شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بعيداً عن المؤامرات والأفلام… خطر

بعيداً عن المؤامرات والأفلام… خطر "هروب" الفيروسات من المختبرات البيولوجية قائم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 20 مارس 202008:26 م

كانت آن تتحدث عبر الهاتف عندما شاهدت زوجها عالم الميكروبيولوجيا هنري بيدسون متوجهاً نحو سقيفة المنزل. أنهت مكالمتها وجلست تنتظره للقيام ببعض التصليحات في الحديقة كما اتفقا، لكنه تأخر. عندما ذهبت لتفقدّه، وجدته غارقاً في دمائه. حزّ بيدسون رقبته بالسكين.

ترك العالم البريطاني رسالة مقتضبة جاء فيها: "يؤسفني أنني فرّطت بالثقة التي وضعها الكثيرون من أصدقائي وزملائي في عملي… أُدرك أن هذا العمل هو الأقل عقلانية الذي أقوم به، لكنني آمل، في النهاية، أن أمنح عائلتي بعض السلام".

مات بيدسون بعد خمسة أيام في المستشفى. كان ذلك في أيلول/ سبتمبر من عام 1978. تابعت الصحف باهتمام خبر انتحاره، لارتباط العالم بمشكلة شغلت الجهات الطبية والناس وقتها، وهي "هروب" فيروس الجدري من المختبر الذي كان يديره في بيرمنغهام، بعدما كانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت قبل ذلك خبر السيطرة الكلية على الفيروس الذي قتل ملايين من البشر.

بعد أشهر قليلة، وتحديداً في شباط/ فبراير 1979، كتب مسؤول الأخبار العلمية في "نيويورك تايمز" ويليام ستوكتون تحقيقاً مطولاً عن زيارته لمختبر أمريكي شبيه بذاك الذي كان يديره بيدسون، وحكى تفاصيل "الإدارة المريعة" لمختبر برمنغهام، والتي سمحت بتسرب الفيروس من قناة صغيرة تصل إلى الطابق العلوي حيث كانت تعمل المصورة جانيت باركر.

التقطت باركر الفيروس وماتت بعد أيام قليلة، ثم نقلت العدوى لوالدتها. وقتها، وُضع 300 شخص في الحجر الصحي وتلقوا اللقاح قبل إعلان السيطرة مجدداً على الأمر.

كتب ستوكتون وقتها: "ألقت هذه الأحداث الضوء على مشكلة صعبة لم يسبق للعلم والبشر أن واجهوها: إذا تمّ القضاء على مرض قديم مميت ومخيف تاريخياً من خلال عجائب الطب الحديث، ماذا يحصل في حال تمّ تخزين الفيروس الذي تسبب به في المختبرات بغرض الأبحاث العلمية؟ من المعروف أن تسعة مختبرات، ثلاثة منها في الولايات المتحدة، احتفظت بفيروس الجدري، لكن ما هي الخطوات التي يتم اتخاذها حتى لا يهرب مرة أخرى في المستقبل البعيد؟ من المحتمل أن يتسبب في وباء كبير في السكان الذين قد يكونون فقدوا مناعتهم بحلول ذلك الوقت، هل يعالجهم أطباء ربما يكونون قد نسوا المرض؟ ما مدى موثوقية الاحتياطات المتخذة في المختبرات الطبية؟".

"الخطأ البشري"

كانت السيطرة على الجدري فعالة، تحديداً لعدم وجود حامل حيواني لهذا الفيروس، لكن مع مرور السنوات، لم يجد العلماء والمسؤولون إجابات حاسمة لأسئلة ستوكتون.

كان النقاش يخفت ثم يتعزّز مع كل تحدٍّ فيروسي جديد يعيشه العالم، ومع انتشار فيروس كورونا بنسخته الأخيرة، وجدت هذه الأسئلة حيّزاً للنقاش مرة أخرى.

الاتهامات للصين والولايات المتحدة بالمسؤولية عن الفيروس حضرت مع انتشاره، فنظرية المؤامرة تستمر دائماً وبنجاح كبير، لكن تحوّله إلى جائحة ونفي العلماء المتكرر لهذه الاتهامات قلّص من مصداقيتها، وإنْ بقيت حاضرة في إطار المناوشات المعتادة بتسمية ترامب لكورونا بـ"الفيروس الصيني" واعتراض وزير الخارجية مايك بومبيو على إلقاء الصين باللوم على الولايات المتحدة.

بمعزل عن المناكفات السياسية، تبقى المخاوف من حاملات الفيروسات الخطيرة، مختبرات الأبحاث الحيوية، ومن "الخطأ البشري" المحتمَل، لا سيما وأن الباحثين يطورون مسببات الأمراض ويجعلونها أحياناً أكثر فتكاً، في سياق اختباراتهم العلمية (في العام الماضي، ذكرت "مجلة العلوم" أن الحكومة الأمريكية وافقت على تجربتين من هذا القبيل بعد سنوات من إبقائهما قيد النظر).

قبل الخروج والدخول، يتعيّن أخذ دشٍّ لمدة خمس دقائق كما يقتضي البروتوكول، ويُحظر إحضار عبوات طعام إلى العمل... هذه بعض إجراءات الحماية في مختبرات دراسة الفيروسات الخطيرة "ذات الحماية العالية"، لكن احتمال "الخطأ البشري" و"هروب" الفيروسات قائم دائماً

بسبب عبث مسببات الأمراض الجديدة بالكوكب، تقوم بعض الدول ببناء مختبرات مايكروبيولوجيا جديدة، بموازاة الدعوات لبناء المزيد، لكن "هل يمكن للعالم أن يتعايش مع هذا النوع من السباق العلمي من دون إثارة احتمال حدوث خرق كارثي؟".

السؤال الذي يطرحه كثر، حاولت الصحافية الكندية إليزابيث إيفز الإجابة عنه في تحقيق مطول نشرته مجلة "نيويوركر" الأمريكية في 18 آذار/ مارس الحالي.

مشهد يومي من أحد المختبرات

قد تكون "الرحلة" اليومية التي يقوم بها الباحث إلى غرفة الفيروسات في المختبر مثيرة لحشرية البعض، بتفاصيلها التي باتت تعني كثراً يصارعون نتائج تحوّل أحد ضيوف تلك المختبرات إلى جائحة، لكن المهم في تلك التفاصيل هو كشفها لاحتمالات "الخطأ البشري" الدائمة، مهما بلغ تعقيد إجراءات الحماية.

تنقل إيفز مشهداً صباحياً يومياً لعالمة الفيروسات في أحد مختبرات ولاية كونيتيكت، كيمبرلي دود.

تركن دود سيارتها في مكان مخصص. تركب العبّارة التي تنقلها إلى المختبر في جزيرة بلوم التي يعيش فيها حوالي مئتي نوع من الطيور، وأنواع مختلفة من الماشية والخنازير التي لا تُترك حية في وقت لاحق. 

تعمل دود في مختبر يُعرف بـBSL-3 وهو المستوى الثالث للسلامة الأحيائية وفق بروتوكول مراكز مكافحة الأمراض، وفيه يتم التعامل مع مسببات الأمراض الخطيرة أو المميتة التي قد تتوفر لها لقاحات أو علاجات، مثل الجمرة الخبيثة أو الطاعون أو الفيروس التاجي الذي عاد للظهور حديثاً. 

قبل ذلك، كانت تعمل في المختبرات المعروفة بـ BSL-4، وهي "المختبرات عالية الأمن" التي تحتوي مسببات الأمراض المحمولة في الهواء والتي قد تكون غير قابلة للعلاج مثل الإيبولا.

الدخول إلى المختبر يومياً يُعَدّ مهمة شاقة، ولا يمكن أخذ استراحة قصيرة ببساطة.

قبل دخول المختبر، تمرّ دود عبر باب دوار يشرف عليه حارسان، تترك ملابسها وأحذيتها ومجوهراتها في غرفة خلع الملابس، ثم في غرفة ثانية ترتدي جوارب قطنية، وفي غرفة ثالثة أحذية مطاطية ونظارات واقية وقفازات مزدوجة وبدلة كاملة للجسم مصنوعة من مادة البولي إيثيلين ذات الكثافة العالية.

قبل دخول الغرف "القذرة"، حيث توجد مسببات الأمراض أو تتواجد الحيوانات، تفحص دود مؤشر تدفق الهواء، للتأكد من ضخه بدلاً من تدفقه. 

للخروج من المختبر أو الدخول إليه في وقت الاستراحة، يتعيّن على دود أخذ دشٍّ لمدة خمس دقائق كما يقتضي البروتوكول، ويُحظر عليها كما على زملائها إحضار عبوات طعام إلى العمل، وفي حال كانوا قد عملوا في إحدى غرف الحيوانات عليهم عزل أنفسهم عن الماشية لمدة لا تقل عن خمسة أيام.

نسبة عالية من الأخطاء

عام 2022، سيحل المرفق الوطني للأحياء والدفاع الزراعي (N.B.A.F) محل مختبر جزيرة بلوم الذي يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، لكنه لن يكون معزولاً بل سيكون في مانهاتن، في منطقة مأهولة بالسكان.

يُعَدّ هذا المرفق، حسب إيفز، جزءاً من توسع في عدد المختبرات الأمريكية عالية الاحتواء، والتي بدأت تتزايد بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر من دون أية نية لتبطئة وتيرة الاستثمار في الدفاع البيولوجي. دفعت الهجمات وخطابات الجمرة الخبيثة التي أعقبتها بالإدارة الأمريكية إلى زيادة الإنفاق على الأمن البيولوجي، ما أدى إلى نمو ملحوظ في منشآت BSL-3 وBSL-4.

"هناك دائماً فرصة لأن يؤدي تكرار إجراءات الحماية بشكل يومي روتيني في نهاية المطاف إلى اللامبالاة بشأنها، وحتى إلى احتقار الفيروس. فيروس الجدري شيء لا يمكنك رؤيته مثلاً. وقد تنسى بحكم العادة اليومية أنك تتعامل مع كائن حي خطير"

وبينما يتفق الباحثون على أهمية تلك المختبرات، يختلفون حول عددها وانتشارها، فالتوسع يخلق مخاطر. "لا يوجد مختبر مثالي، وحتى المرافق التي تتم إدارتها بشكل جيد تعاني من الاختراق. المختبرات الجديدة منتشرة جغرافياً ولا توجد سلطة مركزية تنظمها أو تراقب انتشارها"، تقول إيفز.

بحسب أستاذ علم الأوبئة في جامعة هارفرد مارك ليبستش، "في بعض الأحيان، قد تكون الأخطاء مميتة. إذا هربت سلالة جديدة محسنة من الإنفلونزا من أحد المختبرات، هناك خطر كبير قد يتسبب بوفاة الملايين".

ويضيف: "ليس الأمر أن هناك نسبة عالية من الأخطاء في هذه المختبرات، معدل الأخطاء منخفض جداً في الواقع، لكن هناك فرصة دائمة لقتل الآلاف عن طريق الخطأ… في الواقع فإن تكلفة تحليل مسببات الأمراض المنتشرة بين الناس والمكشوفة على الملأ تختلف عن تلك الموجودة في الداخل والتي قد تسبب بجائحة تقتل الملايين".

يرى ليستش أن الحكومات لا تأخذ هذا الاختلاف بالحسبان، وتعرّض الملايين حول العالم لخطر فعلي.

حوادث سابقة

بعيداً عن نظرية المؤامرة، كيف يمكن لهذه الفيروسات أن تهرب من مختبر ذي أمان عالٍ؟

عند مراجعة الحوادث السابقة، يبدو أن هناك العديد من نقاط الضعف المختلفة، من الآلات التي تُعَدّ جزءاً من احتمال فشل عملية الاحتواء، إلى البروتوكولات التنظيمية غير الكافية أو التي لا يتم اتباعها، إلى الأخطاء البشرية في التعامل مع الفيروسات الحية بدل الميتة.

عام 2014، على سبيل المثال، عندما كانت إدارة الغذاء والدواء (FDA) تقوم بتنظيف مكتب جديد للانتقال إليه، وجد أحد الموظفين صندوقاً فيه مئات القوارير التي تحتوي على عينات فيروسية، كانت هناك مرمية، بينما كانت إحدى القوارير مهشمة لكن لحسن الحظ لم تحتو على فيروس مميت.

عام 2003، ظهرت متلازمة الجهاز التنفسي الحادة المعروفة بالسارس، وكانت هناك ستة حوادث منفصلة لهروب الفيروس من مختبرات في سنغافورة وتايوان والصين.

وعام 2019 كذلك، بيّن تحقيق أن أكثر من 40 انتهاكاً وقعت بين عامي 2015 و2017 في مختبرات بريطانية، واحد منها أدى إلى انتشار حمى الضنك (تنتقل بلدغة البعوض) التي قتلت الآلاف.

المشكلة في حوادث مماثلة كانت في أن الذين أصيبوا بالفيروسات لم يكونوا من المتعاملين معها مباشرة في المختبرات، وبالتالي كانت ثمة عيوب فنية غير معترف بها في معايير الاحتواء البيولوجي، كفشل نظام التهوئة مثلاً. المشكلة الأخرى هنا أن تلك العيوب لم تظهر إلا بعد وقوع الحوادث.

أنف ستوكتون المثير للقلق

لم يختف يوماً شبح الحرب البيولوجية بين الدول، حتى بعد معاهدة منع تطوير وإنتاج وتخزين الأسلحة البكتيرية (البيولوجية) والأسلحة السمية التي صادقت عليها الدول عام 1975.

أتى ذلك بعد تاريخ طويل من استخدامها، من القائد اليوناني سولون الذي سمم مياه خصومه بعشب مميت في القرن السابع للميلاد، إلى جنكيزخان الذي جنّد طاعون الماشية لقتل حيوانات البلدان التي دخلها، إلى بريطانيا التي حاربت رؤساء القبائل الهندية بأقمشة حمّلتها فيروس الجدري، وقائد المغول جاني بيج الذي بدأ جنوده يتساقطون بالطاعون فراح يقذف جثثهم بواسطة منجنيق إلى داخل أسوار المدينة التي كان يحاصرها، وصولاً إلى استخدام الجيش الألماني للجمرة الخبيثة والكوليرا في الحرب العالمية الأولى وتسميم اليابانيين لآلاف آبار المياه الصينية بالكوليرا والتيفوئيد. وفي الحرب العالمية الثانية، كان هناك اتهامات تتسم بالجدية من جانب الصين والاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية لأمريكا باستخدام أسلحة كيميائية في الحرب ضد كوريا الشمالية.

ومع أن المعاهدة المذكورة ضبطت الحرب البيولوجية لكنها لم تضبط سباق الأمن البيولوجي. وعلى نطاق أضيق من هذه الحرب، يبقى البشر بشراً، هكذا كتب ستوكتون بعد زيارته للمختبر في السبعينيات.

بعيداً عن فكرة الضغط على عالم في المختبر لتهريب الفيروس كما في سيناريوهات الأفلام، وجد ستوكتون أن الجو في المختبر "ظالم". يقول: "يتطلب العمل فيه الانتباه الشديد إلى التفاصيل وإجراءات الدخول والخروج المعقدة وشعور العزلة الموجود في الداخل. هناك دائماً فرصة لأن يؤدي تكرار إجراءات الحماية بشكل يومي روتيني في نهاية المطاف إلى اللامبالاة بشأنها، وحتى إلى احتقار الفيروس. فيروس الجدري شيء لا يمكنك رؤيته مثلاً. وقد تنسى بحكم العادة اليومية أنك تتعامل مع كائن حي خطير".

ثمة شخص يراقب دائماً شخصاً آخر في المختبر، هكذا تقتضي إجراءات السلامة، لكن في النهاية لا حلّ مطلق للمفهوم الحمائي عندما يحضر "العامل البشري".

قبل خروجه من المختبر، خضع ستوكتون لنفس إجراءات الوقاية، ومنها الاستحمام لمدة خمس دقائق مع تنظيف كل فتحة من الجسم بعناية، وتحديداً الأنف.

بعد مغادرته للموقع، جلس ستوكتون يحتسي القهوة في مكان مجاور. بعد بعض الوقت، تذكر شيئاً جعله يقفز من مكانه لينظر ما إذا كان عمال المختبر يجرون وراءه في حالة هلع. كان قد نسي أن يغسل أنفه جيداً بالماء خلال الحمام، نسي الأمر تماماً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard