شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تطاردون الإنتاجية فتخسرون الحياة... في مديح

تطاردون الإنتاجية فتخسرون الحياة... في مديح "تضييع الوقت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 21 فبراير 202006:09 م

يبلغ متوسط العمر الافتراضي للإنسان حوالي 4000 أسبوع فقط، وبالتالي فقد يكون من الحتمي وجود قدر معيّن من القلق بشأن كيفية استغلال الوقت والاستفادة منه بشكل جيد، بخاصة وأننا مُنحنا كبشر، القدرات العقلية اللازمة لوضع خطط طموحة وأهداف عديدة، ولكن قد لا يكون لدينا الوقت الكافي لوضعها جميعاً حيّز التنفيذ.

واللافت أن مسألة إدارة الوقت تعود على الأقل إلى القرن الأول الميلادي، عندما كتب الفيلسوف الروماني سينيكا ما يلي: "لم نُعط حياة قصيرة بل نحن من يجعلها كذلك، لدينا الكثير من الوقت لكننا نضيّعه"، متهكماً على أولئك الذين يقومون بإضاعة وقتهم في أمور غير هادفة، وفي "شوي أجسادهم تحت الشمس"، على حدّ قوله.

من الواضح إذاً أن التحدي الكامن في كيفية عيش حياتنا بشكل جيد ليس تحدياً جديداً، ومع ذلك فإننا نشعر اليوم بأننا مضطرون، أكثر من أي وقت مضى، للاستجابة لضغوط الوقت، من خلال جعل أنفسنا أكثر إنتاجية، إلا أننا، وبالرغم من جميع جهودنا، قد نفشل في تحقيق الراحة الموعودة، لا بل نتجرّد من إنسانيتنا ونتحول إلى روبوتات لا تعرف الاستمتاع بمذاق الحياة.

الجانب الممل من الحياة

"توقفوا عن إهدار الوقت"، "لماذا تجلسون من دون القيام بأي عمل مفيد؟"، "الوقت ثمين فحاولوا الاستفادة منه قدر المستطاع"، لا شك أننا جميعاً نتذكر أهلنا وهم يرددون مثل هذه العبارات بنبرة حازمة، بهدف دفعنا إلى إشغال وقتنا بأمور مفيدة، متسلّحين بفكرة أن الوقت يمرّ بلمح البصر، وقطار الحياة لا يعرف العودة إلى الوراء، فلا مجال للتحسّر على الأيام التي فاتت من عمرنا من دون أن نتمكن من الاستفادة منها.

غير أن الحياة المليئة بالانشغالات والأعمال هي حياة مملة بالفعل وتفتقر لروح الإبداع، في حين أن الوقت الذي نخال أنه ضائع هو أمر ضروري في الحياة ويشبع النفس البشرية.

"مطاردة" الإنتاجية

في مقاله الوارد في صحيفة الغارديان البريطانية، كتب أوليفر بوركمان، أن جميع الجهود التي نبذلها لتحسين إنتاجيتنا قد تأتي بنتائج عكسية، وتجعلنا نشعر بأننا أكثر انشغالاً وأكثر توتراً.

يبلغ متوسط العمر الافتراضي للإنسان حوالي 4000 أسبوع فقط، وبالتالي فقد يكون من الحتمي وجود قدر معيّن من القلق بشأن كيفية استغلال الوقت والاستفادة منه بشكل جيد

وتحدث بركمان عن أن شركة غوغل قامت بتكليف ميرلين مان، لإعداد كتاب عن نظام البريد الإلكتروني، ولكن بعد مرور عامين من العمل الشاق، قرر مان التخلي عن مشروعه، وبدلاً من ذلك أعدّ مدوّنة يتحدث من خلالها عن محاولاته المستمرة للعثور على كيفية الاستفادة بشكل جيّد من الوقت، الأمر الذي جعله يدرك في نهاية المطاف، أن انكبابه المتواصل على العمل أفقده عيش اللحظات الثمينة مع ابنته البالغة من العمر 3 سنوات.

بالفعل، تكمن مشكلة الإنسان الحديث في أنه يقضي وقتاً طويلاً في مطاردة "شبح" الإنتاجية، فيمتنع عن أخذ فترات راحة حقيقية، وبالتالي لا ينام بشكل كاف، ويعزف عن المشي في الطبيعة والقيام بالتمارين الرياضية، وحتى إن نجح في إدارة الوقت وصرفه على بعض الأمور التي يحبها، فإن ذلك يأتي في معظم الأحيان مصحوباً بشعور الذنب والتقصير، وبأن هناك مهام كثيرة في انتظاره، فينكب من جديد على العمل، ولكن سرعان ما يدرك أن ما يقوم به لا يخدم سعادته ولا يزيد حتى إنتاجيته.

فوائد "الوقت الضائع"

يقول الفيزيائي والمؤلف آلان لايتمان: "إن القليل من الغفلة والعزلة ليسا صالحين فقط للروح، إنهما ضروريان للرفاهية".

وفي كتابه In Praise of Wasting Time، يوضح لايتمان أن البشر أصبحوا عبيداً للإنتاجية على حساب الإبداع.

وعن الفوائد الكامنة التي يمكن أن يجنيها المرء من الراحة، قال آلان: "نتحدث عن إهدار الوقت، ولكن في الحقيقة إن قضاء وقت من دون هدف، وترك العقل يتجوّل ويفكر بما يريده، هو أمر مهم للغاية للإبداع، لشعورنا بذاتنا ولاكتشاف ما نحن عليه، ما هي قيمنا وما هو مهم بالنسبة إلينا"، مشيراً إلى أن العديد من المبدعين يحصلون على أفضل أفكارهم عندما يتركون عقولهم تتجوّل بطريقة حرة.

بدوره كتب اليكس سوجانغ كيم بان، صاحب كتاب REST: Why You Get More Done When،You Work Less ، أن العديد من العلماء المشهورين لديهم قاسم مشترك وهو أنهم لم يعملوا لساعات طويلة.

فقد كشف اليكس أن بعض الشخصيات البارزة مثل شارلز ديكنز، غابرييل غارسيا ماركيز وشارلز داروين، كانت تحظى بجدول أعمال مريح للغاية، بحيث أن هؤلاء الأشخاص كانوا يعملون لمدة 5 ساعات في اليوم وحتى أقل، ومع ذلك فإنهم تمكنوا من الوصول إلى أهدافهم والنجاح في مجالاتهم.

وهذا يناقض النظرية التي تعتبر أنه كلما عملنا لساعات أطول كلما تحسنت إنتاجيتنا، فالحقيقة أن العمل يتمدد لملء الوقت الذي نحدده، وبالنسبة لمعظمنا، يمكن أن نقضي ساعات أقل بكثير في العمل ومع ذلك نستمر في إنجاز نفس المهام المطلوبة.

تعليقاً على هذه النقطة، قال الأخصائي في علم النفس مايكل غوتريدج، والذي يركز على السلوك البشري في مكان العمل: "هناك فكرة تقول بأنه يجب علينا دائماً أن نكون جاهزين وأن نعمل طوال الوقت... فينتهي بنا الأمر بفقدان التركيز أثناء جلوسنا أمام الكمبيوتر، حيث نبحث عن اللهو على وسائل التواصل الاجتماعي، ونخبر أنفسنا بأننا نقوم بمهام متعددة، في حين أننا ننفق وقتاً أطول بكثير من اللازم على المهام الأساسية".

بالإضافة إلى ذلك، أشار غوتريدج إلى أن الإنسان بات عبداً للعمل المستمر: "يأكل الناس على المكتب ويحصلون على الطعام عبر الكمبيوتر. إنه أمر مثير للإشمزاز. يجب عليهم الذهاب في نزهة، إلى المقهى"، مضيفاً: "حتى المصانع الفيكتورية كانت تتمتع بنوع من الراحة".

وكشف غوتريدج أنه حتى الأنشطة التي من المفترض أن تكون ممتعة، مثل مشاهدة فيلم أو الركض، يمكن أن يثقلها شعور المسؤولية، مشيراً إلى أنه سمع عن بعض كبار المديرين التنفيذيين، أنهم يشاهدون الأفلام مع الضغط على زر الـfast forward حتى يتمكنوا من الوصول إلى جوهر الفيلم بسرعة: "ربما يفعلون ذلك، إلا أنهم بالتأكيد لن يختبروا أياً من المتعة التي تأتي من انغماس الذات في عالم سينمائي".

واعتبر غوتريدج أن تمضية بعض الوقت من دون القيام بأي شيء سوف يجعل المرء أفضل في عمله، شارحاً ذلك بالقول: "الوقت الضائع يسمح بإعادة شحن بطاريتكم وإزالة التشويش".

تكمن مشكلة الإنسان الحديث في أنه يقضي وقتاً طويلاً في مطاردة "شبح" الإنتاجية، فيمتنع عن أخذ فترات راحة حقيقية،  وحتى إن نجح في إدارة الوقت وصرفه على بعض الأمور التي يحبها، فإن ذلك يأتي في معظم الأحيان مصحوباً بشعور الذنب والتقصير

باختصار قد يكون المثل الشعبي القائل: "العمر بيخلص والشغل ما بيخلص" صحيحاً، فمهما حاولتم إنهاء المهام المطلوبة منكم، سوف يكون هناك دائماً قائمة لا حصر لها من الأعمال التي يجب إكمالها والعمل من أجلها، في حين أن ثقافة الإنتاجية التي لا هوادة فيها تحثنا دائماً على الانكباب على هذه القائمة، وتخلق في داخلنا الشعور بالذنب في حال قررنا تأجيل مهمة ما، أو في حال تأخرنا في إتمامها.

وبالتالي حاولوا أن تضعوا العمل جانباً وأن تقضوا بعض الوقت في القراءة أو المشي أو التسكع مع الأصدقاء، أو حتى الجلوس على الكنبة من دون القيام بأي شيء على الإطلاق، فهذا ليس "وقتاً ضائعاً" بل مثمراً، والأهم أن تحتضنوا هذه اللحظات الجميلة وتعتبروها وقتاً جيداً لأنفسكم، بدلاً من الشعور بالذنب واتهام أنفسكم بالخمول والكسل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard