شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
التونسيون محاصرون بين خطر كورونا وبين حكومة تلاحق جيوبهم

التونسيون محاصرون بين خطر كورونا وبين حكومة تلاحق جيوبهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 20 مارس 202004:40 م

فيما يجتاح فيروس كورونا المستجد العالم بسرعة قياسية، تذهب أنظار الشعوب لقرارات حكّامها في هذا الظرف الاستثنائي، مختبرة مدى قدرتهم على مجابهة ما يحدث بالنجاعة اللازمة، ومدى استعدادهم لحماية حياتهم.

في أوروبا، دعت أغلب القيادات مواطنيها إلى لزوم البيوت وتجنب الخروج إلّا للضرورة القصوى، مقترحة في المقابل إعفائهم من دفع بعض الضرائب حتى نهاية الأزمة، وضمان تقاضي الأجور حتى في حال عدم العمل عن بعد.

على الدولة هي الأخرى أن تنتبه كم باتت بعيدة عن لعب أدوارها تجاه هذا المواطن، وأن الحلول ليست مرتبطة دائماً بجيبه.

أما عربياً، وسأتوقف عند تونس تحديداً، فقد كان للقيادات فيها وجهة نظر أخرى، وهي رمي الكرة للمواطن، تارة بدعوته للتحلي بالوعي الكافي والالتزام بالتعليمات الوقائية، لا سيما المتعلقة بالابتعاد عن التجمعات، وهذا منطقي إلى حد ما، وتارة أخرى بطلب العون المادي وتقديم التبرعات للدولة، حتى يتسنى لها حمايتهم. وكأن هؤلاء الساسة يقولون، ولو ضمنياً، لشعبهم: ادفعوا ثمن سلامتكم، دولتكم ليست مؤهلة لحمايتكم... ليجترّوا بذلك ذات الحلول القائمة على "حلب" جيب المواطن لمواجهة أي أزمة، بدل البحث عن مسبباتها أو استدعاء رجال الأعمال، باعتبارهم أكبر المستفيدين عادة من دعم الدولة، والأقدر على المساعدة.

بكل ثقة، ودون خجل أو حياء، تسابقت القيادات السياسية في تونس في طلب العون المادي من المواطن، رغم إدراكهم أن هذا الأخير قد تحمّل، على مدار السنوات التسع التي تلت ثورة 14 يناير 2011، أعباء أثقلت كاهله وأنهكته، حتى أنه لم يعد بوسعه تحمّل المزيد، وكأن سياسة الاستجداء والهرولة لجيب المواطن هي الوصفة السحرية التي لا حياد عنها لكل المشاكل والمطبات. والغريب أن هذا الخيار يصدر تلقائياً ومباشرة دون القيام بأي تقييم يذكر لحال هذا الجيب، عما إذا في مقدروه العطاء بعد؟ دون الانتباه عمداً لحقيقة أن البقرة الحلوب استنزفت بما يكفي، وأصبحت تقطر الدم بدل الحليب منذ سنوات، فكيف تسنى لهم التغاضي عن كل ذلك وتجرؤوا على الذهاب لهذا الخيار، رغم إدراك هذه القيادات أن ذلك المواطن إنما اختارهم ليكونوا في دائرة الحكم، عسى أن يساعدوا جيوبه المتآكلة، لا أن يسيروا على نفس المنوال الذي سبقهم إليه البقية.

بكل ثقة، ودون خجل أو حياء، تسابقت القيادات السياسية التونسية في طلب العون المادي من المواطن، رغم إدراكهم أن هذا الأخير قد تحمّل أعباء أثقلت كاهله وأنهكته، حتى أنه لم يعد بوسعه تحمّل المزيد، وكأن سياسة الاستجداء والهرولة لجيب المواطن هي الوصفة السحرية التي لا حياد عنها لكل الأزمات

فقد فوجئ التونسيون يوم الاثنين الماضي، بخطاب رئيس الوزراء، إلياس الفخفاخ، الذي افتتحه بتعميم بعض الإجراءات الاستباقية، ثم اختتم بدعوة المواطنين للتبرع ولو بدينار، لدعم جهود الدولة في مكافحة فيروس كورونا. خطوة قوبلت بالسخرية، ولكن بقيت بعض الآمال معلقة على خطاب رئيس الجمهورية، الرجل الذي نجح في الوصول لمنصبه بأصوات الشباب، الذي يعاني أغلبه البطالة والتهميش، ولكن يا خيبة المسعى.

لم يكن يوم الثلاثاء أخف وطأة من الاثنين، إذ كان موعداً أيقن فيه التونسيون أنهم يعيشون في ظل دولة لا حلول لديها سوى مد يدها في كل مرة لجيب المواطن، باعتباره الحلقة الأضعف، داخل منظومة يسيطر عليها سياسيون متواطئون سلفاً مع أصحاب رؤوس أموال فاسدين، أنهكوا البلاد دون أن يخضعوا للملاحقة أو التتبع القضائي.

فعند الصباح، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر وأقدم نقابة عمالية في تونس، التبرع بيوم عمل لكافة الأجراء، لدعم مجهود مجابهة وباء كورونا، ودعماً للمستشفيات العمومية. وفي المساء، وبعد انتظار طويل، أطل الرئيس، وليته لم يفعل، ليطلب من التونسيين التبرع بنصف رواتبهم للدولة، حتى يتسنى لها التعامل مع هذا الوباء.

بدا الأمر مثيراً للسخرية، ووجد التونسيون أنفسهم محاصرين، بين كورونا تلاحق أجسادهم وحكومة ونقابة تلاحق جيوبهم.. فأين المفر؟ أي واقع هذا الذي تفكر فيه حتى النقابة التي أوكلوا إليها دائماً مهمة الدفاع عن حقوقهم، في اللجوء لجيوبهم، رغم معرفتها المسبقة بما آلت إليه المقدرة الشرائية لهؤلاء الأجراء، بسبب سياسة "حلب جيب المواطن" التي مارستها الحكومات المتلاحقة على مدار قرابة العقد؟

لا شيء بعد هذا المشهد سوى اللجوء للتهكم والضحك للرد على هكذا حكومات ونقابات، وليس للتمرد على الدولة أو رفض الانخراط في التضامن الوطني في ظرف مشابه، ولكن على الدولة هي الأخرى أن تنتبه كم باتت بعيدة عن لعب أدوارها تجاه هذا المواطن، وأن الحلول ليست مرتبطة دائماً بجيبه، وأن هناك خيارات أخرى تتعلق بها وبرجال الأعمال، أولئك الذين ما فتأت تدعمهم في كل أزمة، فيما تضيق الخناق بالضرائب على المواطن.

قد يكون الظرف الراهن دقيقاً ويتطلب تكاتف جهود الجميع، لكن على أن يتم ذلك بإرادة الشعب وفي نطاق إمكانياته، لا أن يتحول التبرع ونهب جيب المواطن إلى هاجس الحكومات وحلولها السهلة في كل مرة

قد يكون الظرف الراهن دقيقاً ويتطلب تكاتف جهود الجميع، لكن على أن يتم ذلك بإرادة الشعب وفي نطاق إمكانياته، لا أن يتحول التبرع ونهب جيب المواطن إلى هاجس الحكومات وحلولها السهلة في كل مرة.

لماذا لا تذهب الحكومة مثلاً في مثل هذه الحالات لخفض نفقاتها ولو مؤقتاً، وتقلص رواتب مكافآت وزرائها ومستشاريها الموزعين داخل مختلف أجهزة الدولة؟ لماذا توجه خطابها لموظفيها المنهكين وتدعوهم لدعم جهودها؟ لماذا لا تطالب رجال الأعمال المتهربين من الضرائب والمتخلفين عن دفع ديونهم المقدرة بملايين الدولارات، لأداء ما عليهم، وبالتالي ضمان تعزيز خزينتها في زمن قياسي؟ لماذا لا تراجع ولو مؤقتاً أيضاً جدول الضرائب حسب معدل الثراء، وهي التي تعي أن الظرف الراهن يلقي بتبعاته الوخيمة أساساً على الطبقة المتوسطة والفقيرة؟ لماذا لا تمد يدها لهؤلاء المفقرين إلا لنهبهم، فيما تمد يدها المعطاءة لأصحاب رؤوس الأموال، رغم فساد الكثير منهم وتهربهم من دفع الضرائب التي تنهك خزينة الدولة؟

عند الأزمات الكبرى، تظن الطبقة المتوسطة والفقيرة غالباً أن الدولة ستحميها، من منطلق ما تقدمه من تضحيات مستمرة ودعم دائم لها، لكنها، وخاصة في المجتمعات العربية، تفاجأ بها تتملص منها وتتركها لمصيرها، مع بعض الإجراءات الردعية غالباً لدفعها للخضوع. عند هذه الأحداث الاستثنائية يبدو أننا، كمجتمعات عربية، محكومون بمواصلة تأمل قيادات الدول المتقدمة بانبهار، وهي تقدم دروساً في احترام شعوبها وفي تحمل مسؤولياتها كاملة، بدل اللجوء لسياسة التسول التي لا تشمل إلا المفقرين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard