شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ماذا لو أضحت رائحة البشر خليطاً من المعقّمات؟

ماذا لو أضحت رائحة البشر خليطاً من المعقّمات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 21 أبريل 202002:23 م

ماذا لو تلاشت رائحة القهوة من خيالاتك الصباحية، لتحلّ مكانها رائحة الكحول والمعقمات؟ لا شيء مستبعد اليوم، فمن كان يتخيّل أنه سيعيش حجراً صحياً في العام عشرين عشرين؟ كل شيء معقم ورائحة الكلور في كل مكان، فهو رفيقك الحميمي الآن وشريكك في حفلات التعقيم، بعد كل خروج اضطراري من المنزل.

حتى لو التقيت بعض الأصدقاء في رحلة جلب الأغراض اليومية، لا مكان للاقتراب والملامسة، لن تبقى رائحة الآخر عالقة بيديك بعد كل مصافحة. يقولون المصافحة ليست إلا واحدة من الطرق التي نجرّب بها رائحة الآخرين، جاء كورونا ليقضي في طريقه على أي رائحة متبقية، وليوحّد البشر برائحة واحدة: رائحة التعقيم في كل مكان وكأننا في مستشفى كبير.

ماذا لو طالت الجائحة وتحوّلت إلى أسلوب حياة؟ ماذا لو أضحت رائحة البشر خليطاً من المعقمات؟ ماذا سيحل مكان الرائحة المميزة لكل شخص؟ شيئاً فشيئاً ستتضاءل الرغبة في اللمس والشم وفي مشاركة حواسنا مع الآخرين، عند كل خروج يصبح تعمّد عدم ملامسة الأشخاص والأشياء فعلاً فطرية، الابتعاد وترك المسافات، حتى بدون وجود كمّامة ستفقد الرغبة مع الوقت بالشم، بالارتباط بالأشياء عن طريق الرائحة.

 المصافحة هي إحدى الطرق التي نجرّب بها رائحة الآخرين، جاء كورونا ليقضي في طريقه على أي رائحة متبقية، وليوحّد البشر برائحة واحدة: رائحة التعقيم في كل مكان وكأننا في مستشفى كبير

إن الرائحة هي أول ما يربط الجنين بأمه، هي بصمة تخصنا وحدنا، وهي التي تحدد انجذابنا لجسد دون غيره، لا يمكنك أن تحب أحداً لا تجذبك رائحة جسده وحتى رائحة أنفاسه. في رواية العطر، لباتريك زوسكيند، كانت الصدمة الأكبر هي اكتشاف "غرنوي" أنه إنسان غير مكتمل، منقوص الهوية لأنه بلا رائحة، لا تغدو هويتنا مكتملة من دون رائحة، فرائحة أجسامنا هي الشيء الوحيد الذي لا يمكننا تزييفه أو تجميله.

بالنسبة لي، لطالما كانت الروائح تستحضر الأمكنة، لكل منزل وشارع رائحة تخصه وحده، لا يمكنني فصل رائحة الياسمين والنارنج عن حارتي القديمة، ولا رائحة الكتب المكدسة في صندوق الكنبة عن طفولتي، ولا إنكار الارتباط الوثيق بين رائحة الطبخ المنزلي وأطباق مثل ورق العنب والملوخية بأحاسيس مثل الأمان والاستقرار.

عندما تتجول بذاكرتك في حارات دمشق، لا تستطيع فصل رائحة البهارات النفاذة عن سوق البزورية، ولا رائحة الكعك عن مخابز ساروجة، زخم العطر المعبأ الرخيص عن سوق الحمراء، رائحة الطباشير في أحد الصفوف المدرسية ونوبات الحساسية، رائحة عطر معلمة المرحلة الابتدائية التي تشبه بطلات قصص المكتبة الخضراء، رائحة "الشحّار" المنبعث من مدفأة المازوت أيام الشتاء الرتيبة في أحد المدارس الحكومية، رائحة البنزين المحببة عند الكثيرين، والتي تدفعني للغثيان أثناء الانتظار في طابور السيارات الطويل المصطف أمام الكازية يوم الخميس، رائحة المعمول المرتبطة باليوم الذي يسبق العيد، رائحة الكحول الرخيص المرتبط بيوميات بؤس أحدهم، رائحة التبغ التي تشربتها لحية أحد المثقفين المفلسين في نقاش محتدم بعد عرض مسرحي ممل، رائحة الشواء المنبعثة من الشرفات يوم الجمعة والمرتبطة بالماضي، مع ندرة هذه الظاهرة حالياً.

لا تنفصل الروائح عن الأمكنة، فلا يمكنك أن تحب الغابة دون أن تحب رائحة التربة المبللة وعبق الندى العالق على أوراق الأشجار، ولا يمكن أن يكون البحر ملاذك دون أن تسرح بك رائحة الملوحة بعيداً، أحياناً حتى رائحة الغبار، قد تعيدك إلى أماكن ألفتها سابقاً.

تدفعني هذه الأيام للتساؤل عن رائحة الخوف؟ هل من الممكن أن تكون رائحة المعقمات إحداها؟

تسير الروائح بالتوازي مع الأزمنة، وتسرح بنا بعيداً نحو وقائع خلناها ولّت منذ زمن، فرائحة العطر قادرة على إعادة الأشخاص إلى الذاكرة بثوانٍ، وتصنيفهم حسب العبق المستعاد، فتلك برائحة زهرة البرتقال وذاك خليط من الزنجبيل والهيل والغاردينيا، وآخرون برائحة الورد والفانيليا، ولكن أكثرهم سحراً هم المجبولون من روائح غامضة لم تحدد بعد، لو أغمضت عينيك وحاولت اقتفاء الذكريات عن طريق الرائحة، كل منزل سكنته، كل زقاق تعرفه عن طريق رائحة أشجاره، لو سرحت مع أغنية سعاد ماسي وشممت رائحة "مسك الليل"، فقد سافرت إلى عوالم أكثر سحراً من الزمن الأصلي ذاته.

ليت الروائح تعيدنا إلى الأزمنة الجميلة فقط، فالروائح قادرة على تحفيز ذاكرتنا على استعادة مواقف مؤلمة أو حثنا على استرجاع خبرات قاسية عايشناها في الماضي، لذلك ينفر البعض من عطور جميلة قد تعيد إليهم ذكريات موجعة، وخصوصاً الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، حيث يبقى أثر الأحداث التي عاشوها ملازماً لهم لفترات طويلة.

تدفعني هذه الأيام للتساؤل عن رائحة الخوف؟ هل من الممكن أن تكون رائحة المعقمات إحداها؟ وهل بإمكاننا تخيل الموت دون أن نشتمّ رائحة الجثث وبرادات الموتى، المستشفيات ورائحة التعقيم تجول في الأنحاء؟ فهل جاءت هذه الجائحة لتعرّي كل محاولات العالم لتجميل وحشيته وتغليفها بإطار إنساني، لتذكيرنا مرة أخرى أننا محاطون بأكوام من الجثث والأنقاض التي تجاهلناها مراراً حتى تفاقمت رائحتها، وأضحت كل المحاولات للتطهير بلا جدوى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard