شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"أوصي بحرق جثماني"... عن كتابة وصيتي غير الإسلامية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 8 يوليو 202004:48 م
Read in English:

Writing My Un-Islamic Will... I Wish to Be Cremated!

انهمر المطر غزيراً صباح ذلك اليوم من شهر أيار/ مايو من العام الماضي، سرت بخطى متردّدة نحو مكتب المحاماة في أوكلاند، قمت بتحية "جوي"، موظفة الاستقبال والمساعِدة القانونية، ثم اتخذت مقعداً بانتظار أن يقوم المحامي بالتصديق على توقيع وصيتي. تسلّل صوته إليّ وهو يحدّث إحدى موكلاته بالفرنسية، اللغة التي كنت قد درستها قبل سنوات طويلة في المركز الثقافي الفرنسي في بغداد، ولم يعد بوسعي التحاور بها بطلاقة لقلة الممارسة. تساءلت مع نفسي عما حلّ بأساتذتنا في المركز ... اللعنة! كم أمقت أن أفكاري تتآمر في كل مرة على إعادتي الى العراق.

على مبعدة خطوات قليلة فقط، كان رأسي يضجّ بصخب الشكوك: أية حماقة تقدم عليها؟ عمرك خمسون عاماً فقط، رفاقك يبدؤون فصولاً جديدة في الحياة وأنت تخطّط لموتك؟ سارعت الى الإمساك بمقبض الباب كي أسلب نفسي آخر فرصة للتراجع، مضى أوان العودة: "ألستُ محظوظاً أن جوي (تعني البهجة بالإنكليزية) قامت بإعداد مسودّة وصيتي؟"، قلت لجوي محاولاً إخفاء اضطرابي، فابتسمت.

هل تجوب الأرواح الكون مجاناً؟

عزمت على التحرّر من كل وشيجة تربطني بمكان، ونبذ ما حشوا رؤوسنا به طيلة سنوات دراستنا، من شعارات الذود عن الوطن وبذل الروح والدماء دفاعاً عن "الأرض". 

استمر فوران الأسئلة في ذهني: ألا ترى عبث ما تفعله؟ صديق طفولتي كان قد ابتاع قطعة أرض في المقبرة الجديدة في ضواحي بغداد، فالمدافن القديمة بجوار الأضرحة الإسلامية الشهيرة في العاصمة بلغت طاقتها الاستيعابية القصوى منذ سنوات، ولم يعد بوسعها استقبال المزيد من الجثامين. استعان صديقي ببستاني كي يتولى زراعة أزهار وبضعة أشجار في القطعة، لكنه تعرّض للاختطاف بعد شهور قليلة، ونجا من القتل بأعجوبة، ثم حزم حقائبه سريعاً وغادر العراق عام 2005 الى تورنتو الكندية، حيث يعيش مع أسرته اليوم.

تنتابني الحيرة كلما بلغني نبأ وفاة والد أو والدة أو جد أو جدة أحد الأصدقاء في دول المهجر البعيدة، كالولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا أو نيوزلندا، وسماعي عن تكبّد أسرهم عناء شحن جثثهم عن طريق الـDHL مقابل مبالغ باهظة كي توارى الثرى في العراق، ما الداعي لذلك إن كانوا يؤمنون حقاً بالحياة بعد الممات؟ أوليس بوسع الأرواح أن تجوب الكون مجاناً، وتزور الأماكن التي تود زيارتها؟

بيتي! بيتي! بيتي! ... استرجعت هذيان خالتي قبل وفاتها بسبب مرض الزهايمر في الأردن.

عقلها المنهك سكنته صور منزلها في بغداد خلال أيامها الأخيرة، تمنيت ألا ينتهي بي الحال مثلها، وعزمت على التحرّر من كل وشيجة تربطني بمكان، ونبذ ما حشوا رؤوسنا به طيلة سنوات دراستنا، من شعارات الذود عن الوطن وبذل الروح والدماء دفاعاً عن "الأرض". تبلورت لديّ قناعة أن لا أرض أكثر قدسية من الحياة، ولا أرض تستحق الموت من أجلها، لا بغداد ولا مكة ولا القدس ولا أية مدينة، وبدأت في تأمل ما كنت أعده حتى ذلك الحين ضرباً من المستحيل: التوصية بحرق جسدي بعد الوفاة.

ماذا يحل بالراحلين؟

الفكرة بدت مرعبة لأول وهلة، وسببت لي قدراً كبيراً من الاضطراب: ماذا لو أن شعورنا بالألم يستمر بعد مماتنا؟ ما موجب أن أجر على نفسي العذاب بعد رحيلي عن هذه الدنيا؟ سرعان ما استدعت الأسئلة المزعجة أسئلة مضادة: هل تظن أن الحال سيكون أفضل عندما يفترس الدود جسدك ببطء؟ العائق الرئيسي أمام تنفيذ الخطة وقتها كان أني مسلم، وحرق الجثامين محرّم في الإسلام ... هل تريد أن تحل عليك لعنة أبدية وغضب من الله؟

لطالما كانت لي تحفظات على النصوص والتعاليم، لكن لم يكن بوسعي تخيّل حياتي دون حضور الدين فيها. إيماني كان يشعرني براحة في أوقات المحن، ويعينني على تفسير ما لا يمكن تفسيره، خصوصاً في بلد كالعراق، يموت الأبرياء فيه كل يوم بسبب تعاقب الحروب وتفشي العنف بشتى أشكاله. أين يذهب الراحلون؟ ماذا يحل بأحلامهم وأمانيهم وقصص حبهم؟ ما كنت لأستطيع الحفاظ على توازني خلال انتقالي للعيش في نيوزلندا، وكل التحديات التي تضمنتها الرحلة، لولا وجود وسادة الدين الوثيرة كي أريح عليها ظهري المتعب في نهاية كل يوم. استمر الوضع كذلك حتى وفاة والدي خلال احدى سفراتي الى الأردن.

في العراق، يموت الأبرياء كل يوم بسبب تعاقب الحروب وتفشي العنف بشتى أشكاله. أين يذهب الراحلون؟ ماذا يحل بأحلامهم وأمانيهم وقصص حبهم؟

فجأة، لم تعد الوسادة وثيرة، ولا حتى مريحة!

كان يجب إنجاز كل شيء بسرعة، لم نتمكّن أنا وشقيقي من حضور الدفن، فتكفّل أصدقاء أسرتنا بالقيام بمراسيمه المعقّدة نيابة عنا. أحسست بعجز عظيم وعانيت من شعور مدمّر بالذنب وبخذلان من أحببت، لم يكن بوسعي أن أسامح نفسي. بعد فترة قصيرة من عودتي الى أوكلاند، أصبت بانهيار وأُدخلت المستشفى، عندما رجعت الى البيت، قمت بفتح حساب على تويتر باسم مُموّه كي أعبر من خلاله عن حالتي الايمانية الجديدة: صرتُ "لا أدرياً".

استغرق الأمر سنوات خمس أخرى كي استجمع قواي وأحمل نفسي على كتابة وصية، فبالرغم من تحرّري من سطوة تعاليم الدين وقواعده، تحتّم عليّ مراعاة أن من سيقوم بتنفيذ الوصية من أفراد أسرتي ما زالوا مسلمين، وأن عليّ إعلامهم بقراري أولاً، فحرق الجثمان لم يكن طلبي المارق الوحيد.

أدرك جيداً أن لا مسلم ملتزم دينياً سيرضى بالمشاركة في عملية الحرق أو التحضيرات التي تسبقها، فقرّرت لذلك أن أوفّر على أهلي عناء السؤال والإحراج، أوصيت أن يظلوا بعيدين عن جسدي بعد الوفاة، وألا يبلغوا أحداً من الجالية العراقية بالأمر، وأن يتم الاتصال بأحد مكاتب خدمات الجنائز، وهي كثيرة هنا، كي يتولى إنجاز المهمة بأكملها بلا طقوس دينية أو صلاة، على أن يتكفّل المكتب كذلك بذرّ الرماد على أي مسطح مائي.

الموت بأسهل الطرق

طلبت أيضاً من أفراد عائلتي أن يستمروا بعيش حياتهم المعتادة وارتداء ملابسهم المعتادة، وألا يقيموا مجلس عزاء أو يلتزموا الحداد: "الموت محطة حتمية في الرحلة، وسيسعدني أن أبلغها بسلام عندما يحين الوقت". تأكّدت من أن جوي قد أضافت السطر الأخير قبل أن أمضي في توقيع الوثيقة. ارتعش القلم في يدي قليلاً، فأحكمت قبضة أصابعي عليه. بعد مضي دقائق معدودة، كنت أسير في الشارع، حاملاً وصيتي داخل ظرف أبيض.

كلما سمعت عن معاناة أسر ضحايا الفيروس في شتى أنحاء العالم، وتعذّر قيامهم بإجراءات الدفن وتنظيم جنازات مستوفية لشروط الأعراف والتقاليد في ظل الإغلاق التام، وحظر التجوّل، ازددت قناعة أني، عندما يحين الأجل، سأكون قد جعلت موتي أسهل للجميع

ما كنت لأدوّن تجربتي تلك لولا اندلاع جائحة كوفيد 19 قبل شهور قليلة، وأعلم جيداً أن القرار شخصي بحت، سواء أراد الشخص المعني أن يتم دفن جثمانه أو حرقه، ذلك أمر يرجع له وحده. ليست هناك اختيارات صائبة وأخرى خاطئة، لكنني كلما سمعت عن معاناة أسر ضحايا الفيروس في شتى أنحاء العالم، وتعذّر قيامهم بإجراءات الدفن وتنظيم جنازات مستوفية لشروط الأعراف والتقاليد في ظل الإغلاق التام، وأحياناً حظر التجوّل أيضاً، ازددت قناعة أني، عندما يحين الأجل، سأكون قد جعلت الحياة/ الموت أسهل للجميع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard