شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
شكراً

شكراً "مايكل" لأنك أنقذتني من الكراهية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 27 مايو 202007:05 م

كانت سنوات دراستي الجامعية بداية فعلية لخروج أفكاري من نفق طويل معتم إلى النور، تاركة خلفي معتقل الأعراف إلى مسرح الحرية، ليس من أجل شيء إلا نفسي، تلك التي تبحث في كل متنفس عن نصف قطرة من الفكر تأخذها إلى الحياة.

هناك في جامعة المنيا، إحدى الجامعات المصرية، كنت أدرس الإعلام، لم أكن كالطالبات اللاتي ينشغلن بالمساحيق والحديث عن صيحات الموضة، بل كنت أجد شخصيتي بين الكتب، داخل أرفف المكتبات وعند أكشاك الصحافة، أهتم دائماً بزملائي الذين يقرؤون وأصحاب الإبداعات الأدبية والفكرية، ومن طبيعة التعامل بين الطلاب كان زميلي "مايكل" يحرص دائماً على استعارة أجندتي الدراسية.

التقى "مايكل" بي في أحاديث كثيرة، جميعها تتمحور حول الأديان حيث ينتقدها ويستعرض التناقض بينها، ويبحث ويذاكر ويناقش ويحاول دائماً أن يفهم، لكنه قوبل بالرفض من زملائه، فمنهم من كان ينعته بالكافر الملحد، ومنهم من كان يشتمه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم من كان يرفضه ويرفض حديثه ونقاشه، وقد وصل الأمر به إلى حد تهديده بالقتل.

اعتبرته أسرته وصمة عار على العائلة، حتى الفتاة التي أحبها تركته، وكان يبيت كل مساء باكياً بسبب الشتائم والسخرية التي يتعرض لها طوال يومه الدراسي، فما كان منه إلا أن انتقل للعيش في بيت جدته بعيداً عن إخوته ووالديه، ثم امتنع عن الذهاب للجامعة وأصبحت لا أراه إلا أياماً معدودة.

ظنت أسرة مايكل أنه مصاب بالسحر والمس من الجن، فجلبوا له العرافين والكهنة لعلاجه فأشعرهم بالفشل، إذ كان يناقشهم في أمور الدين حتى يعجزون عن الرد عليه، ولم يتمكنوا من إيجاد أجوبة لتساؤلاته التي لا تنتهي.

اعتبرته أسرة "مايكل" أنه وصمة عار، حتى الفتاة التي أحبها تركته، وكان يبيت كل مساء باكياً بسبب الشتائم والسخرية التي يتعرض لها طوال يومه الدراسي، فما كان منه إلا أن انتقل للعيش في بيت جدته بعيداً عن إخوته ووالديه، ثم امتنع عن الذهاب للجامعة وأصبحت لا أراه إلا أياماً معدودة

كل ما يهتم به هو أن يكتب تدوينات يومية عبر حسابه الشخصي في موقع فيسبوك، ينتقد فيه رجال الدين، ويتحدث عن احتكار رجال الدين للنصوص الدينية وعدم السماح لأي شخص عادي أن يقترب من تفسير هذه النصوص، غير أنه لم يحدد أي رجال دين ينتقد! هل يقصد رجال الدين المسيحيين، المسلمين أم اليهود؟

وفي كل مرة كان يتعرض لهجوم شرس من متابعيه وسباب لا ينقطع، لكن تأثره بالفلسفة جعلته يصيغ أفكاره المدونة في منشورات فيسبوكية بطريقة تقترب من سرد الفلاسفة، ما أبعد فهم ما يكتبه عن أنصاف المتعلمين هؤلاء، غير أن السباب لا ينقطع ورفضه في المجتمع يتجدد، ما جعله يفكر في الانتحار وكان الطريق إلى الموت هو النهاية التي توصل إليها بعد معاناة من رافضيه.

لاحظت كثيراً ما كان يتعرض له "مايكل"، رغم أنه شخص مسالم ولا يعادي أحداً، ولم أسمعه ذات مرة يتلفظ بكلمة إباحية أو يسخر من غيره، ربما كل ما كان يشغله هو أن ينشر الفكر، أن يجعل من حوله يفكرون فيما يعتقدون ولماذا يعتقدون بذلك؟

انتهت دراستي الجامعية واتجهت إلى مسرح العمل في بلاط صاحبة الجلالة، حيث المغامرات في مهنة البحث عن المتاعب، وهناك كان اللقاء أوسع بأشخاص مختلفين في كل الأحوال، وقد مهد لي ذلك أن أعيد إصلاح نفسي لتقبل كل المختلفين معي والمختلفين عني، ربما كان تقبلي لاختلاف زميلي "مايكل" من منطلق احترام الزمالة وتقديساً لقيمة الحرم الجامعي الذي نلتقي في واحته، لكني قبل ذلك كنت في الحقيقة أرفض التعامل مع من يختلفون بل وأبتعد عنهم وأصل لحد السخرية منهم.

كان ينقصني السماحة النفسية وتمكين مبدأ تقبّل الغير داخل روحي، حتى أقبل الجميع، أقبلهم كما هم وكيفما كانوا، حتى التقيت بشاب أحببته، في الوقت الذي كان لديّ فيه رغبة بالتغيير والإصلاح الداخلي، فساعدني على الخروج من كبوة رفض الآخرين.

أدركت إنني كنت شخصاً يحتاج لإعادة تأهيل فكرية، كنت بالفعل بحاجة ملحة لمن يخرجني من هذا المعتقل المظلم، لأرى نور الإنسانية واشتم رائحة الحياة النقية الخالية من التشدد والتعصب والعنصرية، فعدم قبول الآخرين كانت تلك أول محطة في قطار التطرف ومن ثم الإرهاب

إنني مدينة له بالفضل، فبعدما كنت أشعر بالانتصار والفوز حينما أقوم بالسخرية من شخص لمجرد أنه يختلف معي في الفكر، إلى أنني لا أحترم هذا التصرف اليوم وأنبذه، فأصبحت لا أمانع من التعامل مع الجميع بدون رفضهم، فلا فارق عندي بين متدين وملحد، أو بين مسيحي أو مسلم... لا يهمني إلا أنه إنسان.

أدركت إنني كنت شخصاً يحتاج لإعادة تأهيل فكرية، كنت بالفعل بحاجة ملحة لمن يخرجني من هذا المعتقل المظلم، لأرى نور الإنسانية واشتم رائحة الحياة النقية الخالية من التشدد والتعصب والعنصرية، فعدم قبول الآخرين كانت تلك أول محطة في قطار التطرف ومن ثم الإرهاب.

ولولا أنني قفزت من قطار الكراهية لأصبحت الآن أمّاً سيئة، تربى على يدها جيلاً من المتشددين والرافضين للآخرين، جيلاً يبثّ أفكاراً داعشية لمن حوله... لكنني أشكر نفسي التي سمحت لذاتها أن ترى النور، وأشكر "مايكل" أنه أنقذني من نفسي، وأشكر ذلك الرجل الذي أحبني بصدق، فأصلحني وساعدني على إصلاحي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard