نفس الشباك مرة أخرى، فانطوت على هذا النمط واللون الغنائي، مغفلة القوالب والألوان الغنائية الفنية الأخرى، في وقتٍ كانت دولاً كثيرة قد بدأ فنانوها بغناء التراث الفلسطيني واتخاذ بعض أنواع الغناء الفلسطيني أساساً تبنى عليه أعمالاً غنائية مهمة وحداثية ناجحة ولامعة في وقتها! (يا ظريف الطول فيروز ونصري شمس الدين، على دلعونا وديع الصافي، عالأوف مشعل صباح فخري، سبل عيونه سميرة توفيق).

وربما كان ذلك بحكم التقارب والتداخل الجغرافي والثقافي والحضاري بين فلسطين وهذه الدول كجزء من سوريا الكبرى، التي انتشرت فيها بشكلٍ مباشرٍ الألوان الغنائية الفلسطينية وصارت تُغنى بأصوات أهلها، أو بحكم الانتشار الفلسطيني الذي نتج عن موجات اللجوء والنزوح الفلسطيني في العالم ودول الجوار على وجه التحديد، وتأكيداً على ذلك؛ فإننا يمكننا أن نلمس ونلحظ إسهامات كبيرة ومؤثرة من فنانين فلسطينيين بأسماء كبيرة برزوا في هذه الدول وبثوا إسهاماتهم الفنية فيها بعد أن خروجوا من فلسطين التي كانت المركز والمنطلق الفني الأبرز للفنانين العرب ما قبل النكبة من خلال منصاتها الفنية والإعلامية مثل إذاعة الشرق الأدنى مثلاً.

شاعت الألوان الغنائية الفلسطينية في دول الجوار بحكم أنها جزء من وطن واحد هو سوريا الكبرى، لهذا نرى العديد من الفنانين الذين أغنوا المنطقة بإسهاماتهم بعد خروجهم من فلسطين، مثل الأخوين فليفل وحليم الرومي

(حديثين قصيرين للفنان ملحم بركات عن تصدير الأغنية الفلسطينية إلى لبنان ومنه إلى المنطقة برمتها)







الإسهامات الفنية الفلسطينية في المنطقة العربية

من الفنانين الذين أسهموا في الفن الغنائي في المنطقة العربية، يمكننا أن نذكر الأخوين فليفل اللذين يختلف في تحديد أصولهم ما إن كانت فلسطينية أم لبنانية، وصبري الشريف الذي شهد له منصور الرحباني بفضله العظيم على الموسيقى اللبنانية والنشأة الفنية للأخوين رحباني، وروحي الخماش الذي رفد الموسيقى العراقية بالمزيد من النتاج الموسيقي المتميز، وحليم الرومي، ورياض البندك، وماري عكاوي ولور دكاش ومحمد غازي  وسليم سحاب وإلياس سحاب وعبود عبدالعال، وغيرهم كثر، ذلك ما يترك لنا أثراً واضحاً للدلالة على الحالة الفنية النشطة في فلسطين ما قبل النكبة والتي يطول الحديث عنها وعن تمييزها وتفردها بين قريناتها.

إعادة البناء

لتتمكن من صناعة فن غنائي فلسطيني متكامل ومستقل ومعاصر، يجب أن تكتمل العناصر الثلات: الكلمة، اللحن والصوت، وبسبب غيابها لم نشهد بناء أغنية فلسطينية منافسة في السوق الفنية العربية، إضافة إلى افتقاد الدعم الإنتاجي القوي

وإذ أن الأغنية لا تكتمل دون اكتمال عناصرها الثلاث؛ الكلام واللحن والصوت، فيكون لزاماً حينها على الفلسطينيين أن يبرعوا فيها جميعها على وجهٍ واحدٍ لصناعة فن غنائي فلسطيني ومستقل ومعاصر، فعلى الرغم من النجاحات والإسهامات التي حققها الفلسطينييون في هذه المجالات، كلٌ منها على حدى، -إذ لطالما كانت هنالك أسماء فلسطينية بارزة وناجحة ولامعة في الأوساط الموسيقية واللحنية والغنائية والشعرية أو الشعرية الغنائية العربية أو حتى في حقل الشعر الشعبي الذي يشكل حالةً وسِمةً عامة في حضارة الشعب الفلسطيني، إلا أنه لم يخطر إلا في بال القلة من صناع الأغنية الفلسطينيين؛ بناء أغنية فلسطينية مستقلة تنافس في السوق الفنية العربية، وتكون مدعومة بإنتاج قوي لتصبح مطلوبة ومرغوبة لدى المتلقي بعد ذلك.

وحتى نكون أكثر إنصافاً، فإن هنالك محاولات جيدة وقيّمة ومقدّرة ومتميزة من فنانيين فلسطينيين لصناعة أعمال غنائية فلسطينية بحتة مؤخراً، ساعية لإيجاد هذه الأغنية الفلسطينية المعاصرة التي برغم ضآلتها كانت بمجملها مصاغة على نحوٍ متفوق لربما عن الإنتاج العربي الغنائي من حيث الشكل والقالب والأسلوب، وآتيةً بشكلٍ جديد ومميز للأغنية على المستوى العربي.

ولقد لاقت بعض هذه الأعمال رواجاً وإقبالاً سمعياً لا بأس به؛ ما يعطي حافزاً ودافعاً قوياً لتكثيف الإنتاج الفني الغنائي الفلسطيني ويدعو له ويثبت جدارته ولو على مستوً بسيط في الفترة الراهنة، إلا أن قسم كبير من هذه الأعمال أيضاً ظلت ضمن الإطار النخبوي في استهدافاتها، ذلك مع التأكيد على ضرورة وجود هذا النمط من الأعمال الغنائية طبعاً.

من هذه الأعمال مثلاً: صولو- هيثم الشوملي وتامر نفّار، قولولي ليه-إليانا، مهما صار- محمد عساف، ول هيك-عبدالرحمن القيسي، شهرزاد-تريز سليمان، وردة بنيسان-رنا خوري، مادلين-ربى شمشوم، ايمتا نجوزك يما-Dam، ترللي-الإنس والجام، اسا جاي-فرج سليمان.

وربما لم يلتفت صناع الأغنية الفلسطينيون إلى صياغة توليفة جامعة لهذه العناصر كما كان الحال ما قبل النكبة بما غدا يعرف اليوم بالأغنية التراثية التي ما زالت تثبت أنها كانت بذرة ناضجة وورقة يانعة تنبئ عن نتاج فني غنائيٍ فذ ومتميز، إذ أنها وبشكلها التراثي ما زالت حتى اليوم أغنية مسموعة ورائجة في بعض الأوساط ما حذا بعديد من الفنانيين الفلسطينيين وغيرهم إلى تجديد هذه الأغاني التراثية وتأديته مرة أخرى .

(سناء موسى – وعيونها، دلال أبو آمنة – يا ستي، نتالي سمعان ولؤي أحمرو – Palestinian Mashup )

وصايا وخيارات

يقع الفنان الفلسطيني اليوم في مشكلة التخيير في الشكل التأطيري أو الهيكلي للأغنية لدى محاولته صناعة أغنية فلسطينية بحتة، هذا التخيير هو ما بين المستمد من الموروث الفني الفلسطيني؛ والذي سينتج أغنية مكررة وغير حداثية، أو صياغة أغنية فلسطينية حديثة يكون شكلها مشابهاً للأغنيات العربية الأخرى المألوفة

والسبب في ذلك يعود على ما يبدو إلى الفجوة الأرشيفية العميقة في الإنتاج الفني الفلسطيني، ففي تقديري أن الفنان الفلسطيني يقع اليوم في مشكلة التخيير في الشكل التأطيري أو الهيكلي للأغنية لدى محاولته صناعة أغنية فلسطينية بحتة، هذا التخيير هو ما يقع بين المستمد من الموروث الفني الفلسطيني؛ والذي سينتج أغنية مكررة عن الأغاني التراثية بعيداً عن الحداثة والتجديد، أو صياغة أغنية فلسطينية حديثة يكون شكلها مشابهاً للأغنيات العربية الأخرى المألوفة، وبالتالي فلن تلقى رواجاً أكبر بطبيعة الأمر من رواج الأغنيات المشابهة لها من اللهجات الأخرى الرائجة فنياً والمرغوبة أصلاً أكثر من الأغنيات الفلسطينية المعاصرة، أو أنها بحاجة إلى جهد مضاعف لإيصالها إلى المستمع عن الجهد الذي يمكن بذله تجاه الأغاني باللهجات الأخرى الرائجة.

أما الخيار الثالث فهو أن المسؤولية ستقع على كاهل الفنان للخروج والإتيان بشكلٍ وأسلوب جديد للأغنية الفلسطينية الحديثة والثبات عليه بإنتاج غزير، وفي ذلك مخاطرة كبرى للفنان الذي يفكر ويسعى إلى تحقيق نجاح ذاتي بشكلٍ أناني محمود بعض الشيء خشية من الفشل والسقوط. وفي الوقت ذاته؛ تكمن أسباب ثبات ورسوخ الأغنية بتصوري وبشكلٍ عام؛ في زخامة الإنتاج وتنوعه وتنوع صانعيه، وتزاحم الفنانين أو المؤديين لهذه الأعمال أو الإنتاجات.

ولدينا في هذا الصدد نماذج ناجحة سارت على هذا النهج؛ فمثلاً؛ في ذروة النهضة الفنية في لبنان منتصف القرن الماضي، تنوعت الأشكال والقوالب الغنائية التي تم طرقها والخوض والتجربة فيها، فنجد فنانيين مثل نصري شمس الذي ظل مواظباً على "الغناء الجبلي" بينما نجد آخر مثل الفنان زكي ناصيف؛ سلك النهج الرومانسي بانتاجه للأغنيات الخفيفة بأسلوب "السهل الممتنع"، كما يتبدى لنا اللون الرومانسي القوي والصارخ في أعمال الفنان ملحم بركات والفنان مروان محفوظ، والمونولج في أغنيات فيلمون وهبي وجوزيف صقر، كذلك السيدة فيروز في خطها الفني والسيدة صباح ونور الهدى وسلوى قطريب ونجاح سلام، وغيرهم الكثير من الفنانيين والفنانات ممن برعوا في تأدية وصناعة نماذج غنائية خاصة بهم.

كل هؤلاء الفنانيين استمروا بانتاج أعمالهم بنفس الأسلوب والنهج حتى ثبتت كلونٍ غنائيٍ له مكانته على اختلافها واختلاف شكله مأسسين ومؤلفين بذلك فناً غنائياً وموسيقياً لبنانياً ناضجاً ومتكامل.

(وديع الصافي- ع الله تعود، زكي ناصيف- يا عاشقة الورد، ملحم بركات- تعا ننسى، مروان محفوظ- خايف كون عشقتك، نور الهدى- يا جارة الوادي)

وما عزز وجود هذه الألوان والقوالب الغنائية هو الاستمرارية في انتاجها والتطوير عليها من خلال الأجيال اللاحقة، فنجد من بعدهم مثلاً الفنانيين سمير يزبك ومحمد جمال وعصام رجي وعزار حبيب وطوني حنا وسميرة توفيق وماجدة الرومي وطروب وهدى حداد.

وهكذا فيما بعد هذه الأجيال من أجيال فنية ظلوا مستمرين بإنتاج الأعمال الفنية الغنائية في نفس السياقات مع التطوير عليها حتى غدت الأغنية اللبنانية اليوم ثابتة وراسخة  في الوسط الفني العربي.

كذلك الأمر طبعاً في كلٍ من مصر والعراق والخليج العربي، وحتى المغرب العربي الذي يتفرد بنمطٍ وأسلوبٍ فني خاصٍ وواضح يمكن أن يتباين فيما بين دول المغرب العربي كما تتباين أشكال وأنماط الفنون الغنائية في دول الخليج العربي.

بانوراما اليوم

اليوم، توالت السنوات والفترات في الحالة الفنية الفلسطينية، ومع وصولنا للألفية الثالثة بدأت تطفو على السطح العربي أسماء وأصوات غنائية فلسطينية مهمة وناجحة ولامعة تنطلق باسم فلسطين لتشارك في المسابقات الغنائية والمهرجانات والاحتفالات العربية الكبرى، وتحصد نجاحاً وقبولاً وجماهيرية كبيرة، ومما لا شك فيه أن الثورة الاتصالية أسهمت بشكلٍ فاعلٍ في ذلك. وهذا ما يجب أن يشكل حافزاً قوياً لحصد وتجميع النتاج الشعري أو الشعري الغنائي الفلسطيني مع اللحن الفلسطيني ليقدم بصوت غنائيٍ فلسطيني.

برغم بروز أصوات غنائية فلسطينية لامعة تنطلق باسم فلسطين لتشارك في المسابقات الغنائية والمهرجانات العربية، وتحصد نجاحاً وجماهيرية أسهمت الثورة الاتصالية بشكل فاعل بتحقيقها، إلا أننا زلنا نسمع الفنانيين الفلسطينيين محصورين بتيار الأغاني المصنوعة بلهجاتٍ وموسيقى عربية أخرى مثل اللبنانية والمصرية والعراقية والخليجية

إلا أن ذلك وللأسف، لم يستغل كما يجب حتى اليوم، إذ ما زلنا نرى ونسمع الفنانيين الفلسطينيين محصورين في مسير مع التيار بأغانٍ مصنوعةٍ بلهجاتٍ وموسيقى عربية أخرى مثل اللبنانية والمصرية والعراقية والخليجية وحتى المغاربية بعيداً عن اللهجة الفلسطينية والموسيقى الفلسطينية، وهذا ما قد يبدو مبرراً  من ناحية ما بألا يكون الوجود الفني الفلسطيني فجاً وثقيلاً عندما يظهر على الساحة بشكل مفاجئ ودفعة واحدة، وبنفس الوقت فإننا نرغب كمتلقين بالاستماع إلى أغانٍ خاصة بفنانين فلسطينيين مصنوعة بلهجاتٍ عربية إلا أننا نأمل كذلك بصناعة ووجود أغنية فلسطينية قوية ومنافسة في المقابل!

ضرورة مُلحّة

خلاصةً ونهايةً؛ فلقد قٌدّر وكان لنا أن نخسر قاماتٍ فنية كبرى لدى تهجيرها ولجوئها أو نزوحها من فلسطين، ما أدى بالنتيجة إلى نزوح إبداعاتها ونتاجها الفني واغترابه شيئاً فشيئاً عن فلسطين وإصدار شهادات ميلاد وهويات أخرى له، لكننا من المفترض أننا استعدنا قدرتنا الكاملة اليوم على إثبات هويتنا الفنية الفلسطينية وتكريسها فنياً سواءً في الداخل أو في الخارج، كذلك قدرتنا على إنتاج أعمال فنية غنائية فلسطينية حديثة يكون لها دورها الفاعل في لفت الأسماع لها بتفوقٍ وامتياز، ما يعني أنه آن للأغنية الفلسطينية أن تعود إلى بيتها الفلسطيني الزاخر بالأنواع والقوالب الفنية التي شهد بتصديرها واستفادة المنطقة منها، فنانون كبار مثل الفنان محلم بركات والفنان منصور الرحباني  والفنان زكي ناصيف وغيرهم.

(حديث قصير للفنان ملحم بركات عن تصدير الأغنية الفلسطينية إلى المنطقة)


وهنا تقع المسؤولية على الفنانيين وصناع الأغنية الفلسطينيين من أصحاب الأسماء اللامعة في الوسط الفني العربي، بالإلتفات إلى هذه القضية والبدء بترصيع إنتاجهم الفني بغزارة بأعمال غنائية فلسطينية بألوان مختلفة، وتكثيف هذا النشاط شيئاً فشيئاً، حتى نصل إلى مرحلة الثبات ورسوخ الأغنية الفلسطينية التي تشكل حلقة مهمة من حلقات الحضارة والوجود الفلسطيني اليوم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard