شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عراقيون تحت طائلة الجهاد الشيعي... عن أتباع

عراقيون تحت طائلة الجهاد الشيعي... عن أتباع "العنف المقدس" وشرعنة القتل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 18 ديسمبر 201903:41 م

لا يحتاج القاتل سوى إلى سلاح، أيّ سلاح ليقتل، وسيحتاج إلى عقيدة كي يصنع للجريمة أتباعاً ومحتفين بها. والعقيدة هنا ليست دينية بالضرورة. العقائد هي تلك القناعات التي تتحرك خلفها جموع، غير أن الدينية منها أكثر وقعاً وأشد قدرة على شدّ الناس، الأتباع، المريدين، والمحتفين بالدم.

أظن أن هذا العامل رئيسي في حركة فقهاء "العنف المقدس". توجد حاجة لدى هؤلاء إلى استقطاب الجمهور، وكسب قبوله، ثم مشاركته، كي يكون العنف مستساغاً، ولا يوصَف بأنه جريمة.

في الفكر الديني الإسلامي، هناك ثلاثة أبواب "شرعية" للعنف، الجهاد أحدها، والأخريان هما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، أي "العقوبات". غير أن مفردة الجهاد باتت الأكثر سعة وشمولاً. مفردة مغرية جداً، ربما تفوق سحر مفردة "نضال" عند الحركات القومية والشيوعية وأمثالها من أتباع "العنف" كخيار إيديولوجي.

ويكاد الجهاد يشمل كل أبواب العنف "الشرعي". فالأمر بالمعروف مثلاً عند أغلب فقهاء المسلمين يُعَدّ باباً من أبواب الجهاد، كما أن تطبيق العقوبات الجسدية المشددة (الحدود والتعزير والقصاص) يلتقي بالجهاد روحاً، كونهما فعلين يراد منهما فرض تعاليم الإسلام وتنفيذها، وشكلاً كونهما عنفاً.

دليل وخريطة للعنف

وللعنف دليل وخريطة، ما دام جزءاً من العقيدة. المجاهد يجب أن يضع في جيبه قاموساً يعرّف الفعل ويحدد مَن يقع ضده وزمانه. هذا بالضبط ما عبّر عنه كتاب "دليل المجاهد" الذي صدر باللغة العربية في إيران حوالي عام 1994.

هو نموذج فعلي لصناعة أتباع "العنف المقدس". يحوّلهم إلى قتلة. مؤلفه فقيه طبعاً. لا بد من فقيه يدّعي معرفة ما يريد الخالق ليلقي ظلال قداسة على سفك دماء الخَلق.

عندما أطلق المرجع الديني كاظم الحائري كتابه هذا، لم يصنع خريطة للقتل فحسب، بل عبّر عن التحول الحاصل حينها، من مزاج كان يرى العنف الشرعي مشروعاً مؤجلاً، إلى آخر يعتقد في تأجيله خيانة للإسلام.

كاظم الحائري

الكتاب أحد بواكير فقه "الجهاد المعاصر" لدى الشيعة. فمن الناحية التاريخية، فقه الجهاد هذا أتى متأخراً عندهم. العقيدة الشيعية كانت انتظاراً للإمام الثاني عشر الغائب، يترتب عليه تأجيل العنف كجزء استراتيجي من الشريعة. وحتى ما يُعرف بـ"الرسائل العملية" والتي تُعَدّ دليلاً سلوكياً للفرد العادي الذي ينتمي إلى ما يسمونه "عوام الشيعة"، لا تحوي باباً عن الجهاد.

فتاوي الجهاد الشيعية الرئيسية أطلقت بشكل صريح مع دخول القوات البريطانية إلى العراق منذ عام 1914، في ما يسمى بثورة العشرين وأمثالها. وفي تلك الفترة عُرف الفقيه المركزي، كاظم اليزدي، بالحذر، إلى درجة أن أوساطاً اتهمته بالاتفاق مع البريطانيين.

ثورة العشرين

ثم ظهرت النزعة الجهادية لدى بعض رجال الدين المسيّسين من أمثال نوّاب صفوي، رجل الدين الإيراني الذي نفّذ، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، عمليات اغتيال بحق مناوئين له، من بينها اغتيال على أساس فكري. أما الفقهاء المركزيون فكانوا يرفضون الجهاد، باستثناء حالة ما يُعرف بحماية بيضة الإسلام أو الدفاع عن النفس.

نوّاب صفوي

ولكن مع تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، برزت واتسعت هذه النزعة وما ترتب عليها من فتح لكل الأبواب المغلقة "المؤجلة". وليس منسياً ما قاله أول مدعٍ عام في النظام الديني، صادق خلخالي، وهو يسوق الناس إلى أحكام الإعدام. فحين سُئل عن احتمال وجود بريء بين مَن أعدموا، أجاب مازحاً في دماء الناس: "من هو بريء أسوقه إلى الجنة". المزحة هذه كانت تعبيراً عن المزاج الجهادي "الآمر بالمعروف" في مرحلة شيعية جديدة.

نعم، ربما يُعَدّ حزب الدعوة الإسلامية العراقي أقدم في بناء ثقافة الخطاب الدينيوسياسي، والعمل على تأسيس دولة دينية، لكن البداية الفعلية كانت في 1979.

إباحة القتل

من رحم هذه التحوّلات ظهرت فتاوي أمثال كاظم الحائري. و"دليل المجاهد" تضمن فتاوي مثيرة للانتباه وتدعو إلى التأمل. كانت ذريعة التعاون مع النظام العراقي السابق في الحرب ضد "المؤمنين" شِرعة وعنواناً لإباحة قتل الشرطي، وشرطي المرور، والمراهق، والجندي، والموظف العادي والأسير الذي كان مساعداً للنظام، حتى لو انتهى الأمر إلى قتل أبرياء "عرضاً" شريطة أن يؤدي إلى خدمة الإسلام. كما أجاز الحائري العمليات الانتحارية عندما "تخدم الإسلام".

"دليل المجاهد" الذي صدر باللغة العربية في إيران حوالي عام 1994 هو نموذج فعلي لصناعة أتباع "العنف المقدس". يحوّلهم إلى قتلة. مؤلفه فقيه طبعاً. لا بد من فقيه يدّعي معرفة ما يريد الخالق ليلقي ظلال قداسة على سفك دماء الخَلق
عندما سُئل أول مدعٍ عام في النظام الديني، صادق خلخالي، وهو يسوق الناس إلى أحكام الإعدام، عن احتمال وجود بريء بين مَن أعدموا، أجاب مازحاً في دماء الناس: "من هو بريء أسوقه إلى الجنة"

شمل الجهاد كل أبواب تنفيذ العنف، حتى بحق الأفراد بناء على عقيدة أو حرية رأي. وفتوى هدر دم سلمان رشدي التي أطلقها آية الله الخميني أشّرت إلى كيفية انتقال الجهاد من أرض المعارك إلى حرب تشمل مواجهة فكرة أو كتاب أو رأي. أصبح العنف سهلاً.

وبالطبع الفتوى ليست جهاداً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، لكنها ستحتاج إلى مجاهد ينفّذها، فيصير مأجوراً من الله لا قاتلاً مأجوراً في الأرض.

يوم أقام التيار الصدري المحاكم الشرعية بالتزامن مع إعلان "المقاومة" ضد الأمريكيين وجيش العراق وشرطته بين عامي 2003 و2005، فإنه بوّب بشكل ديني أفعاله. ما هو موجَّه ضد العدو يكون مقاومة، وما هو موجه ضد "المنحرفين" يكون إقامة حدود الله ومنع الفساد بحسب المفهوم الإسلامي. وكلا الأمرين ينطلقان من نقطة واحدة: العنف لفرض العقيدة والسياسة.

المفسدون في الأرض

في ظل الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة، ساد في الإعلام الديني الداعم للسلطة الدينوسياسية خطاب شديد الميل إلى جعل عملية قتل المحتجين فعلاً دينياً. ظهرت تبريرات فقهية متعددة تبيح قتل "المخرّبين" كما يسمونهم، كونهم مفسدين في الأرض، بنظرهم. هم مرتبطون بـ"الشيطان الأكبر" أمريكا. وحكم المفسد في الأرض بحسب القرآن أن يقتل أو يصلب أو تقطع يده اليسرى مقابل الرجل اليمنى أو بالعكس، أو يُنفى من الأرض. إنه تنفيذ لأكثر صور سلب الحياة والعقاب تنكيلاً وإثارة للرعب في قلوب الآخرين.

هذا المزاج هو ما يحرّك إخوان إيران في العراق لاستهداف المتظاهرين. فكرة إنقاذ بيضة الإسلام حاضرة في أذهانهم. وليس مستبعداً أن تكون خلف عمليات القتل فتاوي تشبه تلك التي تتعلق بقتل "المفسدين في الأرض".

اتهام الإسلاميين للمنتفضين العراقيين مسبقاً بإشاعة "الفاحشة والمنكر" في اعتصاماتهم هو اتهام ديني يمهد لأفعال "دينية". واتهامهم بتنفيذ أجندات أميركية إسرائيلية، كما تروّج أذرع أحزاب السلطة الإعلامية، يمهد لفعل "ديني" يزهق حياتهم.

قد يكون أشباه كاظم الحائري أصدروا فتاوي غير معلنة بقتل المتظاهرين، ولكن المسلحين الذين يديرون ملفات الاغتيالات منذ زمن غير قصير، ليسوا بحاجة إلى فتوى. الحاكم وحامل السلاح اللذان اعتادا القتل لا يحتاجان إلى ما يشرعن أفعالهم. وفي حالة القوى السياسية الموالية لولاية الفقيه، وتحديداً ما يُعرف بالحشد الولائي "الموالي لخامنئي"، فإن سلوك "الفقيه الولي"، هو تشريع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard