شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من لؤي كيالي إلى فيلم الطفيلي... الفقر كموضوعة فنية وكسؤال أخلاقي

من لؤي كيالي إلى فيلم الطفيلي... الفقر كموضوعة فنية وكسؤال أخلاقي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 فبراير 202002:27 م

تروي الحكاية البوذية، أن سيدهارتا، الذي ولد وعاش في القصر معزولاً في حياة ملكية، لم يخرج من قصره حتى التاسعة من عمره، وحينها رأى ثلاثاً: جثة رجل ميت، رجل مريض ومتشرد فقير، وبعض الروايات الأدق تقول رأى حينها فقر الفلاحين في منطقته، من بعد هذه التجربة، أي التعرف على الموت، المرض والفقر، امتلك سيدهارتا الحكمة، وبدأت مسيرته كحكيم ومؤسس لواحد من أكثر الديانات انتشاراً في العالم، الفقر هنا مولّد لاكتساب الحكمة.


الفقر في الفن التشكيلي

في ستينيات القرن الماضي، شهدت مسيرة الرسام السوري لؤي كيالي، الذي عاد من دراسة الفن في إيطاليا، انعطافاً. كان سابقاً قد جذب البرجوازية السورية إلى لوحاته في مجال البورتريه والطبيعة الصامتة، لكن عندما بدأ يرسم الطبقات الفقيرة، من صيادي الأسماك والباعة المتجولين في المدن، وكذلك الأطفال المشردين في الشوارع، انفضت الطبقة البرجوازية عنه، وخلا معرضه الفردي من الزوار، ما دفعه لحرق لوحات معرضه دون أن يتخلى عن إعادة رسم موضوعات الفقر، وليبقى منبوذاً من قبل الطبقات التي انجذبت له سابقاً. كان إدخال موضوعات الفقر إلى الفن التشكيلي فعلاً يؤدي إلى النبذ، لكنه صنع من كيالي واحداً من أبرز رسامي اللوحة العربية والفن التشكيلي العربي.

في ستينيات القرن الماضي، شهدت مسيرة الرسام السوري لؤي كيالي، الذي عاد من دراسة الفن في إيطاليا، انعطافاً. كان سابقاً قد جذب البرجوازية السورية إلى لوحاته في مجال البورتريه والطبيعة الصامتة، لكن عندما بدأ يرسم الطبقات الفقيرة، من صيادي الأسماك والباعة المتجولين في المدن، وكذلك الأطفال المشردين في الشوارع، انفضت الطبقة البرجوازية عنه، وخلا معرضه الفردي من الزوار

الفقر كسؤال أخلاقي

في فيلم الطفيلي، للمخرج بونغ جوون هو، الحائز على السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الأخير، تُروى حكاية تخييلية عن الفقر، حيث تعيش عائلة فقيرة، عائلة كيم، على حاجات وأسلوب حياة ورفاهية العائلة الثانية، عائلة بارك. تجدر الإشارة إلى أنّ  الفيلم حاز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم، وكأفضل فيلم أجنبي، وجائزة أفضل إخراج

يحصل ابن العائلة الفقيرة على عمل كمدرس إنكليزي لابنة العائلة الغنية، وحالما يدخل إلى المنزل العريق الثري، يبدأ بإيجاد فرص العمل لأفراد عائلته دون إخبار العائلة الغنية عن القرابة. تصبح أخته معالجة بالفن لطفل العائلة الثرية الصغير، ثم تخطط عائلة كيم لطرد السائق القديم للعائلة الثرية لاستبداله بالأب كيم. كذلك، يوقعون الأمراض بمدبرة البيت القديمة لتحل محلها والدتهم. هكذا دون أن يفضحوا القرابة بينهم، تصبح كامل عائلة كيم في خدمة عائلة بارك، إلى أن يكتشفوا أن في المنزل عائلة ثالثة أشد فقراً، هي عائلة الخدم القدماء، جين سو، الذين مازالوا يعيشون متخفين في أقبية المنزل.

الفقر والجريمة

طيلة الأحداث يرافقنا السؤال الأخلاقي الأزلي: هل يسمح أن يكون الفقر المدقع دافعاً مبرراً للاحتيال؟ هل نسمح لأوليفر تويست بسرقة الخبر من شدة فقره؟ هل تصح حكاية روبن هوود الذي يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء؟ وهل يبرر فقر وحاجة راسكولنيكوف إقدامه على قتل جارته الهرمة الجشعة الثرية في رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي؟ هذا السؤال واحد من أكثر الأسئلة الشائكة حين يتعلق الأمر بمناقشة الفقر.

في حكاية فيلم الطفيلي، كما في العديد من الحكايات الفنية الأخرى التي عالجت هذا التساؤل، يمكن التعاطف ما أمكن مع الفقر، لكن تجاوز الأمر إلى تبرير الجريمة لن يؤدي إلا إلى الجريمة. يؤدي كذب عائلة كيم إلى مزيد من الكذب، ويصل الأمر إلى ضرورة ارتكاب جريمة لإخفاء عملية الكذب المستمرة، وهكذا تتحول العائلة من الفقر إلى الجريمة والخروج عن القانون. تعاقب العائلة في نهاية الفيلم، يخسر الأب كيم ابنته، ويرتكب جريمة قتل بحق مشغله السيد بارك. هكذا يتحول الفيلم مع تسلسل الأحداث من النوع الكوميدي الذي بدأ فيه، لينتهي كمأساة تراجيدية، كأن الإجابة على سؤال: هل يبرر الفقر الجريمة؟ بأن الجريمة ستولد الجريمة، ولا فرار من العقاب.

يتابع الفيلم الوثائقي الفرنسي "نازحون وضحايا"، ظاهرة بيع النازحين السوريين في تركيا لأعضائهم،  وذلك للحصول على المال. بيع الأعضاء جريمة، ولكن الموقف الأخلاقي من الجريمة هنا يتعقّد، وعلى لسان أحد اللاجين:  "إن لم نقدم على الجريمة ستقع المأساة"

بعيداً عن التخييل، وعلى المستوى الواقعي، يتابع الفيلم الوثائقي الفرنسي "نازحون وضحايا"، ظاهرة بيع النازحين السوريين في تركيا لأعضائهم، وخصوصاً الكلى، وذلك للحصول على المال. وفي حين يسمح القانون بوهب الأعضاء البشرية بين أفراد العائلة الواحدة، فإن بيع الأعضاء البشرية يعتبر جريمة اتجار. وبينما رأينا في التخييل أن الإقدام على الجريمة سيولّد المأساة، فإن الحالات الواقعية التي يتابعها فيلم "نازحون وضحايا"، من الراغبين ببيع كلاهم، تقول العكس: "إن لم نقدم على الجريمة ستقع المأساة". أحمد شاب سوري في العشرين من عمره، يحاول بيع كليته في إستانبول، يخبر بأنه إن لم يقدم على ذلك فلن يتمكن من دفع العلاج الطبي الذي يسمح لوالده بالبقاء على قيد الحياة: "فليعش والدي، ولأمت أنا"، الجريمة هنا وهي بيع الأعضاء، تحول دون وقوع مأساة أشد هي موت الوالد، حسين في الثلاثينيات من العمر، يعرض أيضاً كليته للبيع لينقذ عائلته المؤلفة من زوجة وثلاث بنات.

الفقر الطبقي

ثنائية أدنى- فقر / أعلى– ثراء، تحضر في السيناريو وفي الأسلوب الإخراجي للفيلم. تعيش عائلة بارك الثرية فوق سطح الأرض، تعيش عائلة كيم الفقيرة على هامش سطح الأرض وتحت الأرض في القبو، أما العائلة الثالثة، جين سو الأشد فقراً، فتعيش أسفل القبو أيضاً، في سراديب سرية ومهمشة ومخفية عن الأعين. وعلى مستوى المدينة ككل، كلما اتجهنا إلى منزل العائلة الثرية توجهت الكاميرا إلى الأحياء العليا في المدينة، وكلما تم الانتقال إلى عائلة كيم الفقيرة، هبطت الكاميرا في الأحياء الفقيرة والمهمشة للوصول إلى منازلهم، وحين الصراع على منزل العائلة الثرية يتحول الجلوس والاسترخاء فوق الكنبة إلى رمز الانتصار، إن الاستلقاء على الكنبة بمثابة عرش للفقراء. وتؤدي سلسلة الجرائم في الفيلم إلى غرق العائلة الفقيرة الأولى بالدماء، وفي لقطات متوازية، تغرق العائلة الفقيرة الثانية بطوفان المجارير الذي أصاب المدينة وسبب الأضرار وإجلاء السكان، مصير العائلتين الفقيرتين في الفيلم، بين شلال الدماء أو شلال المجارير من الخراء والبول.

في الفيلم تفصيل يتعلق بالرائحة طبقياً، حين تحتال عائلة كيم على عائلة بارك، يكاد الطفل الصغير للعائلة الثرية أن يكتشف القرابة بين الخادمة، السائق، والمدرسين الخصوصين: "إن لديهم رائحة واحدة"، يقول داسونغ الصغير، ورغم أن والديه ينهرانه، إلا أن انزعاج العائلة الثرية من رائحة العائلة الفقيرة يزداد. الفقراء لا يدركون الرائحة التي تفوح منهم، فقط الأغنياء بإمكانهم تمييزها، ونقل المعلومة للفقراء بأنهم ذوو رائحة. وسيكون موضوع الرائحة الدافع المباشر لوقوع جريمة القتل في الفيلم، فالسيد كيم سيقتل السيد بارك في اللحظة التي يبدي فيها الأخير اشمئزازه من رائحة فقير ثالث، هو جين سو.

حساسية التطرق للفقر فنياً

في فيلمها "كفرناحوم" اختارت المخرجة نادين لبكي الفقر كموضوعة أيضاً، يصور الفقر هنا من حكاية فتى يتابع الفيلم حياة عائلته ويومياته التي تودي به إلى الإغراق في الفقر أكثر وأكثر، طيلة مسار الفيلم، ليدخل الفتى في عوالم الحياة السفلية من الجريمة والخروج على القانون، إلا أن الكثيرين اعتبروا مقولة الفيلم تمييزية على المستوى الأخلاقي، فالعديد من الكتاب والنقاد اعتبروا أن الفيلم يحمل مقولة: "إنه يجب على الفقراء تحديد النسل"، وذلك حيث يرفع الفتى في الفيلم دعوة قضائية على والديه يلومهما فيها على إنجابه. لقد اعتبر العديد من الكتاب أن في الفيلم مقولة أخلاقية فوقية، تطلب من الفقراء الحد من النسل. إن هذا التأويل لفيلم كفرناحوم يبين لنا كم هو حساس ودقيق مقاربة موضوعة الفقر عبر الفن.

الفقر الحاقد

يعتمد كلود شابرول على رواية "الاحتفال" لرلاوث راندل، لمعالجة موضوعة الفقر بالكثير من الجرأة، في فيلم يحمل نفس العنوان أنتج العام 1995. تقدم فيه مدبرة المنزل وموظفة البريد في البلدة، على قتل أفراد العائلة الثرية في الفيلا الفاخرة خاصتهم، وترتكبان بوحشية جريمة القتل، بينما أفراد العائلة الثرية يشاهدون عرضاً للأوبرا على التلفزيون. الأوبرا هنا رمز للطبقية، والحكاية بمجملها تظهر الجانب الحاقد من الفقر والإحساس بعدم العدالة. تتحول الطبقة الدنيا في الفيلم إلى الإجرام الوحشي في الاعتراض على رفاهية الطبقات العليا.

الفقر كإحصائية

تبقى مقالة "اقتراح متواضع" لجوناثان سويفت، من أشهر المقالات في اللغة الإنكليزية حتى بعد 250 عاماً من نشرها. وتعرض المقالة حلاً للفقر الإيرلندي المزمن والحاد في القرن 18. لقد اقترح فيها سويفت خطة شيطانية: دعوا الأطفال يرضعون من صدور أمهاتهم عاماً كاملاً وهو طعام مجاني، يقترح أيضاً إطعام الأطفال من الذكور وإهمال الإناث، ويقدم إحصائيات ومعلومات دقيقة عن معدلات أوزان الأطفال التي تبقيهم على قيد الحياة، ومعدلات استهلاكهم المقبولة للحليب. بالنتيجة، هي مجموعات اقتراحات غاية في العنصرية والتمييز تعتمد على الأرقام والحسابات، وعلى نبرة رياضية دقيقة تعالج البشر الفقراء على أنهم إحصائيات. لكن بقي القول إن سويفت قدم هذه المقترحات على سبيل السخرية والمزاح، لقد أراد في هذه المقالة أن يبين طريقة تفكير السلطة بالفقراء وتنبيه وعي القارئ إلى آليات مكافحة الحكمة لظاهرة الفقر بأساليب إحصائية تمييزية. لقد اضطر سويفت لمقاربة الفقر كوميدياً، لينبه وعي القارئ على خطط الدولة وأفكارها للتعامل مع ظاهرة الفقر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard