شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في بلدنا سوريا... ناشط وراقص وحبّة بنادول

في بلدنا سوريا... ناشط وراقص وحبّة بنادول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 8 مايو 202002:07 م

شهد العالم في ثمانينات القرن المنصرم انتشار وباء الإيدز، شاع وقتها أن الوباء انتشر بين المثليّين بداية، وفيما انفضّ الناس عن الاختلاط بالمصابين، سعى ناشطون، اشتهروا بأنهم من أصحاب العقول المنفتحة، لإثبات ألّا خطر في الاحتكاك معهم، ظهر ذلك من خلال مشاركتهم لمجموعة من المصابين في مطعم باريسي فاخر، كان من بين هؤلاء نائب برلماني ومثقف.

في ذروة تلك الاحتفالية، حرص النائب البرلماني أمام الكاميرا على طبع قبلةٍ على فم أحد المصابين، في الوقت ذاته شعر المثقف أنه خسر جولة أمام النائب، واستبعد من تفكيره بعد لحظات من التردّد فكرة تقليده، كي لا ينحط إلى مقلّد وتابع، وفي نشرة الأخبار المصوّرة، حازت لقطة التقبيل تلك على شهرة واسعة، بينما قرأت فرنسا بكاملها على وجه المثقف علائم الارتباك، بعد ذلك سافر المثقف إلى إفريقيا ليعود بلقطة إلى جوار صبية صغيرة تحتضر والذباب يكتسح وجهها، سوف تغدو تلك الصورة أكثر شهرة من صورة النائب وهو يقبّل شفاه مصاب بالإيدز.

من المعضلات التي أفرزتها الثورة، ظاهرة جديدة لنشطاء أو راقصين مخضرمين في ميدان المعارضة التقليدية، تحولوا إلى شتّامين وشامتين لكل ما جرى في ساحة المذبح السوري.

لم يستسلم النائب لتلك المنافسة مع المثقف، فما لبث أن دعاه لإشعال شمعة في تظاهرة كبيرة في باريس دعماً لأطفال بلده في الأحياء الفقيرة، مستغلّاً معرفته بإلحاد صديقه المثقف، ولأن الأخير أراد الإفلات من هذا الكمين المُحكم، الذي إن حضره فسيكون مثل طفل في جوقة النائب، وإن تغيّب فسيتعرّض للاستنكار، طار من فوره نحو بلد آسيوي يشهد ثورة شعبيّة ليصرخ من هناك معلناً دعمه للمضطهدين، وبذلك حصل على لقب "أمير الراقصين" من قبل بونتوفان، وهذا هو من ابتكر تسمية "راقص" على كل مشتغل في السياسة وما حولها.

ناشط ومهتمّ

في بلدنا سوريا، قبل الثورة، كان المعارضون للنظام يفضّلون استخدام مصطلح "مهتمّ بالشأن العام" تمويهاً على التعريف "ناشط سياسي أو حقوقي"، ذلك لأن لفظة "ناشط" لوحدها، حتى دون تعريفها بإضافة ما، تهمة كافية لإلحاق الأذى بهذا الناشط أو سواه، من قبل الأجهزة الأمنية وأدواتها، ومثاراً للريبة على الأقل لدى العموم في المجتمع السوري، ولكن بعد انطلاق الثورة في آذار/ مارس 2011، غدت كلمة ناشط ضمن المصطلحات المتداوَلة بين جمهور معارضي نظام الأسد، أُضيف إليها توصيفات جديدة كمثل: ناشط إغاثي أو إنساني أو غيرهما.

بونتوفان، مُبتكر نظرية الراقصين الذين يتعاطون السياسة، والسياسيين الذين يرقصونها بوجه ما، لا يغفل التنويه إلى وجوب عدم الخلط بينهما، فالراقص يصبو إلى المجد وليس السلطة التي هي مبتغى السياسي.

بحسب بونتوفان، فإن الصراع الذي يدور بين السياسي والراقص يرجّح أن الثاني أكثر شجاعة ونزاهة وإخلاصاً واستعداداً للتضحية، ويسعى جاهداً لتدبير كلّ الفرص التي تجعله ينال من أخلاقية السياسي، لأنه يجيد تماماً لعبة "الجيد والأخلاقي" في إحراج الخصم والنيل منه، الراقص يحرص على الدوام أن يكون تحت الأضواء مباشرة ومُنعَكساً لها، هو يوقن أن الأضواء تحميه، وله معجبون مجهولون أو معلومون، يصفقون لآرائه ومواقفه ويتحمّسون لها، وإن بكل بلاهة.

لا يهاجم بونتوفان الراقصين، بل يدافع عنهم بالرغم من تقزّزه، ويشرح ذلك بقطعة بديعة:

"من يسعى إلى تحقيرهم سوف يصطدم دوماً بعقبة لا تقهر، أي بنزاهتهم، لأن الظهور الدائم للراقص يكمن في هاجسه أن يرى حياته الخاصة تحفة فنية، هو لا يعلّم الأخلاق، بل يرقصها، يسعى إلى إثارة العالم وإبهاره بجمال حياته، إنه عاشق حياته، مثلما يمكن لنحّات أن يعشق منحوتته وهو منهمك بتشكيلها".

النائب البرلماني، المثقف وبونتوفان، هم بضع شخصيات وردت في رواية "البطء" للروائي ميلان كونديرا، اقتبست منها فقط فكرة الرقص في السياسة.

قبل الثورة لم تُتَداوَل لفظة ناشط على نطاق واسع، لما كانت تحمله من رعب وخوف، وحتى بعد موت حافظ الأسد سنة 2000، عندما ابتهجنا قليلاً لربيع دمشق القصير، كانت الكلمة كما لو أنها نشرة سرية تطوى ملفوفة تحت إبط مثقف، لكنها بعيد الثورة، أضحت مرتعاً للراقصين من كل حدب وصوب

موالاة... ومعارضة راقصة

النشطاء السياسيون الموالون للنظام تختزلهم كلمتَي الصفاقة والتهريج، لا يمكن بأي حال سوى تشبيههم بحلقات الدبكة التي تختلج على إيقاع متواتر من البراميل المتفجرة وصرخات التعذيب وشهقات الموت، من الصعب إحاطتهم بدراسة أو بحث جدي، هم يقبعون في ما دون النقد، أو ما قبل المنطق، دبكاتهم الجماعية، كما الفردية، تشير بوضوح إلى استمراء العبودية، طقوسهم قربانية الطابع لصالح المذلّة التي أدمنوها من كثرة التعاطي، يزدريهم الجميع فيشعرون بالابتهاج، يزيدهم الطبّال حماسة مع كل "دمّ أو تكْ"، ينحصر اجتهادهم بما يمليه النص الاستبدادي، يتماهون بالمتسلّط قبل التسبيح بحمده وبعده، يسكنون في عين المؤامرة الكونية عليهم، مستَلبون إلى الحدود القصوى للاستلاب، يتنافسون على التهريج في القنوات التلفزيونية وغيرها، ضحايا بلا أي حول أو قوّة سوى "للتطبيل والتزمير"، ضحايا بملء إرادتهم المبسترة.

في الكفة المقابلة للموالين، تحول، مع طول فترة المأساة السورية، بعض ناشطي المعارضة إلى ما يُشبه الاستلاب للثورة، تخلّوا عن الأمل لصالح فكرة كونهم ضحايا الثورة، ناظَروا الموالين في التنافس على أي المظلوميتين أكبر، تضخمت أحلامهم بمعجزة ما، يكمنون في قاع الهزيمة وسطحها، أو في مكان مشوّش المعالم.

بلا شك، تتحمل المعارضة السياسية مسؤولية نسبية من الفشل السياسي، تكاد لا تقاس مقارنة بحرق الأخضر واليابس كما فعل النظام، يُختَلف على هذه النسبة بحسب موقع النقد أو زاوية الرؤية، ولكنها بمحاولة للموضوعية، أقرب إلى ردة الفعل التي قلما امتلكت زمام المبادرة في شيء سوى في التأريخ للمرحلة الطويلة الأمد من جميع أنواع القهر الذي يمكن أن يتكبّده شعب ما، شعب ضاعت حتى ملامح جغرافيته، وتاريخه متضارب التأويل.

أوّل الرقص حَنْجَلة

قبل الثورة لم تُتَداوَل لفظة ناشط على نطاق واسع، لما كانت تحمله من رعب وخوف، وحتى بعد موت حافظ الأسد سنة 2000، عندما ابتهجنا قليلاً لربيع دمشق القصير، كانت الكلمة كما لو أنها نشرة سرية تطوى ملفوفة تحت إبط مثقف، لكنها بعيد الثورة، أضحت مرتعاً للراقصين من كل حدب وصوب، وغير تأثيرات همجية النظام في الداخل على مصداقية الكلمة ووزنها، فهي ابتُذلت أيضاً خارج سوريا لما ركبها من أمواج الراقصين، بل وحتى بين نشطاء حقيقيين، جرت بينهم موجات رقص متتالية، عمّقت حدة التنافس فالانقسامات، ومع ذلك، فتوصيف المعارضة السورية بالراقصة ليس حكم قيمة بمقدار ما هو توصيف لمعظم أدائها، الذي كان أحد العوامل في الخسارة المؤلمة للثورة. في الخارج ابتدأ أول الرقص، تنطّع له راقصون متربّصون دون أي تأهيل يذكر سوى أنهم مناوئون تقليديون للنظام الأسدي، أو حتى غير تقليديين ولا معارضين، رقصوا بابتهاج لفرجة الأمل التي لاحت للتغيير، ولكن...كان أول الرقص حنْجَلة.

ناشط صمَدْ، ناشط هرَبْ

قبل أن تولد ثنائية داخل/خارج، انطلقت الثورة في نقاط بعيدة عن المعارضة التقليدية، هذه المعارضة لم تكن ترى بالعين المجرّدة بالنسبة لجمهور السوريين، بالرغم من أنها تحمل فضلاً كبيراً في إيضاحٍ نسبي لما جرى سابقاً من عسف النظام وهمجيّته، من خلال التدوين المُتَحايل لبعض ما حدث في عقود أدبرت من العسف العام، أو المداولات الشفاهية لناجين من معتقلات الأسدية. النظام الذي اهتزّ للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، لاحق بكل الوسائل النشطاء التقليديين، المحتملين حتى، وهؤلاء بدورهم اجتذبتهم بؤرة المعارضة في الخارج تدريجياً، ومن استطاع منهم الصمود والبقاء في رمال الداخل المتحركة التي ابتلعت كثيرين منهم، تحول بانجراف السيل إلى مجرد يائس في انتظار معجزة لم تتحقق، قبل أن يُعتقل أو يُقتل أو يُختطف.

النشطاء في الخارج، أصيلون ووافدون، تقاتلوا بشراسة على اقتسام الكعكة التي لم تنضج قط، بل لم يبق متسع في ميدان المعركة لناجين جدد من المحرقة، ثم انحسرت المعارك على تقوقع جلهم على الفردانية واليأس، توقفت المعرفة لديهم عند اليقين بما لا يريدون، وبضع محاولات يائسة وبائسة لما يريدون أو يحلمون بالفعل.

من السهل وسْم النشطاء بالغرق في مستنقع الفردانية، واتهامهم بالّلا معرفة ببديهيات العمل الجماعي، حتى التقليدي منه، دون تجديد يساير روح العصر المتسارع، ولكن من الصعب تقديم حلول لهذه المعضلة سوى بالمزيد من التفسيرات... الراقصة ربما.

النشطاء في الخارج، أصيلون ووافدون، تقاتلوا بشراسة على اقتسام الكعكة التي لم تنضج قط، بل لم يبق متسع في ميدان المعركة لناجين جدد من المحرقة، ثم انحسرت المعارك على تقوقع جلهم على الفردانية واليأس، توقفت المعرفة لديهم عند اليقين بما لا يريدون، وبضع محاولات يائسة وبائسة لما يريدون أو يحلمون بالفعل

راقصو الشماتة والشتيمة

من المعضلات التي أفرزتها الثورة، ظاهرة جديدة لنشطاء أو راقصين مخضرمين في ميدان المعارضة التقليدية، تحولوا إلى شتّامين وشامتين لكل ما جرى في ساحة المذبح السوري، توقفوا عند صوابيتهم لرؤياهم، تقوقع كل منهم في أيديولجيته، مبشّراً ومنظّراً لرسالته الخالدة، لم يعدموا اقتناص الفرصة تلو الأخرى للنيل من "أعدائهم"، أصدقاء الأمس، علِقوا في أوحال الاجترار والعدمية، أجادوا التلصّص بتلذّذ على هفوات الآخرين، واكتفوا بغمزات غزليّة للاستبداد الذي لم يرحمهم بدوره.

حبّة بنادول

يُفاجئ فانسون معلّمه بونتوفان بالقول: "لست فقط منظّراً كبيراً للراقصين، بل أنت نفسك راقص كبير"، وفي نهاية عتاب وجدال بينهما، يوضّح المعلم لتلميذه باعتراف: "كل واحد منا يحمل راقصاً بالمعنى الواسع للكلمة… وإذا كنتُ كما تقول، المنظّر الكبير للراقصين، فمن الضروري أن يكون بينهم وبيني قاسم مشترك صغير، بدونه يتمنّع عليّ فهمهم".

كل مساء تقريباً، يقف ناشط/ راقص أمام المرآة، متسائلاً عن موقعه بين الاثنين، ومن القضيّة نفسها، ثم يتناول حبّة بنادول قبل محاولات النوم العصي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard