شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
سيناريوهات العدوى... سرد عن خطر اليومي المبتذل

سيناريوهات العدوى... سرد عن خطر اليومي المبتذل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 18 أبريل 202007:24 م

يسمّي الخطيب ومعلم البلاغة الروماني شيشرون، القدرةَ على التذكّر الحرفي لنصوص طويلة أو صور معقدة بـ"فن الذاكرة الخفي"، كلمة فن هنا تحيل إلى فرع من فروع البلاغة- mnemonics، الذي إن اتقنه أحدهم استطاع حفظ وتذكّر واستعادة ما سمعه أو رآه باستخدام عمارة "فنية" داخل العقل، تقسّم فيها الذاكرة إلى غرف وحجرات وطوابق، تحوي "الكلمات والصور" التي تُستعاد متى يريد المحامي، الخطيب، الممثل أو الشاعر استخدامها، هذا الفن وازدهاره حتى العصور الوسطى كان مرتبطاً بشرط العصر حينها، لأن مهارات الذاكرة حالياً فقدت جدوها، وأصبحت استعراضية للترفيه والمسابقات، فـ"كل شيء" الآن قابل للاسترجاع بلمسة زر.

من جانب آخر، طرح المسرحي البرتغالي تياغو رودريغز، في مسرحيته "عن ظهر قلب"، سؤالاً مشابهاً عن جدوى الذاكرة، سواء لدى الممثل المجبر على حفظ النص أو لدى الشخص العادي، الذي بالرغم من شدة التطور التي شهدها، ما زال مفروضاً عليه "حفظ" بعض الأشياء وتذكرها في أي لحظة، كرقم الهاتف، رمز بطاقة الائتمان وكلمات السرّ المختلفة، وبالرغم من سرعة الوصول إلى المعلومات، ما زال "الحفظ" و"الاسترجاع" البشري مهارة لا يمكن الاستغناء عنها، وهناك دوماً سؤال حول "جدوى" ما نتذكره، وأسلوب تذكرنا له، وتظهر أهمية هذا السؤال، في ظل الأحداث المرعبة أو تلك التي لا يجب أن ننساها ويمكن اعتبارنا شهوداً عليها.

هذه العلاقة بين الذاكرة وبين ما حدث ماضياً، تظهر الآن بشدة في ظل جائحة كورونا العالميّة، آلاف الشهادات التي تصف النجاة والمعاناة مع المرض وأسلوب العلاج، لكن هناك دوماً تفصيل حوله لبس، و هو أسلوب العدوى، أو "حدث العدوى" الذي يحيط به الغموض أو اللايقين، مثلاً، وصف صديق لي كيفية إصابته بكورونا، قال أنه كان مع شريكه في السوبر ماركت، وكان حذراً أثناء شراء الأشياء، لكنه "يتذكر" أنه لمس واحداً من الأكياس المعلقة كي يضع فيها ما اشتراه، ثم قام بعدها بلمس وجهه، وهذا الحدث بـ"الضبط" هو ما تسبب بإصابته وشريكه بالمرض، كلاهما الآن بحالة مستقرة ولا خطر على حياتهما.

بعكس تمارين الذاكرة السابقة أو تلك التي تحدث عنها رودريغز، ذاكرتنا المرتبطة بالحياة اليومية تحذف و تلغي الكثير من التفاصيل، فلا عمران للذاكرة أمام لا تناهي الحياة اليومية، وحين نقرأ أو نستمع إلى شهادات عن العدوى، نرى أنفسنا أمام ما تسميه شوشانا فيلمن، بـ"خيانة الشاهد"، ذاك الذي اختبر بجسده حدثاً صادماً دون أن يدركه كلياً، لتأتي الشهادة محاولة للإحاطة بالحدث على أساس استعادة ذكراه، وفي حالة العدوى، لا وجود لحدث صادم يمكن للشهادة أن ترسم معالمه بدقة، كون الشاهد نفسه لم يدركه، والمقصود هنا لحظة العدوى بدقة، فهناك حدث قبل العدوى في قصة صديقي وهو "الذهاب للتسوق" وهناك ما بعدها "حدث الإصابة"، دون يقين واضح حول لحظة العدوى نفسها، وهنا تظهر خيانة الشهادة، فإن كان تدخّل السرد أسلوباً لخلق تأريخ شخصي من نوع ما للعدوى، تظهر الخيانة في لحظة العدوى، التي تنتمي إلى لا تناهي الزمن اليومي المبتذل، الذي لا يمكن تذكره بأكمله بدقة حتى من قبل شيشرون أو الأصمعي نفسه، مع ذلك هناك رغبة سردية بتعيين هذه اللحظة وضبط إيقاعها، لمعرفة لحظة التحول بدقة، تلك التي حصل ضمنها المسّ بين الخارج الخطر والداخل المعقم.

يتدخل الخيال والظن أثناء استعادة لحظة العدوى، خصوصاً أنها لا تمثل حدثاً جللاً أو حدثاً "لا ينتمي للحياة اليومية"، هي فعل شديد الاعتيادية، "تذكّره" شديد الصعوبة، وعادة ما يتم التركيز في الشهادات على تجربة النجاة وتجربة المرض، أما لحظة العدوى فتظهر أشبه بالتخمين بسبب لا تناهي احتمالاته.

يتدخل الخيال والظن أثناء استعادة لحظة العدوى، خصوصاً أنها لا تمثل حدثاً جللاً أو حدثاً "لا ينتمي للحياة اليومية"، هي فعل شديد الاعتيادية، "تذكّره" شديد الصعوبة، وعادة ما يتم التركيز في الشهادات على تجربة النجاة وتجربة المرض، أما لحظة العدوى فتظهر أشبه بالتخمين بسبب لا تناهي احتمالاتها، ليجد الشاهد نفسه مضطراً إلى تركيب صور وكلمات لوصف "حدث العدوى" تشابه من يصمم حبكة، نشاهد ملامحها في فيديو مصوّر لشهادات مصابين بكورونا، وفيه لا تعلم المتحدثة كيف التقطت العدوى، من المصنع أو من صديقة لها، ذات الأمر مع شاهد آخر، يحاول تذكر إن كان السبب هو "سلامه على أحدهم"، أما من بعده فيتذكر أنه كان على نفس الطاولة مع صديقه الذي عرف لاحقاً أنه مصاب.

ضرورة تحديد أسلوب العدوى أو لحظتها ترتبط بالنجاة نفسها والحديث عنها، لا بدّ من نقطة علّام في الحكاية تفصل ما بين "زمن الصحة" و "زمن المرض"، هذه اللحظة بدأ فيها اختلاف الشاهد عن "الأصحاء"، لكن سطوة اللايقين تجعل الشاهد نفسه يشكك بحكايته وبوعيه بذاته ضمن العالم، خصوصاً أن لحظة العدوى تنتمي إلى لا نظام الحوادث، أي ليست نتيجة عطب مادي في تكوين العالم، بل هي "حادث" سببه الاستخدام اليومي والمعتاد لهذه المكونات، كركوب السيارة، الحصول على كيس، السلام باليد، أي هي ضمن ما لا يمكن التنبؤ به ولا يمكن الوقاية منه بصورة كاملة، ليأتي السرد هنا ضرورة لإعادة ترتيب هذه المكونات، لخلق حكاية تكون عبرة للآخر من أجل الحذر، وتماسك حكاية الشاهد نفسه، ليتخلص من أثر الصمت الذي بدون الشهادة العلنية يمكن له أن يأكل العقل، لكن الحذر من ماذا بالضبط؟ كل العالم الخارجي خطر، لم التركيز على حدث العدوى؟

ضرورة الحكاية هنا مرتبطة بالرعب، أي العجز عن الفعل لحظة العدوى، لتأتي الشهادة محاولة لنفي الخطر المجهول وتعيينه بدقة لاجتنابه، كما أنها "علاج" للشاهد نفسه الذي يحتاج لأن يتحدث وأن يستمع له الآخرون، خصوصاً أن "حكايته" تحوي "معرفة جسدية" اكتسبها ولابد له من نقلها، لكنها معرفة هشة، أثرها عاطفي أكثر من معرفي بسبب سطوة اللايقين.

ضرورة تحديد أسلوب العدوى أو لحظتها ترتبط بالنجاة نفسها والحديث عنها، لا بدّ من نقطة علّام في الحكاية تفصل ما بين "زمن الصحة" و "زمن المرض"، هذه اللحظة بدأ فيها اختلاف الشاهد عن "الأصحاء

خلق حكاية كبرى للوباء

تساهم هذه الحكايات على المدى البعيد برسم تاريخ جماعي للمرض والعدوى، وذلك لخلق حكاية كبرى للوباء، نحن أمام ملامح لنظام حوادث جديد، المفترض أنه انتهى مع زمن الطواعين الكبرى، وربما قد يُصمم العالم لاحقاً على أساس احتمالات العدوى التي تطرحها هذه الحكايات، كونها تحاول رصد كل ما هو يومي وخطر، أما "النقص" في هذه الشهادات أو أثر اللايقين فيمكن لمسه في الإحالات إلى لوم الذات الذي لا تتحرر منه الضحية بفعل السرد، هذا اللوم سببه أن المسؤول عن العدوى في حالة الوباء هو الشخص نفسه (إن كنا نتحدث عن السياق المثالي للحجر الصحي)، إي هناك دوماً تشكيك بأداء "الأنا" ونظام الوقاية الذاتي، لتأتي الحكاية كأسلوب لتحفيز عمارة الذاكرة لدى المستمعين، كون كل واحد منهم مهدداً في لحظة ما بأن يصاب بالعدوى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard