شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الخوف نفسه وغريزة البقاء هي نفسها"... سوريات يواجهن كورونا بعيداً عن بلادهن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 21 أبريل 202003:29 م

مع إطلاق أولى صافرات الإنذار حول انتشار فيروس كورونا، الذي بسببه هرع الملايين إلى منازلهم، احتموا بأحضان عائلاتهم، وخلقوا حولهم دوائر أمان، يلجؤون إليها كلما اشتدت وتيرة الترقب التي تخلقها ظروف استثنائية يعيشها الكوكب بأسره في انتظار أمر مجهول.

لكن، قد لا تتشابه الحكاية بالنسبة للجميع.

حول العالم، يعيش الملايين حروباً مستمرة منذ سنوات، وظروف نزوح ولجوء تحرم كثيرين من أن يكونوا بجوار عائلاتهم ودوائر أمانهم، ليكون عليهم مواجهة كورونا بضغوط نفسية مضاعفة، وتراكم إرثٍ طويل من القلق والخوف.

هنا، تروي ثلاث نساء سوريات حكاياتهن مع الحجر الصحي، في بلاد سافرن إليها لأسباب مختلفة، وبقيت عيونهن وقلوبهن معلقة بما تعيشه عائلاتهن في بلدهن الأم، الذي لا زالت تفوح منه روائح الحرب والدم والدمار.

في الكوارث، كل شعوب الأرض تتشابه

غادرت منى مدينتها دمشق منذ حوالي ستة أعوام، وكانت الحرب حينها في أوجها، واستقرت مع زوجها وابنها في مدينة ملبورن الأسترالية، وبعد أن عدّلت الشهادة التي تحملها في الصيدلة، لتتوافق مع معايير البلد الجديد، حصلت على عمل جيد في واحدة من صيدليات المدينة.

 "فلا يلومنا أحد عندما نهرب من الحرب لنلجأ لمكان آخر أكثر أماناً".

شكّلت الأيام الأولى من انتشار وباء كوفيد-19 في العالم، صدمة لمنى، حيث توجب عليها التواجد في عملها لساعات طويلة وأيام متتالية دون استراحة، لتكون شاهدة على تجارب تعيشها للمرة الأولى، كما تقول في حديثها لرصيف22: "واجهنا إقبالاً غير مسبوق على شراء الأدوية والمعقمات، مع التخوف من احتمال اختفائها من الأسواق، وفي الوقت نفسه، حصلت حالات احتكار للأدوية من بعض الصيدليات الكبيرة بهدف تحقيق المزيد من الأرباح المادية. شخصياً، ذُهلتُ من الكيفية التي تعامل بها الناس هنا مع الأمر، ما أعاد إليّ ذكريات سنوات الحرب الأولى في سوريا"، تشرح منى بصوتها من خلال رسائل عبر تطبيق "واتس آب".

دون قصد، تقارن السيدة الأربعينية عشرات التفاصيل بين سوريا وأستراليا: "الخوف نفسه، غريزة البقاء نفسها، والأنانية التي تسببها الكوارث الجماعية فتدفع كل شخص للاهتمام بخلاصه ومصلحته الفردية، هي تقريباً ذاتها".

مع ذلك، تقول منى بأن بعض أيام الازدحام على الشراء في أستراليا لا تشبه أي شيء رأته في سوريا. يدفعها ذلك لتحكي للزبائن أحياناً عن سنوات الحرب الأولى في بلدها، ولتوجه لهم رسالة، وإن بشكل غير مباشر، بأن للجميع حقاً في البحث عن حياة أفضل، "فلا يلومنا أحد عندما نهرب من الحرب لنلجأ لمكان آخر أكثر أماناً".

بشكل يومي، وبعد عودتها من العمل، تتواصل منى مع عائلتها في دمشق، تطمئن على أحوالهم وترسل لهم ما تعتقد بأنها نصائح طبية قد تفيدهم في مواجهة هذا المرض، وهم يعيشون في بلد يعاني جهازه الصحي من ضعف غير مسبوق بعد سنوات الحرب، وتندر المعلومات الطبية الدقيقة وتكثر الشائعات حول الفيروس والمرض.

وتضيف منى بأنها تشعر بالقلق دون شك حيال ما يعيشه أهلها داخل سوريا اليوم، مع اختلاف طريقة تعامل السوريين مع الموضوع برمته، عن طريقة تعامل معظم الشعوب الأخرى: "لعل ما عاشوه من تجارب قاسية خلال الحرب زاد من لا مبالاتهم وحتى تعودهم على ظروف الحياة السيئة، الأمر الذي قد يعرض حياتهم للمزيد من الأخطار"، تضيف.

تروي ثلاث نساء سوريات حكاياتهن مع الحجر الصحي، في بلاد سافرن إليها لأسباب مختلفة، وبقيت عيونهن وقلوبهن معلقة بما تعيشه عائلاتهن في بلدهن الأم، الذي لا زالت تفوح منه روائح الحرب والدم والدمار

وحيدة، وأبحث عن حياة أفضل لابني

من سوريا، وصلت ليلى أديب وزوجها إلى إحدى المدن الفرنسية أواخر العام الفائت بغرض الزيارة، وأثناء إقامتهما، عرفت بأن مولودها الأول سيرى النور بعد ثمانية أشهر، فاتخذت قرارها بالبقاء في فرنسا لحين الإنجاب، وعاد الزوج إلى سوريا على أمل الانضمام إليها مجدداً عندما يحين الموعد المرتقب.

"قراري هذا كان كي أعطي الطفل فرصة الولادة في أفضل بيئة ممكنة على المستوى الجسدي والنفسي، فأنا هنا في مكان يتمتع بنظام صحي ممتاز، وفي الوقت ذاته بعيدة عن حالة التوتر التي نعيشها بشكل يومي في سوريا"، تقول ليلى، أثناء حديث مع رصيف22 عبر الإنترنت.

وفي شهر آذار/ مارس الفائت حدث ما لم يكن في الحسبان. أُعلن وباء كوفيد-19 جائحة عالمية، وأغلقت معظم المطارات حول العالم، وارتفعت أعداد الإصابات بتسارع كبير في أوروبا. لم يترك الأمر الكثير من الخيارات أمام ليلى، مع تخوفها من السفر، وهو أمر غير آمن خاصة للمرأة الحامل، وأيضاً من عودتها لسوريا دون ضمانات بتلقي رعاية صحية جيدة.

وجدتُ نفسي فجأة وحيدة تماماً في بلد غريب

كانت الأيام الأولى صعبة للغاية بالنسبة لها على المستوى النفسي، حيث أمضتها بين نوبات هلع ومحاولات للحد منها. في الأسابيع التالية، اعتادت قضاء الوقت في المنزل الصغير الذي تستأجره، بين الأعمال المنزلية والتواصل مع العائلة والأصدقاء، سماع الموسيقى، مشاهدة الأفلام والمسلسلات والقراءة. مع ذلك، تستمر الأيام بالمرور بثقل كبير يذكّر ليلى ببعض أيام الحرب التي عاشتها في سوريا، بل يبدو أكثر ثقلاً، ويشعرها ذلك بالحزن الشديد.

وتعتبر ليلى بأن أصعب ما تواجهه اليوم هو الترقب، "فكل شيء مجهول، والخوف الأكبر لدي من عدم تعافي النظام الصحي إلى حين موعد الولادة، خاصة وأنني حالياً عاجزة عن زيارة المركز الصحي بتواتر كبير لأطمئن عن صحتي وصحة الطفل".

إضافة لذلك، تعيش السيدة تخوفاً من أن تضطر للولادة وحيدة، وتتمنى في كثير من الأحيان لو أنها كانت في منزلها ومع عائلتها، "لكان كل شيء أسهل بالتأكيد"، تضيف، وتمتزج كل هذه المشاعر بقلقها على من تحب في سوريا، ومن احتمال إصابتهم بالفيروس في ظل نظام صحي متواضع الإمكانيات.

وبين لحظات الحزن والأمل والخوف، تتشارك ليلى، بشكل شبه يومي، مع زوجها وعائلتها وأصدقائها أخبار الجنين الذي يبدو غير آبه بكل ما يدور حوله، فيتحرك في بطنها حيناً، معطياً إياها شعوراً لا يوصف بالراحة والسكينة، وكأنه يطمئنها عن نفسه ويقول لها "أنا معك لا تخافي"، وينام بهدوء أحياناً أخرى، لتكتب مخبرة الجميع بذلك: "نام. استيقظ. يتحرك. هذه هي أجمل أخباري اليومية".

يمتلئ الفضاء حولي بقصص مشابهة لما روته منى وليلى وصفاء. أرى فيها ما تبذله هؤلاء النساء من جهود كبيرة للتعامل مع صعوبات انتشرت مع انتشار الفيروس والمرض، وواقع مثقل بذكريات أليمة لا تبارحهنّ. تبدو أحياناً وكأنها عزلة مضاعفة، وتغدو المقارنة بين سوريا والعالم بأسره في مواجهة هذا الفيروس أمر لا مهرب منه

من الحرب إلى الوباء... مصير مجهول

للشهر الثاني على التوالي، تقضي صفاء كامل أيامها في الغرفة الصغيرة التي تستأجرها بمدينة ميلان الإيطالية، والتي جاءت إليها من سوريا في شهر أيلول/ سبتمبر الفائت، لتتابع دراستها وتحصل على ماجستير قانوني بالتنمية المستدامة.

لم تفكر صفاء باحتمال العودة إلى سوريا عندما بدأ الوباء الجديد بالتفشي، فهي على أعتاب الفصل الدراسي الثاني، والأمور كانت تبدو أسهل من المتوقع قبل أن تُغلق البلد أبوابها، حين تحولت لواحدة من أعلى بلدان العالم وتيرة من حيث الإصابات والوفيات: "وحتى عندما بدأت الإجراءات تصبح أكثر شدة، قررت البقاء ومواجهة المجهول، فما الفرق عن المجهول الذي عشناه في سوريا لسنوات طويلة؟"، تقول الفتاة العشرينية لرصيف22.

"على الأقل لا زال الناس في بيوتهم آمنين، ولا زالت كل المواد متوفرة وبالأسعار نفسها، على عكس ما حدث ويحدث في سوريا، حيث تتضاعف أسعار معظم المواد مع كل أزمة جديدة"

اختبرت صفاء أثناء الحرب السورية ظروفاً تصفها بأنها "صعبة للغاية"، كالنزوح من مكان لآخر وعدم توفّر المواد الغذائية، وتصف هذه التجارب بأنها أكثر صعوبة بالتأكيد، مما تعيشه اليوم في ظل الحجر الصحي والإغلاق شبه التام للبلاد: "على الأقل لا زال الناس في بيوتهم آمنين، ولا زالت كل المواد متوفرة وبالأسعار نفسها، على عكس ما حدث ويحدث في سوريا، حيث تتضاعف أسعار معظم المواد مع كل أزمة جديدة"، تقول.

تقارن الفتاة أيضاً بين الخدمات التي تحصل عليها في مكان إقامتها الجديد، كالكهرباء والإنترنت والرعاية الصحية والمواصلات، وبين ما يعيشه أهلها في سوريا، حيث يسوء وضع البنى التحتية والخدمات، وترتفع أسعار كثير من الأمور التي تغدو أشبه بالرفاهية، فتشعر بحزن كبير.

وتقضي صفاء معظم وقتها في تحضير الدروس والواجبات والامتحانات، فلا يترك لها ذلك سوى متسع قليل من الوقت لممارسة بعض الرياضة والتواصل مع أهلها وأصدقائها، وتضيف: "لا أفكر كثيراً بموضوع كورونا فلا وقت لدي، لكنني عندما أعود لتصفح الأخبار أتذكر كم أنا قلقة على أهلي ومعارفي في سوريا. الفيروس هنا لا يشبه الفيروس في بلدي على كل الأصعدة، الاقتصادية والاجتماعية والصحية، ويشعرني ذلك بكثير من القلق والخوف"، تقول.

يمتلئ الفضاء حولي بقصص مشابهة لما روته منى وليلى وصفاء. أرى فيها ما تبذله هؤلاء النساء من جهود كبيرة للتعامل مع صعوبات انتشرت مع انتشار الفيروس والمرض، وواقع مثقل بذكريات أليمة لا تبارحهنّ. تبدو أحياناً وكأنها عزلة مضاعفة، وتغدو المقارنة بين سوريا والعالم بأسره في مواجهة هذا الفيروس أمر لا مهرب منه. تقول لي صديقة تعيش فترة الحجر الصحي في الغربة أيضاً: "أفكر بسوريا طوال الوقت، أشعر بها بعيدة وقريبة في آن معاً. بعيدة لأنني عاجزة عن العودة، وقريبة لأنني أتابع الأخبار في كل لحظة، وكأن ما يحدث حولنا أعاد بناء علاقتي بها بشكل مختلف".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard