شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الصناعة الثقافية واستراتيجية الهمس في سوريا

الصناعة الثقافية واستراتيجية الهمس في سوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 8 أبريل 202002:00 م

"الدكتور لا يريد ذلك!، وأشار بيده إلى صورة بشار الأسد فوق رأسه"، هكذا ختم رياض عصمت، وزير الثقافة في سوريا، حديثه مع المخرج والكاتب الذي وصل حديثاً إلى سوريا بعد إنهاء دراسته، وأراد أن يعلم سبب عدم حصوله على موافقة لنص مسرحي يريد إخراجه وعرضه على واحدة من خشبات دمشق.

الحكاية السابقة متكررة في تاريخ سوريا الأسد، ففي الكثير من الأحيان لا يوجد وثائق رسمية، ولا أسباب واضحة للمنع أو السماح، مجرد تعليمات شفهية واتفاقات شخصية، خصوصاً أن رأس السلطة، على علاقة مباشرة مع الفاعلين في الوسط الثقافي، سواء عبر اللقاءات الشخصية أو الرسائل الشفهية، هناك ديناميكية قوة، لا يكون قرار "المنع" أو "الظهور" فيها واضحاً، كالقصة التي تذكرها الباحثة الإسبانية دوناتيلا ديلا راتا، في كتابها Shooting a Revolution: Visual Media and Warfare in Syria، إذ تخبرنا عن مسلسل "السّوار" الذي كتبه رياض نعسان آغا، ومُنع من العرض في سوريا، وكيف أن آغا في لقاء خاص مع حافظ الأسد، سأله الأخير عن المسلسل، فأجاب آغا بأن الرقابة منعته من العرض على القنوات السورية، فـ"استهجن" الأسد الأمر، ولم يعرض أن يتدخل من أجل عرض المسلسل ، و"لم يقم بأي شيء".

كتاب ديلا راتا قائم على الخبرة الميدانية، إي تماس الأخيرة مع صناع "المسلسلات" في سوريا، إلى جانب بحثها في التراث الأكاديمي والفكري، ويغطي مرحلتي قبل الثورة وبعدها، وتشرح فيه آليات الإنتاج وعلاقتها مع السلطة، سواء كان الفاعلون الثقافيون "مع" السلطة أو "ضدها"، وتشير إلى تغير أشكال الإنتاج وظهور الإنترنت، وأثر ذلك على إنتاج الصورة في سوريا.

لن نتحدث عن كل ما في الكتاب، بالرغم من غناه وتقديمه لمفاهيم وقراءة فريدة للمنتج البصري والفني في سوريا، لكننا سنركز على الفصل الثاني من الكتاب الذي يحمل عنوان "استراتيجية الهمس"، لكن قبل البدء، لابد من الإشارة إلى تحليل ديلا راتا لظاهرة "المسلسلات" ودورها "التنويري" في سوريا، إذ تبنتها السلطة، والأسدين، واستُخدِمَت كأسلوب فني يقدم حكايات متخيلة لتعميق أيديولوجيا وخطاب السلطة، رسم نماذج للمواطن المطيع، وكيفية التعامل مع السلطة وممثليها، وحتى إن انتقدت هذه "المسلسلات" النظام القائم، فهي تقوم بذلك عبر "تعليمات" مسبقة، إذ يتم اختيار من يتم انتقادهم وكيف يتم انتقادهم.

مثلاً، يوجه عادة اللوم إلى "الشعب" ولبعض الأفراد في السلطة فيما يخص مشكلات الفساد، دون توجيه أصابع الاتهام بوضوح لشخص الرئيس، سواء عبر الاسم أو عبر الإشارة، وكأنه فوق النقد، وعجزه عن حل المشكلات نابع من فساد البنية نفسها، ولا "سلطة" مباشرة له كون الكل مشتركاً في بنية الفساد، والأهم، ترفعه عن النقاد هو حفاظ على صورته "النظيفة" أمام المشاهدين.

هنا يبدو الانتقاد أو "التنفيس" عقيماً، مجرد أسلوب للإشارة إلى أعراض المشكلة لا المشكلة ذاتها، ليأتي "التنوير" الذي يدعيه النظام وصناع "مسلسلاته" أشبه بصدى مبتذل للسلطة، ونصائح مضحكة عن التخلف الاجتماعي ودور "الشعب" في النهوض بالأمة، في تجاهل تام لأصل المشكلة، ما يجعل المسلسلات ومنتجيها على توافق تام مع "السلطة" وأهدافها.

رغم الانفتاح الذي ظهرت فيه صورة سوريا في عهد بشار الأسد، إلا أن المسلسلات بقيت على تماس مباشر مع السلطة، وما تريد نقله من رسائل وأخبار، ولم يتحرر صناعها من سطوة "القصر"، هذا التماس الرسمي وغير الرسمي وارتباط المسلسلات بـ"المناخ العام"، تصفه ديلا راتا بـ"استراتيجية الهمس" 

رغم الانفتاح الذي ظهرت فيه صورة سوريا في عهد بشار الأسد، إلا أن المسلسلات بقيت على تماس مباشر مع السلطة، وما تريد نقله من رسائل وأخبار، ولم يتحرر صناعها من سطوة "القصر"، هذا التماس الرسمي وغير الرسمي وارتباط المسلسلات بـ"المناخ العام"، تصفه ديلا راتا بـ"استراتيجية الهمس"، وهي "نظام اتصالات تتمكن عبره الأطراف من النقاش والاتفاق على المسائل التي تستحق أن تنشر للعلن"، يتضح مفهوم التعريف حين نتذكر الحكايات في بداية هذا المقال، ونتعرف على العلاقة بين الفاعلين الثقافيين والسلطات السياسية، فهناك توصيات وملاحظات متبادلة، اتصالات خفية وعلنية، لا تأخذ فيها الهمسات شكلا عامودياً، أي أنها لا تُفرض من طرف على طرف آخر، فالسلطة لا تطلب بشكل مباشر أو تأمر صناع الدراما بأن يقدموا شيئاً ما، بل تترك الأمر مائعاً، والعكس ممكن، أي أن يقدم أو يدافع الصناع عما لديهم من أفكار أمام "السلطة" و"القصر"، في حال رأوا فيها ما هو مفيد على المستوى الاستراتيجي.

التحالف الرقيق بين "صناع الدراما" والسلطة واضح وعلني، بشار الأسد دعا الممثلين لتقديم حلول للـ"أزمة في سوريا"، وكأنهم أصحاب سلطة سياسية وكلمة مسموعة وممثلون عن الشعب، هذه العلاقة تظهر أيضاً في المنتجات المتخيلة التي يقدمونها والحكايات التي ترسخ شكل السلطة وتنتقد الأفراد لا رأس الهرم، هناك معايير وأعراف يمكن تغييرها، لكن بناء على هذه الهمسات والمصالح المرتبطة بها، خصوصاً أن القائمين على الإنتاج، أي شركات الإنتاج، مقربون من السلطة أو أعضاء فيها، كحالة محمد حمشو ورامي مخلوف.

تغيرت الأهداف الاستراتيجية والآنية للـ"دراما" بعد ثورة 2011، وأصبحت انفعالية تواكب الحدث من وجهة نظر النظام، لكن بقيت استراتيجية الهمس قائمة في العلاقة مع دول الخليج مثلاً، التي عادى بعضها النظام السوري، لكنها في ذات الوقت بقيت سوقاً لتصريف المسلسلات، الأهم، أثر همسات الرئيس ما زال حاضراً حتى عند أولئك الذين عادوه مباشرة، كحالة مكسيم خليل الذي لا مشكلة لديه بلعب دور في مسلسل "غداً نلتقي"، مع نظيره عبد المنعم عمايري بالرغم من اختلافهما السياسي، وكأن "اللعب" أمام الكاميرا أسلوب لخلق الحوار بين مكونات الشعب السوري، بغض النظر عن كل ما يحكم هذا "الحوار" من عدم التساوي بين طرفيه، حتى أثناء "اللعب".

أثمان السذاجة والخوف

لا تنفي سياسة الهمس الرغبة لدى "الفنانين" بالعمل والإنتاج، لكنها تهدد الجانب الإبداعي و"جدواه" والأثر الذي يمكن أن يتركه، بسبب خضوعه للخوف والرعب الذي يشكله النظام السوري، فالتهديدات الجسدية قائمة، وقد يتعرض لها الذين يحاولون الخروج عن نظام الطاعة، كذلك هناك التهديد بفقدان العمل، لكن تجاهل هذه "الهمسات" والعلاقة مع الأسد وحاشيته، والتغاضي عن تجلي هذه العلاقات "فنيّاً"، يعكس إما سذاجة القائمين على هذه الصناعة أو خوفهم من خسارة أعمالهم، أو موقفهم السياسي المشين.

الاعتقاد لدى البعض أن مساحة اللعب والمساحة المتخيلة يمكن أن تتحولا لفضاء للحوار، يبدو ساذجاً، حين تكون الهمسات وأيدي السلطة هي من تحرك عملية الإنتاج والشكل الجمالي، فنعم هناك انتقاد للشكل القائم، لكنه انتقاد سطحي، وظهور شخصية مسيحية في مسلسل باب الحارة لا يعني التعايش بين مكونات المجتمع السوري، بل انعكاس ساذج لموقف السلطة المتعلق بتعايش الأقليات، دون التطرق إلى عمق هذه المشكلة القانوني والسياسي.

الأهم، أن هشاشة هذا الشكل من الإنتاج الفني وعيوبه الجماليّة والحكائية انكشفت، إثر انفتاح العالم على منصات البث الرقمية وهجرة الكثيرين إلى الخارج، وكأن هذه المهنة "الدراما" لا يمكن ممارستها إلا في المساحة العربية، فالكثير من الممثلين مثلاً وجدو أنفسهم مجبرين على العودة إلى العمل في الفضاء السوري، وتمييع مواقفهم السياسية من أجل العودة للعمل ضمن هذه الدائرة التي تتحرك بين سوريا ولبنان ودول الخليج.

أيضاً، "الحوار" الذي يُظن أن الدراما التلفزيونية تخلقه أو تقدم صورة متخيلة يمكن الاقتداء بها، أصبح مبتذلاً، بسبب المباشرة من جهة، والخوف من الإشارة إلى مصدر العطب بصورة واضحة، واعتماد الغموض وعدم الوضوح، والأهم، تحول هذه "المسلسلات" إلى رد فعل سياسي جعلها في بعض الأحيان إهانات مباشرة للشعب السوري، كمن يرى صورة ابنه المتوفى بسبب قصف النظام في أحد المسلسلات، أو كأن نشاهد السخرية من ضحايا الكيماوي في مسلسل آخر.

كيف يمكن تصديق الرسائل الغامضة أو الفجة خلال ثلاثين حلقة متخيّلة، أمام ما يُبث يومياً وعلى مدار العام من دمار، ومن سباب موجه بصورة شخصية للأسد، وخصوصاً أن الأدوار المتخيلة التي قد يلعبها مؤيد ومعارض كحالة خليل وعمايري، تراهن على معرفة الجمهور بخلفيات الممثلين السياسية، وتسليهم بزمن "اللعب" على حساب ذاك "السياسي" وهذا ما يشكل تناقضاً لدى الجمهور نفسه وأحياناً سخرية، كيف يمكن أن نصدق من يمثل دوراً في مسلسل "مؤيد" وكان قبلها يشتم السلطة والفنانين المؤيدين؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard