شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
طريق عمّان - لندن معبّدة باللهجات… كيف بدأت أحب

طريق عمّان - لندن معبّدة باللهجات… كيف بدأت أحب "الغرباء" من بلادي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 2 مارس 202005:43 م

كانت التجربة الأولى لي، أن أكون المشاركة الوحيدة من الأردن في منتدى خارج الأردن، حيث وخلال عملي كصحافية، كانت مشاركاتي لدعوات إعلامية في الخارج مع وفد أردني، هذا الشيء الذي كان دوماً يطمئنني، لأني شخص يخاف التعامل مع "غرباء".

أكثر من مرة تعلمني هذه الحياة بأن أتصالح مع التغيير، وأن أرخي حبال القيود التي صنعتها لنمط حياتي بإرادتي الشخصية دون فرض من أحد، أكثر من مرة توجهني الحياة لأن أنظر إلى الشيء المختلف عن الـ"مش شبهي"، فأنا الصبية التي تحب الروتين، ليس لأنني مملة بل لأنني أخاف التغيير، لكن يبدو أن رحلتي إلى لندن هذه المرة كشفت لي أن التغيير ملح لا غنى عنه في وجبات الحياة.

شاركت كممثلة عن الأردن لمدة أسبوع، في المنبر البريطاني للمؤثرين العرب، الذي أخذ العاصمة البريطانية لندن مكاناً له، بدعوة من وزارة الخارجية البريطانية وبمشاركة إعلاميين وناشطي مواقع تواصل اجتماعي من حوالي 18 دولة عربية، لن أروي تجربتي في فعاليات المنبر في هذا المقال، حيث أفضل أن أسرد جزءاً من تجربتي في الاندماج مع "غرباء" في منتدى إعلامي في الخارج.

نشرت على حسابي على تويتر بعد أول يوم من فعاليات المنبر البريطاني، أسفل صورة تجمع وفود المنبر على العشاء: "أن تلتقي لهجتك بلهجات ولكنات عربية مختلفة، يخرج هذا الالتقاء اللغوي بإيقاع موسيقي جميل نحبه مهما عتبنا عليه اسمه... الوطن العربي"، فأنا شخص يحب الموسيقى جداً ويمنح فرصة للتعرف على كافة أنماط الموسيقى، سواء كانت الجاز، الهاوس، التكنو، الكلاسيك، أو حتى موسيقى الأغاني التراثية، وما كنت أسمعه خلال أسبوعي في لندن موسيقى عربية بامتياز، فيها خليط من التقليدي والمعاصر... كنت أسمع الموسيقى من القلب لا الأذن!

منذ أول يوم لي في لندن، ومع زميلاتي وزملائي العرب، كنت أدون على "النوت" في هاتفي، كلمات عربية أول مرة أسمعها، كنت أدونها بعد أن ضحكت عند سماعها للمرة الأولى، فأنا حتى اللحظة غير قادرة على أن أنطق كلمة "يقعمز" والتي تعني يجلس بالطريقة الصحيحة، ما زلت أنطقها "يقرمز" بدليل أنني عدت إلى النوت لأكتبها!

لم أكن أتوقع أن كلمة شباك تعني "دريشة" بالإماراتي، ولا أعلم أن الغضب تعني "يزعف" بالجزائري، ولا أن "الحوش" تعني المنزل بالخليجي!

"الشنقة مع الجماعة خلاعة"، سمعتها بعد أن قلت "الموت مع الجماعة رحمة"، عندما كنا نصف شعورنا بالبرد القارس في شوارع لندن، اختلفت عباراتنا نحن وفود بلاد وطني العربي في لندن، لكنها توحدت بكلمة "أح" تعبيراً عن البرد، كأول كلمة كنا نقولها فور خروجنا من الفندق إلى الشارع، طوال الأسبوع البريطاني.

منذ أول يوم لي في لندن، ومع زميلاتي وزملائي العرب، كنت أدون على "النوت" في هاتفي، كلمات عربية أول مرة أسمعها، بلهجات متنوعة،  فأنا حتى اللحظة غير قادرة على أن أنطق كلمة "يقعمز" والتي تعني يجلس بالطريقة الصحيحة، ما زلت أنطقها "يقرمز"

أكتب هذا المقال وأنا في الطائرة في طريق عودتي إلى الأردن، أكتبه وفي قلبي غصة أكاد أشعر بوقع ثقلها بيدي الآن، فهذه المرة غير كل مرة: عندما كنت في السابق أشتاق في اليوم الثالث من سفري للعودة للأردن، كيف لا؟ وأنا في ذلك الوقت كنت متلهفة لنظرة عينيّ والدي - رحمه الله - وهو يقف عند حاجز "القادمون" في مطار عمان، يداه وراء ظهره ويقف ثابتاً في عينيه ومكانه، خوفاً عليّ من أن أعبر أمام الحاجز وأجده يلتفت إلى مكان غير مكان خروجي.

بالطبع كنت أشتاق للعودة إلى عمان، فعبارة "ولا عمري رح أزوجك" كان لها وقع جميل جداً عندما كانت تقولها أمي - رحمها الله - في كل مرة أعود فيها من السفر، وهي تصف عدم قدرتها على العيش بدوني، كنت أقول في نفسي عند سماعها "الحمد لله"، ليس لأجل قلب أمي الذي كان يتلوى لغيابي، بل لأجل قلبها الذي يعلم أن لا مطرح لأحد مثلي فيه، "الحمد لله" كانت لأنني أسير على الطريق الصحيح بأن أرضي أمي.

قلت إنني أكتب المقال وفي قلبي غصة، بصراحة أكتبه ودموعي تنهمر على الكيبورد أيضاً، ففي لندن أصبحت لي عائلة جميلة كجمال خارطة الوطن العربي، بسيطة مثل سمّار الصحراء، ودودة مثل شجرة الزيتون عندما يلتقي غصنها بغصن شجرة ياسمين بلاد الشام، فيها تناقض محبب مثل حركة المد والجزر في بحار الخليج العربي، نعم أصبحت لي عائلة هناك، حتى لو شكلت في فترة صغيرة، بحجم الأردن عندما غنّته فيروز: "في حجم بعض الورد إلا انه لك شوكة ردت الى الشرق الصبا".

سأشتاق إلى دروس تعليمي لـ"ربعي" في لندن وأنا أعلمهم التمييز بين "بَدي" بفتح الباء باللبناني و"بِدي" بكسرها بالأردني، سأشتاق لعفوية عهدية أحمد، رئيسة جمعية الصحفيين في البحرين، والتي كانت رئيسة قسم التجميل في بريطانيا، عندما جعلت غرفتها في الفندق ملاذاً لي ولنورا الجربي من ليبيا، لتسريح شعرنا ووضع المكياج، سعياً للبقاء في صورة بهية، وهرباً من أسعار صالونات التجميل هناك.

أكتب هذا المقال وفي قلبي غصة،  ففي لندن أصبحت لي عائلة جميلة كجمال خارطة الوطن العربي، بسيطة مثل سمّار الصحراء، ودودة مثل شجرة الزيتون عندما يلتقي غصنها بغصن شجرة ياسمين بلاد الشام، فيها تناقض محبب مثل حركة المد والجزر في بحار الخليج العربي
لمسني جداً عندما استقبلني الإماراتي، ماجد الفارسي، صباح ذلك اليوم، بقهوة الكابتشينو قبل أن أقول له صباح الخير، لمستني فكرة كيف أنه التقط أنني من محبي الكابتشينو وليس الاسبريسو مثل باقي "ربعي"، شعور طيب جداً يخلفه المرء عندما تجده ينتبه لأبسط تفاصيلك، حتى راشد الحمر وهو من البحرين، لن أنسى منه تلك الدقائق القصيرة وهو يبحث معي عن شيء مالح أتناوله في السوبر ماركت، ولن أنسى عندما قال لي مثل أي أخ يصطحب شقيقته الصغيرة لشراء أشياء "زاكية"، قال: "خذي كل اللي تحبيه".

حتى الليبية نورا، والتي كانت إحدى قصصها التي سردتها لي ذات ليلة كفيلة بأن تضاعف أرقي، جذبتني فكرة عدم اكتراثها ما إذا كانت علبة سجائرها قد تكفيها في ذلك اليوم، لأنها متأكدة أنها لن تنقطع من السجائر ما دامت غادة معها.

ها هم "الغرباء" الذين كنت أخشاهم في السابق، ها هم اليوم أبكي فراقهم وأصفهم بعائلتي، ها هم المختلفون الذين كنت أعتقد أنهم "مش شبهي"، هم شبهي أكثر ممن يربطني بهم الدم واللحم والهوية، مجانين مثلي يكسرون القواعد مثل قاعدة الصمت الممل في القطار، ويتسامرون معي على وقع الأغاني من هاتف البحرينية عهدية، يرمون معي التعليقات على بعضنا البعض ويختمون كل تعليق لهم عليّ وهم يقلدونني بـ"بتتخوت!؟".

قلت إنني سأفتقد هذه المرة عينيّ والدي وحضن أمي، لكنني أعود ومعي أكثر خصلة ورثتها عنهما: الإخلاص، لكل شيء ولكل أحد خلف مكاناً طيب الحمل في قلبي، حتى لو كان غريباً.

سأختم المقال بأكثر أغنية سمعتها من "ربعي" في لندن، وهي "حنّ الغريب" لعبد المجيد عبد الله عندما قال فيها:

"حن الغريب ورجع لأهله

عود مع الغيم لأحبابه

هب الهوى وقام يندهله

حي الشتا وحي ما جابه"


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard