شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"الضرب محبة"... الجلد حتى الدم هدية الزفاف في بعض قبائل صعيد مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 1 مارس 202001:38 م

في مناسبات المصريين، أكانت زفافاً، ميلاداً أو حتى وفاة، يتهادون الأموال والعينيات، وهو طقس قديم مازال العمل به جارياً حتى الآن، يعرف باسم "النقطة أو النقوط".

في الزواج يكون الهدف من "النقوط" مساعدة العروسين على تلبية متطلبات، وأعباء الزواج المادية، وشكلاً من تحقيق التكافل والتضامن المجتمعي، على أن تردّ لأصحابها في مناسبات متشابهة.

ولكن تتفرد عائلات في أسوان، أقصى صعيد مصر، بشكل مختلف من "النقوط"، تكون على شكل "دم" ينزفه من يريد أن يهدي العروسين.

يمارس العريس دور "السيد"، ومن يُريد تقديم نقوطه إليه ومجاملته، يلعب دور "العبد"، فيجلد صاحب المناسبة الأخير حتى ينزف دماً من ظهره، وستندهش حين تسمع صوت الضحك في الوقت الذي يشق فيه السوط السماء هاوياً على ظهر أحدهم، في أدوار.

هكذا يكون شكل النقوط لدى قبائل "البشارية"، "العبابدة"، "الجعليين" و"الرزيقيين"، تلك القبائل التي ارتحلت من مكان لآخر، تبعاً لمنسوب مياه النيل وفيضانه، وبينما تمارس ترحالها وتغير أمكنتها، حملت عادتها وتقاليدها وطقوس أفراحها، ومنها الجلد.

"عانيت ثم أدمنت الجلد"

"القصة تبدأ قبل الزفاف، حيث الدعوة إليه"، يقول أمير أبو آدم، من قبيلة الرزيقيين، لـرصيف22: "حين يذهب العريس لدعوة الناس إلى فرحه يكون ممسكاً بالسوط/الكرباج السوداني، فيطرق على الأبواب إلى أن يخرج أهل البيت من الشباب، ويقولون للعريس (أبشر)، وهي تعني أنهم قبلوا دعوته إلى الزفاف، كما قبلوا الضرب بالكرباج تحية لمجيئه إليهم، فيتجردون من ملابسهم، ويضربهم العريس جلدتين وسط زغاريد أهل البيت".

"أذكر أول مرة جلدت فيها، كانت في فرح صديق لي يدعى حسيب، كنت أحب حسيب جداً، لذلك قلعت جلبابي وضربني جلدتين، يومها لم أنم الليل كله من قسوة الجلد، وكنت أعرف تماماً أنني لو أصبت أو مت فليس لي دية"

يضيف أبو آدم، الذي يعمل كسائق: "أذكر أنني حين جُلدت لأول مرة، ظللت ليال أعاني من ألم شديد في الظهر أبعد عني النوم، كان الأمر مؤلماً فعلاً، ولكن الحقيقة أنه بمرور التجارب؛ تعودت عليه وأدمنته تماماً، ولو كان هناك 4 مناسبات أذهب إليهم وأجلد فيهم، برغبتي وليس إجباراً، فالأمر كله تعبير عن مشاركة العريس لفرحته".

وينفي معتز محمد إبراهيم، من قبيلة الرزيقيين، لـرصيف22، اشتمال الأفراح كلها على الجلد، فهو ليس موروثاً لكل عائلات الصعيد، يقول: "هناك أفراح يكون الدي جي أو الفرق النوبية هي الأساس، ولا يحدث فيها الجلد، ولكن الجلد يكون لمن هم من عرق سوداني، وأقاموا في أسوان وحملوا تراثهم وتقاليدهم معهم".

"جُلدت في فرح صديقي حسيب"

يكمل إبراهيم: "أذكر أول مرة جلدت فيها، كانت في فرح صديق لي يدعى حسيب، كنت أحب حسيب جداً، لذلك قلعت جلبابي، وضربني جلدتين، يومها لم أنم الليل كله من قسوة الجلد، وكنت أعرف تماماً أنني لو أصبت أو مت فليس لي دية، ولكننا تعودنا على الأمر، حتى أنه يمارس هنا في كل فرح، ولا يتم الفرح بدونه".

يشير إبراهيم إلى أن الجلد بمثابة نقوط أو هدية تبقى عالقة في رقبة من مارسها، حتى يردها مرة أخرى في مناسبة مشابهة.

يشرح إبراهيم تلك العادة أكثر: "هناك من يتجرد من ثيابه وهناك من يُجلد وهو يرتديها، وهناك من يأخذ جلدتين وهناك من يحتمل أكثر، وهناك عريس يزيد في الجلد، والذي يحدد الموضوع هو من يُجلد، لكن ليس هناك أقل من جلدتين، وإن لم تخرج من الحلقة فمعناه أنك تريد أكثر، وغالباً سوف تجد من يشدك إلى الخارج، وأنا لم أتزوج إلى الآن، وحين سأتزوج سأتابع السيرة وسيأتي من ضربوني لأضربهم، هكذا تدار الأمور في أفراحنا".

لا أحد يعرف بالتحديد متى بدأ هذا الطقس، يعود أمير أبو آدم ليقول: "موروث قديم جداً وقائم حتى الآن، لا أعرف تاريخاً محدداً له، فجدي وأبي، في الخمسينيات والستينيات، مارسوه، كما تتباهى به القبائل أمام بعضها، ويحرص عليه الشباب".

يكمل أبو آدم: "ينظر الجميع للعريس في هذا اليوم على أنه السيد الذي يمسك بسوطه، فينزعون ملابسهم أمامه ليجلدهم، حتى تسيل الدماء منهم، وإذا كان هو السيد، فإننا لا ننظر لأنفسنا كعبيد، لأننا نعتبر هذا الطقس من شيم الرجولة الحقة لدينا، فيظل العريس يضرب حتى يخرج الرجل من الحلقة التي تصنعها أجساد الرجال، وإن لم يخرج فسيظل العريس يضربه، وكلما احتمل جلداً أكثر كلما زاد في عيون الرجال، علامة للرجولة".

"الهروب من حلبة الجلد علامة على الضعف والجبن".

وهو ما اتفق عليه هيثم عيسى، من قبيلة البشارية قائلاً: "الهروب من حلبة الجلد علامة على الضعف والجبن، وكل عريس هنا له يوم يكون فيه سيداً على الناس، ممسكاً بسوطه وضارباً ظهور الكل، أنت تظن أنك رجل، إذاً انزل للميدان وامنح ظهرك للجلد وسنرى كيف يكون احتمالك، الرجولة هنا فعل وليست مجرد كلام إنشائي".

ويضيف: "من يقدم نقوطه اليوم يجمعها غداً، فالجلد مردود، ومن يضع نفسه في منتصف دائرة الجلد يقوم بسداد نقوطه اليوم، ليجنيها في مناسبة عُرس تخصه في أحد الأيام، أذكُر أني قلت لأصدقائي إنني لن أرحم أحداً، وحدث أنني جلدت سبعة من الشباب حتى أدميت ظهورهم، فهم تحديداً فعلوا معني نفس الأمر في يوم سابق".

"العنف يعني أنك قادر"

يعلق أحمد أبو خنيجر، الروائي والباحث في التراث الشعبي: "الجلد ليس جديداً على بعض الأسر في مناطق الريف والصعيد، ففي مناطق أخرى كان العريس يضرب المقبلين على الزواج بالـسعف، أو ما يسمى في صعيد مصر بالجريد الأخضر، وكان يشبه النقوط، وحين يهم واحد ممن ضربوا بالزواج فإنهم يتقدمون ويسمحون له بضربهم لسداد ما قدمه، أما الجلد فاقتصر حاليا على سكان الصحراء، من قبائل البشارية والعبابدة وغيرهم من القبائل التي ترتاد الصحراء وتنتقل بعاداتها وتقاليدها".

ويشير أبو خنيجر إلى أن ما يعتبر عند بعض الناس "عنفاً" لا يدخل في هذا الإطار عند تلك القبائل، مثل الجلد أو المزاح بالأيدي، ولكنه يعبر عن أشياء أخرى، منها أنه "قادر على التحمل، لأن التحمل من شيم الرجال، وحتى في زواجه، فإنه يضرب من يتقدمون له بمعنى مجازي أنه قادر وقوي وهكذا".

"حين جُلدت لأول مرة، ظللت ليال أعاني من ألم شديد في الظهر أبعد عني النوم، كان الأمر مؤلماً فعلاً، ولكن الحقيقة أنه بمرور التجارب؛ تعودت عليه"  

ويشير أبو خنيجر إلى أن مفردات العنف نستخدمها كثيراً، دون أن نعيرها انتباهاً، يقول: "حين ترى أحد لاعبي كرة القدم يقوم بحركة تندهش لها فأنت تصرخ وتسبه كأنك تقول له "كيف قمت بهذه اللعبة؟" تماماً هذا ما يحدث في الصعيد، ففي الوعي الشعبي هناك، لا يوجد تصريح حقيقي بالمحبة، ومن يقم بذلك ويصرح يعتبرونه مفضوحاً في مشاعره وهو نوع من الضعف، لذلك فإن التعبير يكون بالضرب على الكتف أو أي تعبير آخر، هناك بالطبع نوع من الاستعراض في هذا الأمر، ولكن هو يرضي الجميع".

وينهي أبو خينجر حديثه لرصيف22 قائلاً: "في الوعي الشعبي لدى سكان بعض مناطق الصعيد، يستعيض الشخص عن عدم التصريح بمشاعره بحركات يدخل فيها الضرب بأشكاله الكثيرة، الأحضان القوية وغيرها من وسائل التعبير التي تليق بكل طائفة من طوائفه، فالشاب يحتضن الشاب أو يضربه أحياناً كناية عن الشوق، ولكن في الأخير تتعامل معها الجماعة الشعبية بوصفها محبة قوية وليست عنفاً".

وقد تطرق إدوارد لين في كتابه "المصريون المحدثون" عن عادات الزواج عند المصريين، إلى طبيعة الرحلات التي كانت تقوم بها بعض القبائل قديماً بين أسوان التي تقع أقصى جنوب مصر، وبين دولة السودان وحدودها، فحلت الكثير من العادات الجديدة التي انتقلت بحكم قواعد الزواج والارتباط بين شباب القبائل، ومن هنا ظهرت بعض الطقوس، ومنها الجلد بالسوط في الأعراس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard