شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"آآآه هسا عرفت ليش بتحبي تسمعيها بالليل"... عن ستّي فيروز التي تكسر القواعد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 21 نوفمبر 201905:00 م

أربعة شهور سبقها شهران، وأنا أسير بناءً على قرار اتخذته بكامل قواي العقلية والعاطفية، وهو الحرمان.

فلسفة الحرمان التي بدأت أندمج بها وتندمج معي حد التصالح مع الذات منذ أربعة شهور، جاءت بعد أن صعدت روحي إلى السماء مع صاحبتها، مع صاحبة الجلالة خاصتي تلك، التي اكتشفت بعد فقدانها أن كل ما كنت أنسجه من أحلام هو بالحقيقة لها، أو بما يسعدها هي، ليس المهم أنا، فأنا لها وهي كل كلي، عن أمي أتحدث.. عن روحي التي صعدت إلى الله العادل.

لن أخوض في تفاصيل تلك التجربة، بناءً على قرار آخر اتخذته بكامل قواي العقلية والعاطفية أيضاً.. أنني لن أكتب عنها، لكنني اضطررت إلى المرور بها محاولة مني أن أجد مدخلاً للمقال.

بالعودة إلى فلسفة الحرمان التي أعيش معها منذ أربعة شهور، وسبقها شهران عندما كانت روحي على سرير المرض، فقد قمت بحرمان نفسي عن أكثر ملذات حياتي، كالطبخ مثلاً، حيث يقول مجربون أن "نفسي بالطبيخ بشهي"، وكارتداء ملابس لا لون منها يشبه الآخر ولا حتى يليق به، انطلاقاً من منطلق أن الألوان لا يجب أن تُقيد وتصبح محصورة بثقافة "التلبيق"، بل من الواجب إطلاق العنان لها حد "زغللة العيون"، فالحياة فرحة... هكذا كنت وهكذا كنت أقول!


ليس ذلك فقط ما حرمت نفسي عنه وأنا "راضية"، تخيلوا أنني حرمت نفسي من الاستماع إلى أغاني فيروز، أو "ستي فيروز" كما أحب أن ألقبها، هذا الكائن البشري التي طالما رفضت أن أضعه في خانة المقارنة والتصنيف، أو أن أقلل من شأنها وأجعلها جواباً للسؤال الرتيب الذي يتكرر: "مين أكتر مغني بتحبيه أو بتحبيها؟".

بالطبع لن أجعلها جواباً على هذا السؤال ولا حتى أن أجعل واحدة من قصصها، أقصد أغانيها، جواباً على سؤال: "شو أكثر أغنية بتحبيها؟".

علاقتي بستي فيروز أشبهها أحياناً بعلاقة جودي مع صاحب الظل الطويل، تلك العلاقة الأقرب من حد القرابة، والتي تبيح لك بأن تحلق بخيالك إلى كل ما هو بعيد وكل ما هو قريب، من شخص لست معنياً بمقابلته وجهاً لوجه، فما يحيطه بك أكثر صدقاً من علاقة قرابة قد تكون مشوهة ويشوبها الكذب.

لا أجد توصيفاً للعلاقة مع ستي فيروز، لكن ممكن أن أضيء على بعض ما أشعر به كل ما لاح طيف أغانيها أو مررت على اسمها...

فمثلاً أشعر بالغيظ عندما أسمع أحداً من أصدقائي أو أرى ما يكتبونه عنها وهم يمجدونها، حيث لدي شعور لا يصل حد أن "فيروز إلي وبس"، لكن إلى حد ممنوع الاقتراب منها، وأنتم لم تصلوا إلى حالة التجلي التي أعيشها بها ومعها بعد: أن تحب فيروز فعليك أن تكون قد وصلت إلى مرحلة التجلي الفيروزي.

حاولت بأكثر من طريقة أن أثبت لنفسي قبل غيري، أن حبي لفيروز أكثر من حب الجميع لها، اتبعت أكثر من وسيلة بعضها نجح وبعضها فشل... الفشل جرى في بعض النقاشات التي خضتها مع أشخاص من محبي فيروز في دائرتي، فشلت لأنني فضلت الصمت في حضرة تلك النقاشات خوفاً من أن تتحول إلى "جكر".

أما ما نجحت به من وسائل لأثبت لنفسي أنه لا أحد يحبها "قدي"، عندما عكست الآية وضربت بعرض الحائط كل ما هو معروف عن أغاني فيروز، تلك التي لا يصلح الصباح بدونها، أنا شخص من المستحيل أن يستمع إلى أغاني فيروز في الصباح، أسمعها ليلاً وتحديداً ما بعد منتصف الليل.


كثيرون سألوني كيف استطعت أن أجعل من قاعدة "فيروزيات الصباح" قاعدة مغلوطة، مثل قواعد كثر تربينا عليها واكتشفنا بعد طول سنين أنها بمنتهى الخطأ؟ الجواب بسيط جداً، وهو أن الشخص، وبعد يوم طويل من التعب، يكون بحاجة إلى مسكن للصداع/ ومرخٍ للعضلات، فضلاً عن أنه يكون قد اشتاق إلى حواراته مع قلبه... فالقلب ليس لديه لسان لينطق، لكن "شو بدي دور لشو عم دور على غيره... في ناس كتير لكن بصير ما في غيره" كفيلة بحاسة النطق!

علاقتي بفيروز أشبهها أحياناً بعلاقة جودي مع صاحب الظل الطويل، تلك العلاقة الأقرب من حد القرابة، والتي تبيح لك بأن تحلق بخيالك إلى كل ما هو بعيد وقريب، من شخص لست معنياً بمقابلته وجهاً لوجه، فما يحيطه بك أكثر صدقاً من علاقة قرابة قد يشوبها الكذب

كثيرون سألوني كيف استطعت أن أجعل من "فيروزيات الصباح" قاعدة مغلوطة، مثل قواعد كثر تربينا عليها واكتشفنا بعد طول سنين أنها بمنتهى الخطأ؟ الجواب بسيط جداً، وهو أن الشخص، وبعد يوم طويل من التعب، يكون بحاجة إلى مسكن للصداع، فضلاً عن أنه يكون قد اشتاق إلى حواراته مع قلبه

قبل عام تقريباً شاركت أحدهم وجعلته يتعّرف على مقطوعة "ليلي ليلي ليلي" بصوتها وعلى إيقاع البيانو بأصابع ابنها المشاكس الأقرب إلى قلبي، زياد رحباني، قبل أن أضغط خاصية التشغيل "البلاي"، حاولت أن أشرح له مسبقاً أن هذه المقطوعة تقوم على مقطع "كوبليه" واحد تجنباً لأن يسألني: "طب وبعدين؟"، واسترسلت بالحديث عن ذكاء زياد بجعل المستمع يصدق حد اليقين أن المقطوعة مسجلة خلال حفلة لفيروز، وأن أصوات الجمهور التي تصدح حقيقية، رغم أن التسجيل هو في الاستوديو وليس حفلة، وأصوات الجمهور مركبة من حفلات سابقة حتى صوت ذلك الشاب الذي يصرخ بمنتصف المقطوعة وأصرخ معه: "آه"، كل ذلك مركب ما عدا صوت زياد في الآخر، وعندما تعتقد أن المقطوعة انتهت عندما يقول: "يا ليل".

"آآآه... هسا عرفت ليش بتحبي تسمعيها بالليل"، قال لي، الأمر الذي شجعني بعد انتهاء المقطوعة أن أشغل أغنية "نحنا والقمر جيران".


تجاربي مع أغاني فيروز لا تحتمل مقالاً واحداً، لكن ممكن أن أختصرها بأنها على عكس علاقتي مع أغان أخرى أتعمد اختيارها في "البلاي ليست"، نظراً لتشابه كلماتها مع حالة معينة أمر بها، والعكس غير صحيح مع أغاني فيروز، فأنا مثلاً، ومنذ العام 1998 حتى اليوم، أبكي كأنني أسمعها لأول مرة على أغنية "كيفك أنت؟" بالرغم، والحمد لله، أنني لم أمر بهذه التجربة.

عادي عندما تقول: "شو بدي بالبلاد الله يخلي الولاد؟.. أبداً مش عادي"، وما زاد تعلقي بهذه الأغنية عندما سمعت قبل حوالي العامين تفاصيل تأليفها وتلحينها من قبل زياد رحباني في مقابلة له مع منى الشاذلي، وكيف أن فيروز رفضت غنائها لعدة أعوام بسبب كلمة "ملّا أنت" حيث وبحسب رواية زياد فهذه الكلمة "رح تعمل مشكل"، نظراً لأن جمهور والدته ليسوا فقط من لبنان وبلاد الشام، فأهل الخليج وحتى مصر سيكون صعباً عليهم أن يفهموها... شكراً لله أن فيروز لم تتمسك بعنادها، تخيلوا أننا كنا سنحرم من كيفك أنت، وتحديداً: ملّا أنت!


بالعودة إلى فلسفة الحرمان التي أعيش بها مؤخراً، حرمت نفسي أيضاً "وكلي رضا بذلك" من المشاركة بفعاليات الاحتفالات وكل أشكال البهجة، لكن اليوم هو عيد ستي فيروز... "عيد الدني"، وتصالحت بفكرة الاحتفاء به بكتابة أول مقال رأي لي بعد أكثر من ستة أعوام، هنا قررت أن أجعل أول مرة بعد غياب لأول شخص نطق عني: "ما كل الجمل يعني عم تنتهي فيك!".

ولأنها وحدها صوت أرواحنا وما تتجنب ألسنتنا جاهدة بالبوح به، سأستمع اليوم إلى: "بيت صغير بكندا!".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard