شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أصبحت عاجزاً عن التواصل مع الأصدقاء محمد

أصبحت عاجزاً عن التواصل مع الأصدقاء محمد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 27 أبريل 202006:00 م

الصديق محمد 1 وصل برلين قادماً من بكين، قال لي إن الأوضاع مأساوية هناك، وعلى الرغم من بعد المدينة عن ووهان مركز انتشار الفيروس، إلا أن الجميع في بكين - وبالطبع في ووهان - يحافظون على البقاء والعمل من داخل البيوت، يخرج أحد أفراد الأسرة كي يبتاع الاحتياجات الأسبوعية من الطعام، ثم يعود ليبقى في البيت. بعد أسابيع قليلة من كلامه اختارت قلة من البشر أن تنعزل في بيوتها.

الصديق محمد 2 "عشرة عمر" كما يقولون، ليس "عشرة عمر" تماماً، لكني عرفته لعشر سنوات قبل أن أنساه رويداً رويداً. بمصادفة متكررة وجدت حسابه على فيسبوك، تغير وجهه كثيراً، قل وزنه كثيراً، وعندما تأملت ما يكتبه على حسابه لاحظت أنه لم يتغير أبداً، هو نفسه الولد الذي عرفته في التسعينيات، كل ما حدث أن مشاعره وردود أفعاله تضخمت أو ربما نضجت. لا يزال يشعر بحنين جارف لأمه وأبيه اللذين ماتا منذ مدة، لا يزال يحب النادي الأهلي حباً غير مفهوم، لا يزال متديناً التدين الوسطي المصري الجميل، التغيير الوحيد المرعب هو ما لاحظته مع بداية انتشار الفيروس، لم أجد على صفحته إلا آيات قرآنية تتوعد الخاطئين، تشير إلى امتحان الله للمؤمنين، تحذر من جهنم وتصف ما بعد موت الظالمين، لم أجد أي آيات عن الرحمة أو العدل أو جنة الله في الآخرة.

في البداية خلقنا فكرة ما وأصبحنا على يقين من أنها أفهمتنا الموت، ثم تبين لنا أننا لم نفهم وأن الفكرة خذلتنا.

الصديق محمد 3 أخبرني أن كل شيء سيمر، لم أفهم ما يعنيه لأن كل شيء يمر بالفعل، تابع، أن الفيروس سيمر كما مر كل شيء، وأنه يفضل البقاء في نيوزيلندا بدلًا من العودة إلى المغرب، لأنه لا يرى أن هناك أي فارق بين وضعيه في البلدين. محمد 3 واحد من أصدقاء كثيرين يؤمنون بأننا كبشر نفهم ما يحدث حولنا بطريقة خاطئة، وهو أيضاً واحد من أصدقاء كثيرين يؤمنون بأن هناك شخصاً ما - أو مجموعة ما - تسيطر على كل ما يحدث، وأن هذا الشخص أو المجموعة، كي يحافظ على سيطرته، يعلن دائماً أن هناك دولاً، ديمقراطيات، دكتاتوريات، اقتصاد، أعياد، أديان ومعابد، فقط كي يشغلنا عن سلطته وعن وجوده، الأمر الذي يسميه بعض السذج "نظرية المؤامرة". محمد 3 خُذل مرات عديدة، ربما خذلته كل فكرة آمن به في وقت ما، ويبدو أنه فشل في التعامل مع الخذلان المستمر، فأخذ يخذل من حوله من دون أن يشعر، منذ سنوات أصبح متحيراً على الدوام، يستريح في غير مواضع الراحة، يقلق إن اطمأن من حوله، يسخر بطريقته اللطيفة من الآخرين، ثم يبرر نفسه وينسحب بهدوء عندما يهاجمه الآخرون بشراسة، وعلى الرغم من حيرته الظاهرة، اعتاد أن يقول إنه مطمئن تماماً في هذه المرحلة من حياته. نعم كلنا متحيرون بشكل أو بآخر، لم إذن لا يضيع محمد 3 في متاهته الواسعة؟ في الأسبوع الثالث من انتشار الفيروس أخبرني أنه يعاني من أعراض تشبه ما يصيب المرضى، ألم في الحلق وحمى، بعد أيام اختفى تماماً، ثم علمت أنه أحد الضحايا القليلين جداً في نيوزيلندا.

الصديق محمد 4 اختفى تماماً، لم نجد أي صور على حساباته على فيسبوك وتويتر، وقلنا جميعاً لعل المانع شراً. عرفنا أن اثنين من أصدقائه ماتا نتيجة إصابتهم، وأنه عزل نفسه خوفاً من أن يكون قد التقط العدوى من أحدهما، وبعد مرور أسبوعين عاود صديقنا المحبوب الظهور بإيمان حديدي راسخ.

الصديق محمد 4 اختفى تماماً، لم نجد أي صور على حساباته على فيسبوك وتويتر، وقلنا جميعاً لعل المانع شراً. عرفنا أن اثنين من أصدقائه ماتا نتيجة إصابتهم، وأنه عزل نفسه خوفاً من أن يكون قد التقط العدوى من أحدهما، وبعد مرور أسبوعين عاود صديقنا المحبوب الظهور بإيمان حديدي راسخ

الصديق محمد 5 لم يتوقع ما حدث، قال لي إنه قابل السيدة في لقاء قصير انتهى بشكل عادي، وعندما رأى رسالتها تخبره بأنها استمتعت باللقاء، فكر على الفور أنه رجل وقح لأنه لم يبادر بإرسال رسالة شبيهة، ثم نسي كل شيء عنها. بعد أيام التقيا مرة أخرى، ليقع بالكامل تحت تأثيرها، قال لي لولا إنه لا يؤمن لظن أنها "سحرته"، هو لا يستطيع فهم أو تفسير لم يميل إليها لهذه الدرجة، ثم أصبح يلاحقها كما يفعل المراهقون، يرسل لها رسائل كثيرة فقط لمجرد أن يتبادل معها الكلام، قال لي إنه ميل جنسي صريح، ميل شهواني للجسد والوجه المبهرين اللذين رآهما ولا يستطيع نسيانهما، وميل قلبي يجعل يديه ترتجفان عندما يتذكرها، ويتعطل عقله تماماً فلا يستطيع التفكير في شيء آخر سواها، وميل إلى "شخصيتها" مع أنه لا يعرف عنها أي شيء، قال الجملة الأخيرة وهو يسخر من نفسه، ثم قال لي إنها الحدث الوحيد الذي يسعده في هذه الأيام. طبعاً السيدة خافت من المختل الذي يلاحقها، لكنها مع ذلك تعاملت برقي مع جنونه ورسائله. هو نفسه لاحظ أن شيئاً ما اشتعل في عقله ولم يتمكن من إطفائه، قال لي إن هذه الأشياء تشتعل كثيراً لكنه اعتاد أن يقمعها ببساطة، كان يظن أن النزوات والرغبات تصيب العيال ولا تصيبه، قال لي إنه لم يتمكن من قمع ما اشتعل، وأن عقله كله الآن يحترق وهو يتابع الحريق ساكناً، وأنه تحول إلى "عيل بشخة" مثل الذين سخر من أفعالهم سابقاً.

مهما حاولت السيدة أن تساعده على فهم ما حدث له، أن تبرر ما حدث له، أن تقول له إنه يلاحقها لأنه فقط "هيْجَان"، وأنه يجب أن يشغل نفسه بشيء آخر أو بامرأة أخرى، لم تتمكن قط من إقناعه بأن ما يحدث مجرد نزوة ستمر، وهو غضب لأنها رأت أنه "هيجان" فقط، فالأمر أعقد من ذلك، لكنه لم يستطِع أن يشرحه لها لأنه لا يفهمه، وكل ما اكتفى به أن أخبرها بما يشعر، وبسيطرتها تماماً على تفكيره طوال أيام كاملة، وبأنها سبب سعادته الوحيد الآن، بعد ذلك ازداد خوف السيدة كثيراً، ثم تحولت للسخرية منه أملاً في أن يملّ أو يخجل ويكف عن ملاحقتها. أخيراً، وبعد أيام عديدة، قال لي إنه الآن يكذب على نفسه يومياً، يقول لنفسه إن السيدة أكثر ذكاءً منه وأنها فهمت ما أصابه، يقول لنفسه إنها تتعامل مع مشاكلها بشكل أفضل كثيراً منه، يقول لنفسه إنه "هيجان" ولا شيء أكثر، وأنه أخطأ عندما صرَّح بما يشعر به، لأن ما لا يمكننا الحديث عنه يجب أن نتركه يمر بصمت. ثم قال لي إنه يعلم أن الشيء الذي اشتعل في عقله انطفأ ببطء، لكن هناك ذرة منمنمة ممتعة لا زالت تشتعل بضراوة وشبق، وهو يعلم أنها لن تنطفئ أبداً، وأنه يتأملها كل يوم فتحلّ عليه سعادة نادرة.

الصديق محمد 6 يلاحقني يومياً، يرسل رسائله ويطلب أن نتقابل، لا، هو ليس "هيجان"، ولا يعاني من أزمة نفسية ما، ولا يؤمن بالمؤامرة، كل ما يريده أن يتكلم مع أحد.

الصديق محمد 6 يلاحقني يومياً، يرسل رسائله ويطلب أن نتقابل، لا، هو ليس "هيجان"، ولا يعاني من أزمة نفسية ما، ولا يؤمن بالمؤامرة، كل ما يريده أن يتكلم مع أحد، يخبرني أن علينا أن نتقابل، وأنا أفكر فوراً في محمد 5 وهو يلاحق السيدة المذكورة في الفقرة السابقة، أحياناً ألتمس العذر لمحمد 6، وأحياناً أفكر كالسيدة التي تريد الخلاص من محمد 5. الخلاصة أني لا أعرف ماذا أفعل.

الصديق محمد 7 يلح عليَّ كثيراً هذه الأيام، كان متشدداً في كل آرائه، لكنه لم يكن متشدداً دينياً بأي شكل، وربما كان هدفه في حياته أن يقف إلى جانب ما يراه حقاً، أذكر أنه نظم ندوة لرفع الوصم عن مرضى الإيدز في مصر، وتعجبت كثيراً لاهتمامه بموضوع كهذا، بعد 2011 فوجئنا بتحوله السياسي، صُدم معظم من يعرفونه وابتعد معظمنا عنه تماماً، ثم تغير كل شيء وانقطعنا عن التواصل معه إلا واحداً أو اثنين. في أكتوبر 2019 عرفت آخر ما حدث له: أصيب بالسرطان، بدأ العلاج بالكيماوي، قُبض عليه في سبتمبر، خرج بعد أسبوعين، مات بعد أسبوع.

الصديق محمد 8 تغير كثيراً منذ سنوات، لم يعد ينشغل بذكرى الآلام الماضية بل نسيها فعلاً، لم يعد يحاول أن يكرر لحظات الشهوة السابقة، لم يعد يحاول أن يحافظ على الشهوة قائمة، وأصبح ما يشغله فقط الآن وهنا. لكنه - في أيامنا هذه - غاضب جداً، لأنه يرى أن شبكة المحمول الخامسة هي السبب فيما يحدث.

الصديق محمد 9 شارك في حرق مبانٍ كثيرة في الإسكندرية عام 2011، ثم شارك في تعليق لصين على عمودي إضاءة في شارعه السكندري العريق، شارك في زمن مراهقته بالبحث عن قبر الإسكندر الأكبر، شارك في شرح المعنى الكامن في مبنى مكتبة الإسكندرية لأحد السياح الأجانب، ومنذ أسابيع شارك في موكب طرد الفيروس، كان يردد بحماسة "لا إله إلا الله، الكارونا عدو الله" على الرغم من أنه مسيحي، واليوم فقط أرسل لي فيديو صُوِّر في أحد شوارع الإسكندرية: أشخاص كثيرون يحملون مجسماً للكعبة ويمشون مصدرين ضجة غير مفهومة، ظننت أنه أرسله - كما فعل الكثيرون - ليسخر، ثم قال لي إنه سيشارك اليوم في صنع صليب ضخم ليكون على رأس مسيرة هائلة ستهز شوارع الإسكندرية.

تنامت كراهية البشر داخلي من دون أن أعلم، والسبب ليس فقط ما حدث في السنوات الماضية ولم أتمكن قط من نسيانه، أو ما رأيته أو قرأت عنه من أفعال تشين من فعلها من البشر، بل السبب أن كل ما خلقناه من أفكار كان فقط محاولة منا لفهم الموت، كل هذا التعب كان فقط لنفهم شيئاً بسيطاً جداً مع أننا غير مطالبين بفهمه

***

أصبحت عاجزاً تماماً عن التواصل مع البشر، أنا لا أفهم ما يحدث بينهم، أنا لا أفهم سر الميل الجنوني أو النفور المصحوب بالقرف، لا أفهم لمَ يتمنى الكثيرون الموت للكثيرين، لا أفهم لمَ يصر إنسان على التحكم في مصائر الملايين، لا أفهم ما يحدث لأصدقائي، بل يحزنني كثيراً ما يصيبهم من آلام وخيبات أمل وصدمات، كل من أعرفه لا يستحق أبداً ما أصابه.

تنامت كراهية البشر داخلي من دون أن أعلم، والسبب ليس فقط ما حدث في السنوات الماضية ولم أتمكن قط من نسيانه، أو ما رأيته أو قرأت عنه من أفعال تشين من فعلها من البشر، بل السبب أن كل ما خلقناه من أفكار كان فقط محاولة منا لفهم الموت، كل هذا التعب كان فقط لنفهم شيئاً بسيطاً جداً مع أننا غير مطالبين بفهمه، في البداية خلقنا فكرة ما وأصبحنا على يقين من أنها أفهمتنا الموت، ثم تبين لنا أننا لم نفهم وأن الفكرة خذلتنا، فخلقنا فكرة جديدة وحاولنا نسيان القديمة، ثم سرنا على هذا الطريق: كلما خذلتنا فكرة أسرعنا لنخلق واحدة أخرى، ثم فوجئنا أن لدينا آلاف الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات ومع ذلك لم نفهم، أفكر يومياً في هذا، وأفكر أننا لن نتمكن قط من فهم الموت، وأن ربما الحل في أن نتجاوزه.

لكني كما اعتدت، وكلما أفشل في التعامل مع السواد، أتذكر الفكرة الوحيدة التي تنعشني وتدفعني للحركة وفعل ما يفعله البشر: إن وعيي سيزول عندما أموت.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard