شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن طحالب نشيد اليابان الوطني ودموية الأناشيد العربية

عن طحالب نشيد اليابان الوطني ودموية الأناشيد العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 13 فبراير 202005:03 م

لم أكن لأعلم شيئاً عن النشيد الوطني لليابان، لولا رابط بعثه لي صديق نيوزلندي عاد للتو من رحلة إلى طوكيو، وأدهشه قصر النشيد وفرادته. بطء وبساطة اللحن كانا أول ما شدّني إليه، لكن ما أثار اهتمامي أكثر، كانت الكلمات التي توالت ترجمتها إلى الإنكليزية على الشاشة أمامي، فأجريت بحثاً سريعاً على الإنترنت لأجد أنه لا يُعد أحد أقصر الأناشيد (أقل من دقيقة) في العالم فحسب، بل هو أيضاً من أقدمها، إذ قام بكتابته شاعر غير معروف قبل قرابة ألف عام، ثم تم اعتماد لحنه الحالي في نهاية القرن التاسع عشر، ويطلق اليابانيون عليه تسمية "كيميغايو" التي تعني "حكم جلالته الإمبراطوري"، الأمر الذي تسبّب في كثير من الجدل في أوساط النخب اليابانية خلال القرن الماضي.


معارضة بعض الأحزاب اليسارية للنشيد استندت على تمجيده للماضي وحكم السلالة الإمبراطورية، على حساب اليابان كأمة معاصرة وشعب ذي آمال وطموحات، خصوصاً في ظل أمر كان قد أصدره الإمبراطور السابق هيروهيتو، خلال الحرب العالمية الثانية، بإلزام طلبة المدارس في اليابان والأراضي التي تستعمرها، بتلاوة النشيد كل صباح. الغريب في الأمر أن "القيادة العليا لقوى التحالف" التي حرصت على تغيير العلم الإمبراطوري المعروف بـ"هينومارو" إثر انتصارها على اليابان في الحرب، لم تقم بتغيير النشيد الذي بقي متداولاً، بل تحوّل إلى رمز لمقاومة الهزيمة وتجاوزها، ثم صدر تشريع في عام 1999، اعتبر العلم والنشيد رمزين وطنيين للبلاد، بالرغم من احتجاج الكثيرين.

"ليمتد عهدك لألف، بل ثمانية آلاف جيل"... طحالب النشيد الوطني الياباني وسيوف وهتافات الأناشيد الوطنية العربية

كلمات النشيد تحمل ملامح الأدب والفن التشكيلي الياباني، من انصهار مع الطبيعة واعتماد الاختزال المتناهي minimalism، وهو ما وسم لاحقاً الفنون المعاصرة في الغرب والعالم، من عمارة ومسرح وموسيقى ورسم ونحت.

ليمتد عهدك لألف، بل ثمانية آلاف جيل

حتى تتحوّل الحصى الصغيرة إلى صخور صلدة عظيمة،

تزخر جوانبها بالطحالب

تأملت معاني السطور كمن يقف أمام لوحة تجريدية، بينما جنحت ذاكرتي نحو عقد مقارنة مزعجة مع أناشيد ردّدتها جنبات مدرستي الابتدائية في بغداد الثمانينيات، عن دماء مسفوكة وسيوف مسلولة، تحديداً أنشودة قديمة كانت قد كتبت لفلسطين في الأصل، لكن دمويتها راقت لصدام حسين الذي اعتمدها ضمن أناشيد حربنا الطويلة مع إيران، ويكفي أن نقرأ سطورها الأولى كي ندرك فظاعتها التي تستدعي إلى الأذهان مشاهد أفلام الرعب:

لبيك يا علم العروبة، كلنا نفدي الحمي

لبيك واجعل من جماجمنا لمجدك سلما

لبيك أن عطش اللوا

سكب الشباب له الدما

خطر لي عندها أن أقوم بجولة على كلمات الأناشيد الوطنية العربية، فكان منطقياً أن أتوجه أولاً إلى موقع جامعة الدول العربية، كي أتأكد من عدد أعضائها المُتغيّر، خصوصاً وأن هناك دولة أفريقية تمت إضافتها إلى القائمة عام 1993، هي جمهورية القمر المتحدة، علماً أن لا حدود برية ولا بحرية لها تربطها مع أي بلد عضو آخر، فهي أقرب بكثير إلى مدغشقر منها إلى الصومال وجيبوتي، والأخيرتان أيضاً غير موصولتين برياً بسائر دول الجامعة.

مع قراءتي لنصوص الأناشيد والسلامات الملكية والأميرية والجمهورية والسلطانية.. إلخ، اكتشفت عدداً من الحقائق الطريفة، منها أن أناشيد جمهوريات جيبوتي، الصومال الديمقراطية والقمر المتحدة، مكتوبة وتُنشد بلغات أجنبية، رغم عضويتها في جامعة الدول العربية، كما ينفرد النشيد الوطني الجزائري عن نظرائه في العالم العربي، بل والعالم أجمع، باحتوائه على مقطع يتوّعد بلداً آخر هو فرنسا، بالعقاب، بسبب ما اقترفته بحق الشعب الجزائري خلال فترة استعمارها له:

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب

وطويناه كما يطوى الكتاب

يا فرنسا إن ذا يوم الحساب

فاستعدي وخذي منا الجواب

إن في ثورتنا فصل الخطاب

بالرغم من طلب فرنسا المتكرّر بحذف المقطع المثير للجدل، رفضت الجزائر الانصياع حتى تعترف الأولى بجرائمها وتقدّم اعتذاراً رسمياً عنها.

ذكر رموز دينية من إله وأنبياء وشريعة وأديان

الحديث عن ورود رموز دينية لا يُقصد به الإساءة أو الإدانة، بل هو مجرد توثيق لظاهرة قائمة، خصوصاً وأن كثيراً من الأناشيد الأجنبية تتضمن ذكر "الله"، كبريطانيا التي ترد جملة "حفظ الله الملك(ة)"، في مطلع نشيدها وأوسطه وآخره، أما في العالم العربي، فباستثناء الجزائر، جيبوتي، العراق (مفارقة لأنه الوحيد الذي تظهر عبارة "الله أكبر" على علمه!)، فلسطين، الصومال، سوريا، تونس واليمن، نجد أن جميع الأناشيد الباقية تحمل رموزاً دينية.

ذكر الحاكم

كما هو حال النشيد البريطاني، يرد ذكر الحاكمين في أناشيد السعودية، البحرين، الأردن، الكويت، المغرب وعُمان، بينما يتضمن النص الكامل للنشيد الجزائري ذكر "جبهة التحرير" فيها، أما النشيد الليبي الذي يستخدمه المجلس الوطني الانتقالي منذ عام 2011، فهو النشيد القديم للمملكة الليبية، الذي توقف العمل به إثر انقلاب عام 1969، ويظهر في أحد مقاطعه اسم الملك السابق إدريس السنوسي، فآثر البعض استبدال إدريس بالمختار، كناية عن الثائر الليبي العتيد، عمر المختار.

ذكر السلاح من سيف أو بندقية أو رمح

ترد الأسلحة في أناشيد الجزائر، العراق، فلسطين، ليبيا واليمن، المفارقة هنا أن السعودية التي يظهر السيف على علمها، وعُمان التي يحمل علمها رسم خنجر وسيفين، يخلو نشيداهما من أي ذكر للسلاح!

ذكر الدم

رغم تكريس معاني الفداء والشهادة والاستعداد لبذل الأرواح والترحيب بالموت دفاعاً عن الوطن في معظم الأناشيد العربية، نجد أن مفردة الدم تظهر في أناشيد كل من الجزائر، جيبوتي، المغرب، فلسطين، سوريا، تونس، الإمارات واليمن، بينما يرد ذكر الدم في نشيد جزر القمر، كناية عن العرق أو العنصر.

ذكر العروبة

يرد ذكر "العرب" أو "يعرب" أو "العروبة" في أناشيد البحرين، الأردن، الكويت، موريتانيا، عُمان، سوريا، الإمارات واليمن.

من المفردات الأخرى التي لاحظت تكرارها: الأعالي، السماء، العز، الفخر، الرفعة، المجد، الجلال، النضال، الجهاد.. إلخ. أعتقد أن الأمر يستحق من الباحثين القيام بدراسة وتحليل عميقين لتلك النصوص ودلالاتها، وما تعكسه من ثقافات الشعوب التي تمثلها، وربما ثقافة مجموع ما اصطلح على تسميته ب"الأمة العربية"، ومقارنتها مع كلمات أناشيد الأمم الأخرى، فقد يساعدنا ذلك على فهم سر تجاوز دولة كاليابان لهزيمتها المريعة في الحرب العالمية الثانية، وتمكّنها من إعادة بناء نفسها في وقت قصير نسبياً، وكذلك ألمانيا التي قامت بتشذيب نشيدها من آثار النازية المقيتة وعنصريتها في عام 1952، بما في ذلك عبارة "ألمانيا فوق الجميع" التي تم حظرها، والإبقاء على مقطع قصير يدعو للاتحاد والأخوة والعدل والحرية، بينما ما زالت معظم شعوبنا - رغم نصوص أناشيدها الرنّانة - تعاني الفقر والجهل والمرض والفساد والديكتاتورية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard