شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أقرأ لمن أثق بهم"... العرّافة التي نجت من الحرب واتهامات الشعوذة في دمشق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 4 يناير 202003:26 م

لم يكن من السهل إقناع "أم علاء"، وهي سيدة في الأربعينيات من عمرها، من إجراء هذا اللقاء غير المتوقع والمليء بالمفاجآت، هي الصدفة التي جعلتني أسمع عن قدرتها على التبصير وقراءة الفنجان، من إحدى سيدات حي الشعلان في دمشق واسمها "هدى"، والتي تقصد "أم علاء"، بحثاً عن إشارة ما تبشّر بزوال الحسد وفك العين التي تعتقد هدى أنها تتربص بأفراد عائلتها وتعرقل أمورهم، مبررة لجوئها إلى التبصير بأن "الغريق يتعلق بقشة"، كما يقال، وأنها تسلية وليست سحر وشعوذة، حسب تعبيرها.

أم علاء سيدة التي لا تخيب أقوالها، حسب شهادة الجيران والسيدات ممن يترددن عليها لقراءة الفنجان في إحدى بلدات الغوطة الشرقية بريف دمشق، تلتم حولها السيدات بدافع الفضول لمعرفة المجهول والغيب وقراءة المستقبل، أرافق هدى لزيارة أم علاء، وأنتظرها لتنتهي من قراءة فنجان إحدى السيدات وهي تصغي باهتمام واضح لكل كلمة تقولها أم علاء، التي تطلب منها أن تضع بصمتها أسفل الفنجان فتخبرها عن فرج قادم ومولود جديد.

"أنا العرافة التي نجت من الحرب والموت مراراً، لا تصدقيني، لكن صدّقي قدرك وما كُتب لكِ واتبعيه"... تقول "أم علاء".

في لقاء مع رصيف22، تحدثت أم علاء عن بداية اكتشافها لموهبتها هذه، منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وقالت إنّها منذ صغرها شعرت بشغف وهي تراقب جارتها تقرأ الفنجان للسيدات، محدثة إيّاهن عن رزقة أو ربما مصيبة قريبة، فبدأت تسألها عن معنى الرموز التي تراها ودلالاتها وطريقة تفسيرها: هذه كف ممدودة وبجانبها دائرة تدل على رزقة قادمة، أو أرقام عربية مكتوبة بوضوح، إذا كانت صغيرة فهي مبلغ سيدفعه صاحب الفنجان، أما إذا كانت كبيرة فهي مبلغ مقبوض، قعر الفنجان الدائري يرمز للعائلة وأفرادها والطلاسم التي فيه تخبر عن ما جرى وما سيأتي، أما ما يُخبرنا عنه جدار الفنجان فهو عن أحداث تتعلق بالمحيط والأقارب والعمل.

وأضافت أنها تستطيع بفراستها أنْ تشعر بطاقة الإنسان الإيجابية والسلبية، وهذا لا علاقة له بالتبصير، بل بالحدس، حسب تعبيرها.

وتابعت: "كل رسم يدل على حيوان له دلالة معينة"، وهنا تتوقف أم علاء لتؤكد أنها تفسّر الرموز والإيحاءات فقط دون مساعدة من أحد، وعندما سألتها بإلحاح: "من هذا الأحد الذي يمكن أن يساعدك؟"، تلفتت حولها حذرة ثم استعوذت من الشيطان وقالت بصوت خافت: "إنهم الجان…".

الجان والفنجان

روايات وأساطير كثيرة تخبرنا عن علاقة الجن بالفنجان، البعض يطلق عليه "فن الجان" وذلك للدلالة على أن ما يتنبأ به المبصّر قارئ الفنجان، ما هو إلا كلام ومعلومات مستوحاة من "القرين" وهو الجان المرتبط بالمبصّر، وأن الطلاسم والرسومات داخل الفنجان المقلوب ماهي إلا لغة الجان، قاموا بكتابتها ورسمها ووحدهم من يستطيع تفسيرها وقراءتها أو الإيحاء للمنجم بمعانيها.

عن هذا الموضوع ذكرت لي أم علاء أنها تشعر أحياناً، أثناء فتحها لفنجان أحد ما، أنّ "قرينها" يقف خلفها كالخيال، فتخشى أن تكمل القراءة كي لا تتحدث وتخبر بما يوحيه إليها القرين، فهي لا تريد بناء روابط مع عالم الجن، وتعتذر فوراً عن إتمام القراءة متذرّعة بعدم وضوح الدلالات بشكل كاف أو التعب. وتقول إن هذا القرين تشعر به حسب طاقة الشخص الذي يقصدها لفتح فنجانه.

رحلة التبصير بالفنجان عبر التاريخ

تاريخياً، عُرف فن التبصير بالفنجان باسم (تاسيوغرافي Tasseography)، ولهذا الفن جذور قديمة، إذ إنّه بدأ في الصين بقراءة أوراق الشاي، ومارسها حتى رجال الدين. وانتقل هذا الفن في وقت لاحق إلى الشرق الأوسط، حيث حلّت القهوة المطحونة بدل أوراق الشاي، كما انتشر في الهند وعند الإغريق والأتراك، ومارس الكهنة والعرافون التبصير والتنجيم في جميع البلاد التي انتشر فيها.

أشعل انتشار القهوة في العالم الإسلامي، مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، معركة فقهية سرعان ما تطورت إلى أحداث شغب.

هذا الجدل الصاخب بشأن القهوة، استمر في العهد العثماني قرابة قرنين من الزمن، بدعوى أنها "مسكرة ومفسدة " للعقل والبدن، وأشد خطراً من الخمر.

تسلّح الملوك والسلاطين بالفتاوى الدينية التي أصدرها الفقهاء لتحريم القهوة، فكانت حجتهم أنها تسمم الروح والجسد.

لكن بعض المتتبعين لتاريخها وجدوا أن حظرها يعود لأسباب سياسية، ففي المقاهي يتجمع الناس وتدور النقاشات والأحاديث، وفيها تفشى الأسرار، ومنها تنطلق الثورات والتظاهرات، ولأن القهوة لها مفعول كيميائي سحري تورّط فيه كبار المفكرين، أمثال فولتير، الذي يحكى أنه كان يحتسي 40 فنجاناً من القهوة يومياً، لهذا فهي كانت مصدر قلق لقدرتها على تنشيط الخيال والأفواه معاً، وهذا ما لم يكن يريده الحكام.

مراحل قراءة الفنجان

نعود إلى "أم علاء" التي أعطتني بعض أسرار قراءة الفنجان، إذ لابد أن تكون القهوة تركية (كما هو شائع تسميتها)، فالقهوة المرة (العربية) أو الإيطالية (الاسبريسو) لا تصلح، لأن حبيباتها أكبر من اللازم. هذا أولاً، أما ثانياً فيجب أن "تُطبخ" خصيصاً على نية الشخص الذي ينوي التبصير، لا يضاف إليها السكر أو مواد أخرى، وتغلى دقيقتين على الأقل، هذا ما قالته أم علاء عن مراحل قراءة الفنجان.

وتضيف: "لا تصب القهوة إلا مرة واحدة فقط في الفنجان، أما قلب الفنجان (أو طبّه حسب المصطلح الدارج في التبصير) فيتم بتلويحه من اليسار إلى اليمين بشكل دائري، ونطبّه إلى جهة اليسار وننتظر أربع دقائق حتى يجف وتبدأ عملية قراءة الرموز والأشكال التي تكوّنت من بقايا القهوة على جدران الفنجان وفي قعره، من الجهة اليمنى لمسكة الفنجان وبعكس عقارب الساعة".

وتتابع: "ولكن إذا لم تجف القهوة في الفنجان جيداً بعد تلك الدقائق، وبقيت تسيل، فهذا دلالة على هم وحزن يكدر صاحبه".

"يا ولدي قد مات شهيداً"

هي ليست مجرد جملة من أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة وحسب، فأم علاء تنبأت بعشرات الجنائز لكنها تبرر قائلة: "في تلك الفترة كان أكثر الرجال ملتحقين بالجبهات، كان الموت اعتيادياً فقد عشنا حرباً وليس لعبة، أنا نفسي نجوت من الموت مرات عديدة".

إلا أنها كانت ترى في فناجين بعض النسوة اللواتي يقصدنها تجمهراً غير اعتيادي على عتبات أبواب منازلهن، وألواح خشبية وبوماً أو غراب فتخمّن أن مكروهاً سيحصل، حسب حديثها.

"أنا أتسلى وحسب"

لا تتقاضى أم علاء أي مبالغ مقابل "فتحها الفنجان"، فهي تفعل ذلك للتسلية وحسب، وكانت تخشى إذا انتشر خبر قراءتها للفنجان، أن تُتهم بالسحر والشعوذة، ومحاكمتها بالمحاكم الشرعية أثناء سيطرة المجموعات المسلحة المتشددة على الغوطة الشرقية في ذلك الوقت، كما تخشى من تحويلها للقضاء السوري بذات التهمة، بعد أن استعاد الجيش السوري السيطرة على المنطقة منذ عام ونصف، وتقول: "أنا أتسلى وحسب... ولا أقرأ إلا لمن أثق بهم".

إلا أنها أثناء الحصار بالغوطة الشرقية كان من الصعب عليها تأمين القهوة بشكل دائم للسيدات اللواتي يقصدنها لقراءة الفنجان، وقد مرت أيام طويلة فُقِدَ بها البن تماماً وأصبح تأمينه من الكماليات والرفاهية وكان سعره مرتفعاً جداً إن وجد، فكانت تطلب من السيدة التي ترغب بالتبصير أن تجلب معها من القهوة ما يكفي لصنع فنجان.

أغرب القصص

عن أكثر الأشخاص غرابة ممن قرأتْ لهم، تُحدثنا أم علاء عن رجل خليجي كان يتردد إلى منزل أقاربها في إحدى بلدات الغوطة الشرقية قبل الأحداث، وأنها قامت بفتح فنجانه ذات يوم لتقول له: "إن ما يضمر له لن يتم حتى لو تم"، لتعرف بعد فترة أنه تزوج من إحدى الفتيات في البلدة لتعود بعد شهرين فقط مطلقة إلى أهلها، ويبدو أن هذا يطابق المقولة الشائعة في بلادنا لتهنئة المتزوج حديثاً: "الله يجعل التمام على خير".

وعن أكثر الأمور التي يرغب الناس معرفتها حالياً من خلال الفنجان، قالت: "هل سأتمكن من السفر قريباً؟ هل يوجد طريق سفر وحقيبة بفنجاني؟"، أما الفتيات، فبحسبها، فيضمرن على نية الزواج وإيجاد الشريك عادةً.

لا تتقاضى أم علاء أي مبالغ مقابل "فتحها الفنجان"، فهي تفعل ذلك للتسلية وحسب، وكانت تخشى إذا انتشر خبر قراءتها للفنجان، أن تُتهم بالسحر والشعوذة، ومحاكمتها بالمحاكم الشرعية أثناء سيطرة المجموعات المسلحة المتشددة على الغوطة الشرقية في ذلك الوقت، كما تخشى من تحويلها للقضاء السوري بذات التهمة

أثناء الحصار بالغوطة الشرقية كان من الصعب على العرّافة تأمين القهوة للسيدات اللواتي يقصدنها لقراءة الفنجان، وقد مرت أيام طويلة فُقِدَ بها البن تماماً وأصبح تأمينه صعباً، فكانت تطلب من السيدة التي ترغب بالتبصير أن تجلب معها من القهوة ما يكفي لصنع فنجان

إن وجهة نظر الأديان واضحة وصارمة فيما يتعلق بالتنجيم والتبصير لاسيما في المسيحية والإسلام، التبصير والادعاء بمعرفة الغيب مجرد كذب وشعوذة وله أحكامه الشرعية والفقهية التي توضح عقباته وعقوباته. ولا يصدّقه إلا كل ضعيف إيمان نتيجة لفقدان الطمأنينة في أرواح البعض يدفعهم للبحث عنها بشتى الوسائل، فالتنجيم مجرد وسيلة للهروب من الواقع البائس المثقل بالهموم والانكسارات، يستغله العرافون لتحصيل الأموال.

في ختام زيارتي لأم علاء، أطالت النظر في عينيّ طويلاً، وقالت: "لكنه القدر وهو مكتوب، أين ستهربين؟".

أمازحها بلطف وأجيبها: "ربما اختلطت عليكِ طلاسم الفنجان المرسومة وجَعَلتكِ تقولين ما قلته"، لتجيبني بحزم: "أجل ربما أخطئ، لكن إشارات عينيك مفضوحة، انظري دلالات إحساسك واتبعيها فهي لا تخطئ"، وتابعت: "أنا العرافة التي نجت من الحرب والموت مراراً، لا تصدقيني، لكن صدّقي قدرك وما كُتب لكِ واتبعيه".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard