شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ابن تيميّة مُفسراً... ذاك

ابن تيميّة مُفسراً... ذاك "الزمان" الذي لا ريب فيه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 5 يناير 202003:10 م

المعروف أن شيخ الإسلام ابن تيميّة ( ت. 1328) لم يُؤلف في التفسير، أي لم يُنجز مؤلفاً فسّر فيه النص القرآني بأكمله سورة تلو السورة، بل هناك "مقدمة في أصول التفسير"، التي يطرح فيها منهجه لآليات تفسير النص القرآني وفهمه، لكن المثير للاهتمام أن ابن تيميّة في شبابه وبعمر الـ22، كان يعطي دروساً في التفسير في الجامع الأموي في دمشق، بعد صلاة الجمعة، وكان له زاوية خاصة، اجتذبت الكثيرين حينها للاستماع إلى كلامه.

الرؤية الضيقة لفن التفسير، أو للتفسير كنشاط عقلي وثقافي، بقيت حكراً على التقسيم التقليدي الذي يتمثل بالمصنفات الكبرى التي يُفسّر فيها القرآن آية بآية، واهملت المحاولات الأخرى التي يمارس فيها التفسير كجزء من إنتاج الحجج الدينية أو أسلوب لدرء الشبهات، حسب تعبير ذاك الوقت.

أعاد ابن تيميّة النظر في التفسير كعلم ونشاط ثقافي كان يمارس في عصره، واختبر نظام ترتيب الحجج في إنتاج المعنى الذي تحويه الآية، أي هرمية النصوص التي يرجع لها لرسم حدود التفسير، إذ اعتمد القرآن أولاً، ثم أحاديث النبي محمد والصحابة، وبالرغم من انتقاده للأشاعرة ومنهجهم اللغوي، نراه يعود في "رسالة في قصة شعيب" إلى المعاني اللغوية والتاريخية، وأحياناً يستعين بالكتب المقدسة الأخرى ليُبرز حجّته، صحيح أنه يسلّم بتحريف هذه الكتب، لكنه لا ينفي كلياً استخدامها، بل يجد فيها دليلاً أو إشارة لإيضاح ما يريد، في ذات الوقت ينتقد معاصريه كالثعالبي، وتوظيفهم لبعض الأحاديث التي تثير اللغط أو غير الدقيقة، بسبب قلة خبرتهم.

يشير الباحث يونس ميزرا، إلى رسالة شعيب التي تحوي أحد أبرز أشكال علاقة ابن تيميّة مع التفسير، والتي لم تكن "فتوى"، أي لم يسأله أحد عن قضية، بل كانت اهتماماً شخصياً منه بمفهوم التفسير من جهة، وبالعلاقة مع الكتب المقدسة الأخرى، وكيفية توظيفها، بسبب ما نتج عن خلط بين الشخصيات التاريخية والدينية كحالة شعيب وموسى والقرابة بينهما التي أوجدها بعض المفسرين في سورة "القصص".

أثار ابن تيميّة جدلاً بـ"إثباته" أن موسى وشعيب ليسا على قرابة كما في بعض التفسيرات، بل أن الشيخ المقصود في الآية هو "يثرى"، مؤكداً على حديث ابن العباس، ومدرجاً نهاية آراء الكتب المقدسة الأخرى إذ يقول: "ما في التوراة التي عند اليهود والإنجيل الذي عند النصارى أن اسمه يثرون وليس لشعيب النبي عندهم ذكر في التوراة"، إذ جاء تفسير ابن تيميّة ضد التفسير الشعبي أو ذاك المسلي لقصص الأنبياء، بوصفها نوعاً أدبياً تسلل إلى نظام التفسير القرآني وكان هدفه التسلية أكثر من تقديم فهم للنص القرآني وتاريخه.

أسلوب إنتاج الحقيقة القرآنية لدى ابن تيميّة، يعتمد على معاني النص نفسه، مدعومة بآراء الصحابة والتابعين، نافياً أن الشيخ الذي التقاه موسى في مدينة "مدين" هو النبي شعيب، الذي يشير القرآن في مكان لاحق أنه نبي أرسل إلى مدين، لكنه ليس بالضرورة ذات الشيخ في سورة القصص، لكنه لا يطرح أي سؤال حول "بشرية" المصادر نفسها، إذ يؤكّد على أهمية ابن عباس الذي ينفي القرابة لأنه مكّي، وصحابي، وقريب النبي الذي باركه بـ"ترجمة القرآن" التي هي ملكة ذات مصدر رباني، لكن بسبب غياب الذكر الواضح للشيخ الذي التقاه موسى يلجأ لتقنيات أخرى للتفسير كالإنجيل والتوراة والتفسير اللغوي، لكن المثير هو التسليم بشكل الحقيقة ومصدرها بل وترتيب الآيات، وعدم طرح أسئلة على مصادرها أو سياقاتها التاريخية حين نزلت، ما يبرز النواحي "الحرفية" و"شديدة المنطقية" في أسلوبه للتفسير، وهذا ما يتضح لاحقاً سببه.

بالرؤية التقليدية، لا يعتبر ابن تيمية مفسراً، ولكنّ جهود ابن تيميّة التفسيرية تظهر في ظل الدفاع عن العقيدة، وعصمة الأنبياء عن الخطأ، وإعلاء لمكانة الصحابة، وقدرتهم على فهم النص القرآني

جاء تفسير ابن تيمية لقصة موسى وشعيب في القرآن ضد التفسير الشعبي لقصص الأنبياء... هنا بحث في أسباب ذلك 

يستخلص ابن تيميّة أن صهر موسى ليس النبي شعيب، بعكس التفسيرات الأخرى، بل هو الشخصية الإنجيلية يثرى، ويلجأ إلى تحليل لبنية الحكاية القرآنية مستنداً إلى "حقائق" يقدمها القرآن نفسه ونصوص موازية، لكنه يقرأ القرآن بوصفه نصاً ذا علاقات منطقية، بعيداً عن المعاني الرمزية فيه، ويسلم بصحة "القرآن" و"الحديث الصحيح"، وما فيهما من حكايات، وذلك للاختلاف عن فن القصص القرآني المحاط بتفاصيل من "الغث والثمين"، صحيح هو اختلف عن الأشاعرة، لكنه يسلم بقول الحسن البصري بأن الشيخ في الحكاية ليس موسى، ويلوم الثعالبي على إغفال سلاسل النسب، واستخدام الضعيف من الحديث.

التأمل في الرسالة يكشف موقف ابن تيميّة في مسائل العقيدة، هو يدافع عن نبوة موسى، وهنا يتحول التفسير من محاولة لفهم النص إلى صراع مع الميل الشعبي لتمكين جوهر العقيدة وممثليها من أنبياء، إذ يبني منطقه على عدد من الحجج، أولها أن الصحابة والتابعين أشاروا إلى أن الشيخ ليس بشعيب، كذلك، شعيب نبي عربي، وموسى نبي اليهود، ولم يتحدثوا ذات اللسان، والنص القرآني يشير إلى حديث مباشر بين الشيخ وبين موسى فكيف تفاهما؟ الأهم، أن موسى التقى الشيخ في مدين، المدينة التي أرسل إليها شعيب، ثم انزل الله بأهلها العقاب، وعادة يترك الأنبياء مدنهم التي عوقبت كحالة نوح ولوط، فلم بقي شعيب بعكس باقي الأنبياء، كما أن المدينة التي دخلها موسى مأهولة وتحوي ناساً ولم تكن خراباً بعد العقاب الرباني، الذي من المفترض أنه ينفي الحياة من مكان العقاب.

يشير لاحقاً إلى حكاية عصا موسى، وأصل ملكيتها وينفي الحكاية التي تقول إنه اختلف في ملكيتها مع شعيب، وأسطورة أنها نقلت بين الأنبياء منذ آدم حتى وصلت لموسى، الأهم إن كان الشيخ نبياً، لم سيدخل في نقاش حول العصا مع موسى؟

رسل من الله أو من يسوع الناصري؟

أسلوب التفسير "شديد المنطقية" الذي يتبنّاه ابن تيميّة نراه أيضاً في حديثه عن سورة "يس" وخبر "الرسل" التي فيها، إذ ينفي كونهم مرسلين من يسوع الناصري لأهل المدينة، بل ويرى أنه من الممكن أن يكونوا رسلاً من الله، إذ يستفيد من النص القرآني ونماذج الحكايات التي فيه لينفي آراء المفسرين. فرفض أهل المدينة للرسل، يحيل إلى الموقف التقليدي من أي نبي جديد يرسل، كونهم أيضاً يحيلون إلى "مُرسلهم" بوصفه الله، لا رسولاً كعيسى بن مريم.

أهمية هذه المقاربة هي في قراءة ابن تيميّة للنصوص المقدسة، تكمن في سعيه لتبرئة الرسل أنفسهم من الشك والظن، فهؤلاء كحال محمد، استُهزئ بهم وسُخر منهم، وتأتي الآية كتحذير للعرب وتأكيد لنبوة محمد، عبر ضرب عبرة في قصص السابقين، والتأكيد على قدرة الله على الانتقام، ودفاعاً عن عصمة الأنبياء الذين لا يخطئون ضمن المنطق القرآني، بعكس الرسل والصحابة الذين لا يخضعون للعصمة، بل هم بشر يمكن لهم الخطأ، كعمر الذي تتجلى الحقيقة على لسانه من قبل الله، لكن يمكن له الخطأ.

جهود ابن تيميّة التفسيرية تظهر في ظل الدفاع عن العقيدة، وعصمة الأنبياء عن الخطأ، وإعلاء لمكانة الصحابة، وقدرتهم على فهم النص القرآني، هو يفترض أيضاً أن لا تناقضات في هذا النص، بل ويمكن عبره قراءة النصوص الدينية الأخرى، هو يدافع عن تماسك النص القرآني وكل من شهد إنتاجه الأول في عصر النبي.

كذلك الزمن القرآني في تفسير ابن تيميّة صلب ومتماسك ولا يقبل التفاوت، وكأن التاريخ مختزل ضمن النص القرآني الذي لا يجوز الخروج عنه، فالأزمنة مضبوطة ومرتبة، بحاجة فقط لمن يستطيع الإشارة إليها بدقة، وكأن هناك كتلة من النصوص تحيط بنص القرآن، في حال تم ضبط صحتها، لكان القرآن جامعاً لكل التواريخ، ويفسر بعضه ببعض، وهذا ما يظهر في تركيزه على وحدة القضاء الرباني، ووحدة صفات الأنبياء، والقدر المكتوب بوضوح الذي لا يختلف ولو تغيرت الأزمنة.

يمكن الاطلاع على النص الكامل لدراسة الدكتور يونس ميزرا الذي اعتمدت عليها المقالة هنا: رابط

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard