شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"اصطفل/ي" كالرب في اليوم السابع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 5 أبريل 202001:41 م

لا تسمح المجتمعات، أقصد الرأسمالية التي أنشأت هذه المجتمعات، بالعزلة، يجب أن تتحلّى بالحد الأدنى من المواضعات الاجتماعية التي تجعلك، ربما، تسقي نبتة جارك الجافة، أو تطعم قطته الصغيرة: "صباح الخير يا جار، صباح الخير أيها الساكن في البيت الذي يلي/يسبق/فوق/تحت بيتي"...

لا تسمح المجتمعات بالعزلة إلا للأشخاص الذين هم خارج منظومتها الأخلاقية والمالية أيضاً: العاهرات، القوّادون، القتلة المتسلسلون، المجرمون وموزعو المخدرات، لأن استمرارية المجتمع قائمة على التجمعات السكنية وعلى استهلاك كميات التعاطف الوهمي اللازم للاستهلاك المادي، فدخولك في منظومة التعاطف الاجتماعي الوهمي هذه يسمح لك باستهلاك كميات محترمة من ورق الهدايا، المنظفات والثياب، كما استهلاك محارم التواليت والأضواء وأيضاً، وليسمحوا لي جماعة حقوق الحيوانات، استهلاك الحيوانات الأليفة. المجتمعات لا تسمح بالعزلة أبداً، تسمح لك بالوحدة فحسب.

في المدن، إذا حاولت الانعزال قليلاً فقط ستصبح هدفاً للشكوك، وفي أفضل الأحوال ستكون هدفاً للباعة الجوالين، إعلانات المخازن الكبرى، اتصالات شركات التأمين وحملات التعداد الوطني، لكنها تسمح لك بالانفراد بمشاعرك المبغضة لكل شيء: للوطنية والمواطنة والإنسانية وحقوق الإنسان، للآلهة والأديان، هذا شأنك، لكن يجب أن تشارك على الأقل في احتفال الكريسماس، أن تضع بعض المصابيح الملونة على شرفتك وأن تعلن ولاءك للنظام الاجتماعي القائم، لا تصمْ رمضان، لا تذهب إلى الجامع ولا تصلِّ، لكن يجب أن تردّ على "عيد سعيد" بجملة: "علينا وعليكم"... هذا كل شيء، أما في الداخل، في جسدك المضطرم، في غرفتك المغلقة، في جحيمك المسقوف بتواريخ وأمكنة، فلتكن وحيداً ما شاءت لك الشياطين، لتكن وحيداً كالرب في اليوم السابع، "اصطفل"...

المدن اختبار معادٍ للعزلة لكنه مولّد للوحدة، يزداد هذا الشعور في التجمّعات الكبرى: الاحتفالات السينمائية في الهواء الطلق، العروض الحية للفرق الموسيقية، المناسبات الكبرى بالألعاب النارية والأعياد الوطنية والدينية، تظهر الوحدة فقط كرائحة، ثم كنسيم بارد، وكخبير في الوحدة أستطيع شخصياً أن "أشمّ" رائحة الوحيدين، أتعرّف عليهم وسط الجموع: لديهم تلك الرائحة التي تشبه الفناء، النسيس البطيء لكومة عشب رطب، ثمة ما يتموّت بداخلهم، كريّات بيضاء أو حمراء، خلايا أو مشاعر، رائحة جثث باردة بالإضافة لرائحة العفن، البول، عطور الاستحمام والتحلّل البطيء.

كيف نقيس الوحدة؟ كيف نقيس ما لا قِبَل لنا بتحديده أو تأطيره أو وضعه في كفّة ميزان لوزنه؟ يبدو الأمر مثل تعريف الروح: لا وزن لها، رغم أنها قابعة هناك، في داخلك، كفراشة توشك على الإفلات، وتؤلمك أحياناً فتقول: "عم يوجعني"، لكنك لا تعرف أين ولا كيف؟

وزن الوحدة "غير المحتمل"

إذا كنا نقيس الأطوال بالأمتار والأعمار بالسنوات، المسافات بزمن قطعها والمساحات بعدد قاطنيها، فكيف نقيس الوحدة؟ كيف نقيس ما لا قِبَل لنا بتحديده أو تأطيره أو وضعه في كفّة ميزان لوزنه؟ يبدو الأمر مثل تعريف الروح: لا وزن لها، رغم أنها قابعة هناك، في داخلك، كفراشة توشك على الإفلات، وتؤلمك أحياناً فتقول: "عم يوجعني"، لكنك لا تعرف أين ولا كيف؟

لكن الوحدة، وحدتي على الأقل، قابلة للقياس بعدد المرات التي أنظر بها إلى مرآة الحمام لعدّ البثور أو التجاعيد أو الخصلات البيضاء، بفناجين القهوة الباردة على مختلف الأسطح المتاحة، بالسجائر المعاد إشعالها مرة تلو الأخرى، بصور الأحباء على الجدران، بزجاجات العطر نصف الممتلئة وبأنابيب معجون الأسنان، بالكتب التي بدأت بقراءتها وبالمقالات والقصائد التي لم تنته، بالخطوط المرسومة على الجدار لما يمكن أن يكون عليه طول "روزماري" بعد الغياب، بعدد المرات التي أوشك فيها على البكاء ثم أتوقف، بعدد المرات التي أبدأ فيها بالبكاء ولا أتوقف حتى أنام.

الروايات التي تتحدث عن الوحدة عديدة، ويمكن منحها وزناً حتى، فتستطيع وأنت تقترب من محادثة زجاجة المياه وطاولة الطعام وربما مصباح غرفة النوم، أن تقيس بها وحدتك الخاصة، نستطيع مثلاً أن نعطي ترتيباً من عشر درجات لكمية الوحدة التي نشعر بها عندما نقرأ رواية ما، كما يفعل المشاهدون والنقاد لتقييم الأفلام السينمائية أو المسلسلات التلفزيونية، ونضيفها لملخّصات الكتب، بحيث تتضمن الإعلانات، إضافة إلى سعر الكتاب وكلفة الشحن، درجة الوحدة المتضمنة، على سبيل المثال أعطي قصة "التحوّل" لكافكا، الوزن الأقصى من الوحدة، 10 وحدات، بحيث تكون تلك الرواية "مسطرة" ما للوحدة، نقيس عليها، ويمكنك، قارئي العزيز، أن تجمع حصيلة التقييمات التي حصّلتها رواياتك المفضّلة، لتَخْلُص إلى وزن وحدتك "المحتمل"، وبالتالي تستطيع معرفة حدّك الأعلى من الكآبة، وبناء عليه تقرر شراء وقراءة رواية أو لا.

مثلاً، أعطي مدار الجدي لهنري ميللر 9.5 وحدة، صحراء التتار لدينو بوتزاتي 7.5 وحدة، تقرير برودويك لفيليب كلوديل 7.5 وحدة، العطر لزوسكيند 8 وحدات، روبنسون كروزو لدانيال ديفو 5 وحدات، العار لسلمان رشدي 7 وحدات، الرواية التي سأكتبها يوماً ما بعنوان "خراء في السماء" 7.5 وحدة... وهكذا.. إما إذا كان كتابك المفضل أحد الكتب السماوية، فاعذرني، حالتك ميؤوس منها تماماً.

دليلك إلى الوحيدين

إذا مزجت قهوة اليوم مع قهوة البارحة، إذا وضعت طعام السبت وشراب الأحد على مائدة الأربعاء فأنت وحيد.

وإذا اخترت المومس نفسها مرتين، وإذا ابتعت لها شوكولا فأنت وحيد.

وإذا كتبت رسائل إلى الإذاعة المحلية تطلب فيها أن يضاعفوا الإشارة لأنك لا تسمع أحداً في الشارع فأنت وحيد.

وإذا تكلمت بصوت مرتفع عن الوحدة ثم بصوت منخفض عن الموت فأنت وحيد.

وإذا لاحظت أن عدد ضحايا تفجير ما حسب الجزيرة هو أربعة عشر قتيل وحسب العربية هو ثلاثة عشر قتيل وجريحان فأنت وحيد.

وإذا كان حيوانك الأليف مروحة السقف وأفضل أصدقائك ثلاجة المنزل فأنت وحيد.

إذا تجوّلت في المطبخ حافياً، وإذا استيقظت على نفس الوضعية التي نمت عليها، وإذا تذكرت أسماء جيرانك، تواريخ الحروب المحلية والعالمية، أرقام قرارات الأمم المتحدة ومساحة ما تبقى من وطنك، وإذا تذكرت أن فرشاة الأسنان الزرقاء هي لك، وإذا صرت تستخدم مفردات كالروح والتعاطف والبارحة والعام الماضي، فأنت وحيد

وإذا همست للنبتة الجافة في ركن الغرفة معتذراً عن شحّ المياه، وإذا تكلمت مع قطة الجارة عن الأفعال والصفات، وإذا حيّيت بكأسك صوراً على الجدار، وإذا تجوّلت في المطبخ حافياً، وإذا كنت تستخدم أدوات الحلاقة القابلة للرمي، وإذا وجدت الحذاء تماماً تحت قدميك، وإذا لم تبدل بطاريات جهاز التحكم كل أسبوع، وإذا كنت تستخدم القهوة سريعة الذوبان أو أكياس الشاي الجاهزة، وإذا استيقظت على نفس الوضعية التي نمت عليها، وإذا وجدت أقلامك تماماً حيث وضعتها، وإذا تذكرت أسماء جيرانك، أعياد ميلاد أبناء أخواتك، تواريخ الحروب المحلية والعالمية، أرقام قرارات الأمم المتحدة ومساحة ما تبقى من وطنك، وإذا وضعت صور بورنو على الجدران أو على شاشة الكومبيوتر، وإذا تذكرت أن فرشاة الأسنان الزرقاء هي لك، وإذا صرت تستخدم مفردات كالروح والتعاطف والبارحة والعام الماضي، فأنت وحيد.

وإذا نمت وحيداً فأنت وحيد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard