شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"الشقة في شارع باسي"... تباً لأولئك الفرنسيين المبتذلين!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 25 أبريل 202006:20 م

كان التأفف والسخرية من الغاليرهات الفنية واحداً من المواضيع التي ثرثرنا بها أنا وراجي بطحيش وصهيب أيوب أثناء تنزّهنا في شارع بونبارت في باريس، تلا ذلك أحاديث عن النيك الأسطوري والكتابة بأنواعها والذوق الفرنسي المبالغ به، ليست هذه زيارة راجي الأولى لفرنسا التي سبق له أن عاش فيها عام 2001، هذه المرة يريد تحويل باريس إلى مادة أدبية، استعرضت أمامه بعض الحكايات التي أعرفها عن المكان الذي دهست فيه سيارة رولان بارت، ومكان شقة إميل سيوران، وغيرها من القصص التي عادة ما تأسر الزوّار العابرين، من يبحثون عن تاريخ أدبي وفني للمدينة اللمّاعة، لكن راجي يبحث عن جغرافيا مختلفة من أجل روايته الجديدة "الشقة في شارع باسي" التي يدور جزء من أحداثها في الدائرة السادس عشرة، واحدة من أغلى وأرقى الأماكن في العالم.

صدرت الرواية هذا العام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وكنت قد قرأت مخطوطها النهائي قبل ذلك، أشير لهذه المعلومة كون المخطوط يختلف عن النسخة الصادرة بوصفه أقل "تهذيباً"، لا اختلافات جوهرية بين النسختين، فقط استبدال لكلمات "أير وكس" بـ"قضيب وفرج"، وفي كلا النسختين، تتضح أمامنا معالم "متحف خراء باريس"، الذي يرسم بطحيش صالاته في الرواية.

باريس، بعيداً عن "هالتها" 

نقرأ في الرواية عن باريس، بعيداً عن "هالتها" التي تأسر السياح والعابرين والباحثين عن المغامرات الجنسية العشوائية، نقرأ عن مدينة الطبقات فيها شديدة التباين، هناك بول وخراء وواقيات ذكرية مستخدمة تحت جسورها، مزيج من روائح نتنة تنبعث من الجبن الفاخر وأسياخ "الكباب" الذي يذوب دهنه ويتسلل للأرصفة، مختلطاً مع الغبار وقيء السكارى.

تقسيم باريس الطبقي يرتبط بتقسيمها الجغرافي، الشمال الشرقي للمهاجرين، النظاميين وغير النظاميين، ومتوسطي الدخل والبرجوازيين البوهيميين، أما الجنوب الغربي، حيث محطة ميترو باسي، للأرستقراطيين الذين ورثوا بيوتهم وثرواتهم، وغاسلي أموال الخليج العربي والمنشقين عن الديكتاتوريات العربية بعد أن نهبوا خزائنها، هذه العوالم يتحرك ضمنها جميل وأمير، مهاجران فلسطينيان مثليان يبحثان عن "شوغر دادي"، ينقذهما من الشمال الشرقي والفقر والشفقة.

تقسيم باريس الطبقي يرتبط بتقسيمها الجغرافي، الشمال الشرقي للمهاجرين، النظاميين وغير النظاميين، ومتوسطي الدخل والبرجوازيين البوهيميين، أما الجنوب الغربي، حيث محطة ميترو باسي، للأرستقراطيين الذين ورثوا بيوتهم وثرواتهم، وغاسلي أموال الخليج العربي والمنشقين عن الديكتاتوريات العربية بعد أن نهبوا خزائنها

تتكرر "نهاية العالم" عدة مرات في الرواية، مترافقة بنزعة ميلودرامية يفقد فيها العالم جدواه، أحداث 11 سبتمبر، احتراق كنيسة نوتردام عام 2019، رحيل جميل من بيت فانسان، شكّ أمير بأنه مصاب بالإيدز، وصول "اللاجئين السوريين" وتغير خارطة الضحايا والاستعطاف الفرنسي، كلها أحداث تتحول إثرها باريس إلى مكان حقير ( وهي فعلاً كذلك!)، بيوت صغيرة لا تتجاوز التسعة أمتار، فنادق للقوّادين وتجار المخدرات، طعام بلا نكهة ونيك أشبه بضرب الرأس بالجدار، باريس مساحة شديدة العدوانية لمن لا يمتلك دماً أزرقاً، لا يجيد تذوق النبيذ ولا يدرك الاختلافات بين أسماء الجبنة وأنواع اللحوم الباردة.

اريس مساحة شديدة العدوانية لمن لا يمتلك دماً أزرقاً، لا يجيد تذوق النبيذ ولا يدرك الاختلافات بين أسماء الجبنة وأنواع اللحوم الباردة

يكشف لنا بطحيش عن عوالم الاستغلال الجنسي واقتصاد السوائل، ومحاولات عودة المثليّ إلى صباه، عبر ثنائية فريسة وصياد، لا نعلم بدقة التفريق بينهما، فهل يحاول المهاجر اصطياد عشيق فرنسي دسم ليعيش حياة الرغد أم العكس، الفرنسي يريد اصطياد إكسسوار يضيفه إلى منزله الكبير، ويستعرضه أمام رفاقه بوصفه "المختلف ثقافياً". هذا الغطاء السطحي يختفي وراءه صراع بين مهاجرين على "النجاة" هروباً من "الوطن" أو "البلاد" كما تسمّى (هنا)، هذا الصراع جوهره العمل ضد الزمن البيولوجي الحتمي، فكلما ازداد العمر وتلاشت غوايات الجسد وتقاسيمه أصبح الأمر أصعب، وتطلب أداء حب أشد إقناعاً، وهذا ما حصل مع جميل الذي تجاوز الخمسين، وقرر فانسان استبداله بلاجئ سوري، تاركاً جميل للشارع حرفياً، فالفانتازم المؤسس للحبّ انهار، تلك الحكاية التي جمعت جسدين اختلط منيهما وعرقهما شبقاً، تلاشت، واختزلها فنسان بعبارة:" ولكنني لم أعد أحبك كما سبق.. أريد أن نفترق.. أن تغادر..".

أوّل الماء...أوّل الألم

يتتبع راجي أيضاً تمرينات الرجولة في فلسطين تحت الاحتلال والاختلاف الطبقي، إذ تبدأ مهارات الخشونة بالتكوّن منذ المدرسة، حيث التدافع والمزاح ومسك الأيور العفوي، والذي قد يصل لاحقاً إلى الاغتصاب، خصوصاً في حالة المستضعفين والمتهمين بالتأنّث، كما في حالة أمير "النعوم" الذي تعرض للاغتصاب بينما يتلقف جميل باه "صديقه"، حينها تلاقت عيناهما أثناء نشوة التجريب والألم والقسوة، تلك التي ظهرت في باريس مرة أخرى، بعد أن قررا السفر سوياً.

وهناك يأخذنا بطحيش إلى مساحة مجهولة، "أدب الساونات" كما يحب تسميته، حيث يختلط المني بالعرق، وتتحول الفتحات إلى مأوى للأصابع والألسنة وأيور مختونة وغير مختونة، أجساد تختلف مهارتها ودوافعها كلما علت أو هبطت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها الفرد، ولسوء الحظ، انتهى جميل كـ"صبي ساونا" في أحقر الساونات، بعد أن ترك منزل فانسان، يمسح سوائل الزبائن من عجائز محليين و سياح ويمنع الاختلاط بهم، وإن سمح له بعد أوقات "العمل"، فلا "صيد" ثمين له هناك، ليظهر الساونا كقاع عقيم تختلط فيه المفرزات، رحم لا ولادة من بعده.

نتذوق في نص بطحيش لغة اللذة الممنوعة والمؤلمة، ونتتبع بالبنان معجماً فضائحياً، يتفتح فيه الشرج كوردة جورية زهرية لزجة، وتشتد الأفخاذ أمام شهوة بدأت بالتلاشي، لا يهم صراع المثلية الثقافي أو غيره من القضايا في الرواية، فنحن أمام انتهازيين، يوظفون أجسادهم، "إكزوتيكيتهم" ورومانسيتهم المصطنعة، لأجل مستقبل محتمل من الكسل، وحياة طفيلية على أجساد ذوّاقة نبيذ وتجّار فن معاصر خال من أي معنى، هدفه التباهي وتقطيع الوقت.

في رواية "الشقة في شارع باسي"، نحن أمام انتهازيين، يوظفون أجسادهم، "إكزوتيكيتهم" ورومانسيتهم المصطنعة، لأجل مستقبل محتمل من الكسل، وحياة طفيلية على أجساد ذوّاقة نبيذ وتجّار فن معاصر خال من أي معنى، هدفه التباهي وتقطيع الوقت

نتذوق في نص بطحيش لغة اللذة الممنوعة والمؤلمة، ونتتبع بالبنان معجماً فضائحياً، يتفتح فيه الشرج كوردة جورية زهرية لزجة، وتشتد الأفخاذ أمام شهوة بدأت بالتلاشي، لا يهم صراع المثلية الثقافي أو غيره من القضايا في الرواية

"الفرنسيون" الذين يتحدث عنهم بطحيش مألوفون لمن "يعيش" في باريس، هم ليسوا كتلة متجانسة، بل فئة، حسب وصف راجي، تمتلك "فرشة أمان سميكة" وطبقات من الثروة، تتيح لهم الوقوع بالحب مراراً، تغيير العشاق، صناعة فن رديء وتداول هذا "الفن" بينهم، هم كـ"فاليري" تلك التي لا يمكن إلا أن يكرهها من يقرأ عنها أو يتعرف عليها، أولئك المنساقون وراء مشاعرهم اللحظية، المغامرون في المستعمرات القديمة و جامعو أجساد سكانها المهاجرين، الخائفون من أن يتحولوا إلى عجائز وحيدين يرتادون الساونات، المراهنون على فانتازم لحظة الحبّ، والذين ينتهي بهم الأمر عادة بترك بيوتهم لعشاقهم، أو أزواجهم الأشد حنكة، أولئك الذين يتنافسون على البقاء شباناً والتورط بحياة "فرائسهم" إلى حين رحيلهم النهائي.

يسخر بطحيش من كل ما هو تابو، يسخر من الضحايا بأنواعهم، الحرب على الإرهاب، انهيار قضيبي نيويورك، مأساة المهاجرين وولع الرجال بالجنس الشرجي، نحن أمام عالم ينهار أو "ينتهي"، وكأمير، الذي يراقب من وراء الشاشة انهياره، ويغرق في الخراء، لا داعي لتقديس أي شيء، كـ"الرجل الساقط-Falling man" الذي رمى بنفسه من أعلى برج التجارة العالمي، مراهناً على النجاة سقوطاً على حساب الموت احتراقاً، متمسكاً باحتمالات الهواء، وقدرة جسده الوهمية على تحمل الصدمة، فلا فكاك من عالم ينهار إلا بالركض أسرع من تساقط الحطام.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard