شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"نستقل شاحنات الموت متراصّات"... معاناة التونسيات العاملات في الزراعة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 28 أبريل 202010:39 ص

"نجتمع قرابة 15 امرأة من قريتي، الساعة الخامسة صباحاً، منتظرات سائق الشاحنة ليقلّنا إلى مكان عملنا في إحدى الضِيع الزراعية التي تبعد قرابة 15 كيلومتراً عن قريتنا".

"نضطر إلى الخروج رغم انتشار وباء كورونا دون أدنى وسائل وقاية تحمينا من خطر الإصابة بالفيروس. نصعد إلى صندوق الشاحنة الخلفي الصغير، وعندما نصل إلى البيوت البلاستيكية، نقف جنباً إلى جنب داخلها لنجمع الفلفل. كل ذلك يجري بدون إمكانية احترام مسافة الأمان".

هذا ما ترويه الشابة جواهر (25 سنة)، ابنة قرية "أولاد زويد" في معتمدية منزل بوزيان في محافظة سيدي بوزيد، وسط غرب تونس، لرصيف22 مؤكدةً أنها مجبرة على خرق إجراءات الحجر الصحي العام في البلاد ومواصلة عملها في مجال الزراعة، بدون أن تتمكن من وقاية نفسها إلا عبر وضع غطاء رأسها على أنفها.

ظروف عمل صعبة

توضح جواهر أن غالبية نساء قريتها يعملن في قطاف محاصيل الفلفل والخيار والبصل والبطاطا واللوز صيفاً، والزيتون والجزر شتاءً.

ويرتكز القطاع الزراعي في تونس بدرجة أولى على اليد العاملة النسائية، إذ يضم قرابة نصف مليون امرأة، ما يمثل 43% من النساء النشيطات في الوسط الريفي، وفق آخر إحصاءات وزارة الزراعة والموارد المائية والصيد البحري لسنة 2018.

قبل أعوام، غادرت جواهر مقاعد الدراسة لمساعدة والدتها التي تعمل منذ وفاة والدها، قبل أحد عشر عاماً، في مجال الزراعة، لإعالة أسرتها وتوفير مصاريف أشقائها الأربعة، خاصة وأن والدتها مرضت جراء ظروف العمل القاسية المستمرة منذ فترة طويلة.

ظروف أسرتها الاقتصادية الصعبة أجبرت اثنين من أشقائها على الانقطاع عن مقاعد الدراسة والالتحاق بها وبأمهما في العمل في الأراضي الزراعية، لتوفير حاجاتهم الأساسية، ولتمكين الشقيقين الآخرين من إكمال الدراسة.

تمضي الفتاة ساعات طويلة في العمل، من السابعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر، عندما يكون الطقس بارداً، ومن الخامسة صباحاً حتى الواحدة ظهراً عندما يكون حاراً، مقابل حصولها على عشرة دنانير في اليوم (ثلاثة دولارات ونصف).

شاحنات الموت

عارم، امرأة خمسينية، يمنعها سنّها وتدهور صحتها من ركوب "شاحنات الموت"، لذلك تسير مشياً على الأقدام إلى الضيع الزراعية القريبة من مقر إقامتها في منزل بوزيان، لجمع الفلفل الحار أو البطاطا. فالعمل موسمي وغير متوفر دائماً بالقرب من مقر سكنها.

تؤكد عارم، السيدة التونسية الخمسينية: "إذا عملت أجد قوت يومي، وإذا لم أعمل لا أجده"، وتؤكد نزيهة (40 سنة): "أنا مجبرة ولست مخيّرة على العمل في هذا المجال القاسي والمتعب"... عن العاملات التونسيات في الزراعة، في زمن الكورونا

ويُطلَق على الشاحنات التي تقلّ العاملات الزراعيات لقب "شاحنات الموت"، بسبب حوادث السير الكثيرة التي أسفرت خلال السنوات الأربع الماضية عن وفاة أكثر من 22 عاملة في الزراعة وإصابة 450 أخريات، بحسب بلاغ أصدره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو منظمة حقوقية مستقلة تأسست سنة 2011 بهدف نشر ثقافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في 12 نيسان/ أبريل 2019.

عاملات يقفن بجانب إحدى "شاحنات الموت"

يشار إلى أن القانون رقم 33 لسنة 2004 المتعلق بتنظيم النقل البري ينص في فصله الثالث على أن "تتولى الدولة والسلطات الجهوية المنظمة للنقل البري تنظيم النقل البري ومراقبة حسن سيره. كما تتولى وضع وتنفيذ سياسة شاملة في هذا المجال بمشاركة الأطراف المعنية".

كباقي العاملات، تعمل عارم دون أية وسائل وقاية من كمامات وقفازات، رغم عدم إمكانية تطبيق سياسة التباعد الاجتماعي بينهن. المشهد يتكرر بوضعها غطاء رأسها على أنفها، كوسيلة وحيدة للحماية من خطر الإصابة بالكورونا.

تلتحق السيدة الخمسينية بالأراضي التي تعمل فيها من الساعة الخامسة صباحاً حتى منتصف النهار، لتحصل على أجر زهيد يتراوح بين 5 و10 دنانير (1.73 و3.45 دولاراً) يومياً. "أخرج محترقة اليدين من شدة حرارة الفلفل والبيوت المكيفة"، تقول لرصيف22.

وجدت عارم نفسها مجبرة على العمل بعد وفاة زوجها. تقيم في منزل مكوّن من غرفة واحدة. فيها تطبخ وتنام وتعيل ابنها العاطل عن العمل بسبب إعاقة في يده.

تؤكد أن احترامها لإجراءات الحجر الصحي مستحيل: "إذا عملت أجد قوت يومي، وإذا لم أعمل لا أجده. فمنحة الـ180 ديناراً التي تمنحها لنا الدولة شهرياً لا تكفيني وعليّ دفع فواتير الماء والإنارة وتوفير المواد الأساسية التي تشهد أسعارها ارتفاعاً متزايداً وإعالة ابني المريض".

وتقدّم الدولة التونسية منحة شهرية قدرها 180 ديناراً، في إطار منظومة الضمان الاجتماعي، للعائلات المعوزة ومحدودة الدخل.

"لا يفيني حقي"

تستقل نزيهة (40 سنة) يومياً شاحنة تحمل قرابة 15 عاملة في صندوقها الخلفي. يتمكسن بحوافها، ملتصقات بعضهن ببعض. مَن تريد ممارسة الوقاية منهنّ تضع غطاء رأسها على أنفها. لا وسيلة أخرى للوقاية بحوزتهنّ، إذ لم تبادر أية جهة رسمية في البلاد إلى مدّهن بوسائل الوقاية ومواد التعقيم.

"نضطر إلى الخروج رغم انتشار الكورونا دون وسائل وقاية تحمينا من خطر الإصابة به. نصعد إلى صندوق الشاحنة الخلفي الصغير، وعندما نصل إلى البيوت البلاستيكية، نقف جنباً إلى جنب لنجمع الفلفل. كل ذلك يجري بدون إمكانية احترام مسافة الأمان"

تجمع الخيار والفلفل والطماطم وترتبها في صناديق، لتتقاضى عن كل يوم عمل 12 ديناراً (4.14 دولاراً)، وهو مقابل تؤكد إنه "لا يفيني حقي خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة إذ أذهب إلى العمل في الساعة الخامسة صباحاً لأعود مع الثانية ظهراً، ولا يمنحنا رب العمل إلا نصف ساعة استراحة للأكل".

ابنة أحد أحياء مدينة منزل بوزيان الفقيرة والعشوائية، مضطرة لخرق قرار الحجر لمساعدة زوجها، العامل المياوم، في تحمل أعباء ومصاريف أطفالهم الأربعة.

تعمل في مجال الزراعة منذ زواجها سنة 2005، وتتنقل خارج حدود منطقتها إلى مناطق مجاورة عبر "شاحنات الموت" التي تقطع بهنّ مسافات تصل إلى عشرين كيلومتراً، بحثاً عن مكان عمل.

توضح لرصيف22: "نحن العاملات في مجال الزراعة نعرف بعضنا البعض. تربطنا علاقة جيرة وسنوات عمل طويلة، وإذا وجدت إحدانا عملاً في إحدى الضيع تخبر الباقيات".

وتضيف: "أنا مجبرة ولست مخيّرة على العمل في هذا المجال القاسي والمتعب".

دقّ ناقوس الخطر

مع مواصلة آلاف النساء العاملات في قطاع الزراعة العمل خلال الحجر دون توفير وسائل وقاية لهن، دقت عدة منظمات وجمعيات حقوقية ناقوس الخطر، ومن بينها جمعية "صوت حواء"، التي تأسست في آذار/ مارس 2012، ومن أهدافها مناهضة كل أشكال العنف والاستغلال المسلطة على المرأة وتمكينها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

توضح رئيسة الجمعية جنات كداشي لرصيف22 أنهم لاحظوا نقصاً في اهتمام الدولة والإعلام على حد سواء بهذه الفئة خلال الحجر، علماً أنها توفّر حالياً الأمن الغذائي للبلاد، في ظل الأوضاع الصعبة الراهنة.

تدعو كداشي اتحاد الفلاحين وكل المستثمرين في القطاع الزراعي إلى توفير نقل آمن وصحي للعاملات في الزراعة، يراعى فيه عدم الاكتظاظ واحترام مسافة الأمان بين الراكبات، وإلى توفير وسائل الوقاية في القرى وفي أماكن توضيب المنتوج الزراعي.

وتحثّ العاملات في الزراعة على أخذ الاحتياطات اللازمة لحماية أنفسهن وعائلاتهن من خطر العدوى، مطالبة أصحاب العمل بتحمل مسؤولياتهم والتضامن مع العاملات ومراعاة ظروفهن.

دعماً لهؤلاء النساء، أطلقت الجمعية حملة "آمنة"، وانتقلت ناشطاتها إلى بعض الأراضي الزراعية لتوعية العاملات بأعراض ومخاطر فيروس كورونا وبطرق الوقاية منه ولمدّهن بالكمامات، إضافة إلى توعية أرباب العمل بضرورة توفير مواد التعقيم والغسل والتنظيف لهن.

ناشطة في حملة "آمنة" تقف بين عاملات

تؤكد كداشي أن هذه المبادرة فردية ورمزية لدعم هذه الفئة المهمشة، داعيةً السلطة التنفيذية إلى تحمل مسؤولياتها والتدخل العاجل لإنقاذ حياة المرأة العاملة في مجال الزراعة.

"ظروف غير إنسانية"

تشدد الكاتبة العامة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات نائلة الزغلامي على أن المرأة العاملة في الزراعة تعمل في "ظروف فاقدة للكرامة وغير إنسانية" و"تضحي بحياتها لضمان قوت أسرتها وأمن غذاء البلاد بصورة عامة".

وتشير إلى أن جمعيتها التي تأسست سنة 1989 ومن أهدافها إلغاء كل مظاهر التمييز ضد المرأة وتوعيتها بحقوقها والدفاع عن مكاسبها، عاينت على أرض الواقع عدة حالات لنساء عاملات في الزراعة ناجيات من حوادث عمل كارثية، لم تقدّم لهن الدولة أية تعويضات كما لم يتم التعويض على أسر الضحايا منهن.

وتعتبر الزغلامي أن الدولة مقصرة في ضمان حقوق هذه الفئة، مطالبة الوزارات المعنية (وزارات المرأة والأسرة والداخلية والنقل والتشغيل) بتوفير وسائل نقل آمنة للعاملات في الزراعة تحفظ كرامتهن.

وتطالب الدولة بالالتزام بإقرار المساواة في الأجر بين النساء والرجال العاملين في مجال الزراعة، إذ أن المرأة تتقاضى 10 دنانير في اليوم فيما يتقاضى الرجل 15 ديناراً وما فوق.

وينص الفصل الأول من الأمر الحكومي عدد 669 لسنة 2017 على أنه "يضبط الأجر الأدنى الفلاحي المضمون للعمال من الجنسين البالغين من العمر 18 سنة على الأقل بـ13.736 ديناراً عن كل يوم عمل فعلي".

وتدعو الزغلامي الدولة إلى تغطية جميع النساء العاملات في الزراعة اجتماعياً وصحياً، حتى يتمكنَّ من تلقي العلاج بحال إصابتهن في حوادث عمل.

"احميني"

في السياق نفسه، ورغم إعلان وزارة المرأة الانطلاق الفعلي لمشروع "احميني"، في نيسان/ أبريل 2018، وهو مشروع يهدف إلى تيسير انخراط النساء العاملات في مجال الزراعة في منظومة التغطية الاجتماعية، وتوقعها انتفاع أكثر من 500 ألف عاملة من هذا المشروع إلى حدود السنة الحالية، غير أن الواقع يقول عكس ذلك.

واقترح الشاب التونسي ماهر الخليفي هذا المشروع الذي تبنته الدولة وهو عبارة عن بوابة إلكترونية تضم ثلاثة تطبيقات تمكّن المرأة العاملة في الزراعة من التسجيل في منظومة التغطية الاجتماعية ومن استخلاص مبالغ مالية عن بعد وتمكّن أطرافاً خاصة ورجال أعمال من تبنّي عاملات والتكفل بدفع مبالغ التغطية الاجتماعية لهن.

ولكن منذ انطلاق العمل الفعلي بالمشروع في أيار/ مايو 2018 حتى حدود آذار/ مارس الماضي، لم تستفد إلا 15 ألف عاملة فقط من المنظومة، كما لم تتحصل سوى 400 عاملة في مجال الزراعة على بطاقة الحيطة (التغطية الاجتماعية)، وفق تصريح الخليفي لرصيف22.

وقبل ستة أشهر تقدم الخليفي بفكرة مشروع جديد بعنوان "احميني، نقل" إلى وزارة النقل بهدف تنظيم تنقل العاملات في مجال الزراعة من خلال توفير شاحنات آمنة تحتوي على كراسٍ للجلوس وبحمولة محددة ومقننة ومجهزة بجهاز مراقبة لتتبع مدى التزام سائقيها بقوانين السلامة، ولا يزال ينتظر الرد عليه.

يقول الخليفي إنه وفريقه يعانون من البيروقراطية المسيطرة على الإدارات الجهوية في تونس والتي تعطل سير عمل المشروع، ويطالب بتحييد المشروع عن كل توظيف سياسي "لأن كامل الأطراف والوزارات تدخلت وكل يرجع الفضل إلى نفسه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard