شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لو أن صالح علماني لم ينشئ حساباً في فيسبوك

لو أن صالح علماني لم ينشئ حساباً في فيسبوك

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 3 ديسمبر 201904:56 م

بدون خطوط سير واضحة وخطط مرسومة ومحبوكة بدأت أقرأ، لم أكن أعرف في بداية رحلة القراءة أن من الممكن أن تكون الرواية، أو ديوان الشعر الذي أقرأه، مترجماً، أي منقولاً عن لغة أخرى للعربية. أخذ مني التساؤل عن اسم المؤلف وقتاً طويلاً حتى صار جزءاً من عملية القراءة، وبعدها أخذ وقتاً طويلاً حتى صار المحفّز الأساسي للقراءة.

أوّل رواية قرأتها للمترجم صالح علماني هي "مئة عام من العزلة"، للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، حدث ذلك في سنة تقديمي للثانوية العامة، وعرفت صالح علماني بعدما أنهيت الرواية، إذ كنت أقرأ كتباً ليست لي، كتباً موجودة في مكتبة أبي. ذهلت بجمال الرواية، وورد في ذهني وقتها سؤال عن المؤلف ومن ثم المترجم، وهكذا تعرّفت إلى صالح علماني وماركيز سوياً، في نفس اللحظة.

سألت والدي عن الاسمين، أتذكر جيداً أنه حدثني ما يعرفه عن ماركيز وأعماله، وقال لي جملاً مقتضبة عن صالح علماني، لا أتذكر منها سوى أنه فلسطيني سوري، وهكذا بدأت رحلة القراءة الدائمة لكل ما يقع تحت يدي من كتب لعلماني.

في سنتي الأولى في الجامعة قرأت "ذاكرة غانياتي الحزينات" لماركيز أيضاً، وبطبيعة الحال، في الفترة الأولى من الشباب، كنت أشعر أنني امتلكت سراً خطيراً ومعيباً أيضاً، عن قصص عشق وعلاقات حميمة عاشها جمع من كبار السن في فترة شبابهم.

كان الحديث، بيني وبين نفسي، عن جرأة العمل، يجعلني أضحك ويبعث الفرح في نفسي، كأنني أحتفل بفكرة أن المجون والعلاقات الخاصة يمكن أن تُكتب أيضاً بشكل إبداعي يجعل كل من يقرأه مشدوهاً.

القارئة الطفلة صديقة المترجم الكبير في الفيسبوك

قرّب الفيسبوك المسافات بين القراء والكتاب والمترجمين، هكذا ببساطة، انزاحت الهالة الكبيرة التي كانت تغطي كل من يكتب، وأظهرت الرعونة في حياة الكتّاب، حيث يومياتهم وصورهم وأحداثهم الطبيعية تُنشر أمام الجميع.

واطلعنا أيضاً على حسابات المترجمين، وأصبحت أنا القارئة الطفلة صديقة للمترجم الكبير صالح علماني، أقرأ ما ينشره في صفحته وأضع له علامات الإعجاب، وأذكر أنني كتبت تعليقاً له أكثر من مرة.

في نفس الفترة، كان صالح علماني من الأسماء القليلة في الوسط الأدبي التي أعلنت موقفها من الأحداث في سوريا: كان مؤيداً للنظام ومدافعاً عنه علناً، وكرر موقفه أكثر من مرة، وقوبل بالكثير من الشتائم والنقد اللاذع جراء ذلك.

الآراء مقابل الخسارات

وعلى صعيد آخر، كانت تحيط به مجموعة من الأصدقاء الذين يحاولون أن ينهوه عن التصريح بمواقفه، حفاظاً على هيبته واسمه الكبيرين وكرامته، لكن صالح لم يكترث لكل هذه النصائح، وأعطى لنفسه الحق بالتعبير من دون خوف أو حساب للخسارات التي يمكن أن يواجهها، وهذا بحد ذاته موقف يحترم، أن يرمي أحدهم كل احتمالات الخسارات أرضاً ليعبّر عن نفسه في حياة تُعاش مرة واحدة.

انتابني حزن حقيقي في الفترة التي ثار فيها غضب صالح علماني على صفحته الشخصية في فيسبوك، كان قد خرج عن طوره وكتب الكثير عن خلاف بينه وبين شخص آخر مثقف ومحترم أعرفه، كنت أتابع ما يحدث بدهشة كبيرة وحسرة أيضاً، وكانت أمنيتي في ذلك الوقت لو أن صالح لم ينشئ حساباً في فيسبوك، إذ كيف لقامة جعلتنا نقرأ رواية دفعة واحدة على نفس الكرسي، أن يجعل غضبه معلناً أمام الجميع؟

كيف يمكن لشخص بعيد عن الحالة الأدبية ولا يعرف ما قدّم صالح علماني للمشهد الأدبي العربي، أن يفترض عداء صالح علماني له، وأنه شخص سيء ومتوحش! ربما لو ظل صالح علماني مترجماً فقط ولم يصادق القراء والكتّاب، لكان أفضل بكثير.

قرأت خبر وفاته على صفحة صديق، أعرف أنه يملك موقفاً من الأزمة السورية عكس موقف علماني، وكانا على خلاف أيضاً، كررت السؤال عليه: هل مات حقاً؟ وشعرت بكمية الحزن في كلماته عن صالح: أوّل من نعى صالح هم من مات وهو على خلاف معهم

الموت يُظهر الحقائق فجأة؛ الجميع يحب صالح فعلاً، وكلنا نشعر بالفقد والحزن لهذا الخبر اللئيم، ما يعني أن ما يربطنا حقيقة بصالح هو ما قدم لنا من ذخيرة أدبية وترجمات، وأن من اختلف معه كان يتعامل مع صالح الصديق، لأن صالح المترجم لا خلاف عليه

الموت نقطة تحوّل

انتشر خبر وفاة صالح علماني في فيسبوك، صباح الثالث من كانون الأوّل/ ديسمبر 2019.

قرأت الخبر على صفحة صديق، أعرف جيداً أنه يملك موقفاً من الأزمة السورية عكس موقف علماني، وكانا على خلاف أيضاً، كررت السؤال عليه: هل مات حقاً؟ وشعرت بكمية الحزن في كلماته عن صالح: أوّل من نعى صالح هم من مات وهو على خلاف معهم.

محزن جداً ومثير للغضب، أن نفقد قامة أدبية كبيرة اليوم، ونجد في اللحظة نفسها، عتباً ولوماً على موقف سياسي اتخذه صالح علماني في صفحات كتّاب وشعراء، لا أعرف كيف يمكن لنا أن نتحدث في لحظة انتهاء سلسلة أعمال موقعة باسم صالح علماني، عن رأينا في موقفه، اتفقنا معه أم اختلفنا.

الخبر الأكيد اليوم أنني لن أنتظر إعلاناً عن تاريخ إصدار ترجمة جديدة لصالح علماني، وأن الموت يظهر الحقائق فجأة؛ الجميع يحب صالح فعلاً، وكلنا نشعر بالفقد والحزن لهذا الخبر اللئيم، ما يعني أن ما يربطنا حقيقة بصالح هو ما قدم لنا من ذخيرة أدبية وترجمات عديدة لدراسات، وأن من اختلف معه كان يتعامل مع صالح الصديق، لأن صالح المترجم لا خلاف عليه.

قصيدة "أبانا الذي في السماء" للشاعر التشيلي نيكانور بارا، من القصائد التي حفظتها عن ظهر قلب، وهي من ترجمة صالح علماني، تذكرتها عندما قرأت خبر موته، ورددت في سري جملة أعتقد أنها من أهم ما ترجم من الشعر:

"أبانا الذي أينما كنت

محاطاً بملائكة غير أوفياء

بصراحة: لا تتحمل مزيداً من المعاناة بسببنا

عليك أن تدرك

أن الأرباب ليسوا معصومين

وأننا نحن من نغفر كل شيء…"

الرحمة والسلام لروح المترجم الكبير صالح علماني، لدينا الكثير مما يذكرنا به ويصادق على جملته الشهيرة: "خُلقت لأترجم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard