شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الصراع الداخلي بين التلذذ باللحوم والتعاطف مع الحيوان

الصراع الداخلي بين التلذذ باللحوم والتعاطف مع الحيوان "المسكين"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 18 نوفمبر 201906:06 م

"لم يكن يمرّ يوم واحد من دون أن أتناول فيه اللحوم، خاصة وأنني أواظب على ممارسة الرياضة باستمرار، إلا أنني كنت أعيش صراعاً داخلياً كلما نظرت إلى الطبق أمامي ورأيت شريحة (ستيك) حمراء أو صدر دجاج مشوي، وكانت الهواجس الكثيرة تتخبط في ذهني: هل تجردنا نهائياً من إنسانيتنا؟ هل وصل بنا الإجرام حد التلذذ بتناول حيوان بريء من دون أن يرف لنا جفن؟ هل كان هذا "الحيوان المسكين" على علم بأنه سينتهي به المطاف في طبق دائري؟ وبعدما أرهقتني هذه التساؤلات، قطعت وعداً على نفسي بألا أكون شريكة في جريمة القتل بعد اليوم... وهكذا توقفت عن تناول اللحوم على أشكالها وأنواعها".

هذا القرار الذي اتّخذته اللبنانية كارمن عبد الله بعد فترة طويلة من حياتها، هو الخيار نفسه الذي يقف البعض عاجزاً عن تنفيذه، أو إيجاد حل لهذه المعضلة التي تنغّص حياته: فمن جهة، يحتاج الجسم إلى بعض العناصر الغذائية الضرورية كالبروتين الموجود في أطباق اللحوم، ومن جهة أخرى، هناك شعور بالذنب يخالج البعض مع كل قضمة، وهو الإحساس بالمساهمة في جريمة قتل الحيوان وذبحه من أجل إشباع اللذة المجبولة بالأنانية.

بين الرجولة والتعاطف

تبلغ حصة الفرد الواحد في العالم العربي من اللحوم 25 كيلوغراماً في السنة، ويمثل هذا الاستهلاك ضعف حصة الشخص في أفريقيا، حيث يبلغ المعدل 12.4 كيلوغرام، وهو أدنى استهلاك لمنطقة محددة في العالم، وفق ما كشفته صحيفة الشرق الأوسط، مشيرة إلى أن معدل الاستهلاك العربي يخفي خلفه تباينات واسعة، ترتبط بمعدلات الدخل الوطنية: فالدول الخليجية، إلى جانب لبنان والأردن، تستهلك اللحوم بكميات تفوق المعدل العالمي، وقد تجاوز الاستهلاك في الكويت والسعودية خلال سنوات محددة أكثر من 100 كيلوغرام للشخص في السنة، أما الدول الأقل دخلاً، بالإضافة إلى العراق والجزائر، فيتراوح الاستهلاك السنوي للفرد فيها ما بين 20 و30 كيلوغراماً في السنة.

لا شك أن المال يؤثر على علاقتنا بالمفاهيم الأخلاقية ويشكل حاجزاً بيننا وبين مصادر منتجاتنا، ما يجعلنا نتصرف أحياناً في مسألة استهلاك الطعام بطريقة يعتبرها البعض "غير أخلاقية".

فبالرغم من أننا نستنكر تعذيب الحيوانات وقتلها بوحشية، إلا أننا لا نتردد في ابتياع اللحوم المكدسة في ثلاجات السوبرماركت، وكأنه من خلال توضيب اللحمة في علب أنيقة ووضع السعر عليها، نجعل عملية الاستهلاك أقل وحشية، انطلاقاً من مبدأ: "عين لا ترى، قلب لا يوجع"، وهو أمر شرحه جوناس كانست من معهد علم النفس في جامعة أوسلو، لموقع Science Daily: "إن طريقة تقديم اللحوم من قبل الصناعة تؤثر على رغبتنا في تناولها"، مشيراً إلى أن "شهيتنا تتأثر بالطبق الذي نأكله وبكيفية تقديم اللحم إلينا"، فاللحوم المعالجة مثلاً تجعل المرء ينسى حقيقة أنها تأتي من الحيوان، وبالتالي فإن الشعور بالتعاطف يقلّ وتتراجع الرغبة في البحث عن بديل نباتي.

وفي حين أن البعض لا يدقق سوى في جودة اللحم، فإن البعض الآخر يعيش صراعاً داخلياً كلما قرر التهام قطعة لحم أو دجاج، في سياق ما يعرف بـMeat paradox، وهي ظاهرة يعرّفها الأخصائيان في علم النفس، بروك باستيان وستيف لوغنان، بأنها "الصراع النفسي بين تفضيل النظام الغذائي المبني على اللحوم، وبين الاستجابة الأخلاقية لمعاناة الحيوان"، معتبرين أن استهلاك اللحوم له تأثير سلبي على نظرة بعض الأشخاص لأنفسهم، بحيث يقول كل واحد من هؤلاء في قرارة نفسه: كيف يمكنني أن أكون شخصاً جيداً وأتناول اللحوم في الوقت نفسه؟

وفي هذا الصدد، توضح الكاتبة جوليا شاو لموقع بي بي سي، أن هذا الصراع الأخلاقي لا يهدد فقط مسألة الاستمتاع بتناول الطعام، بل يهدد الهوية أيضاً، وتشرح ذلك بالقول: "من أجل حماية هوياتنا، نرسّخ عادات اجتماعية تجعلنا نشعر بتحسن"، مشيرة إلى أنه يتم تعريف الأعياد بأنها وقت تشارك الولائم واللحوم مع العائلة والأصدقاء، هذا وقد كشفت شاو أن البعض يذهب لحد الربط ما بين مسألة تناول اللحوم والرجولة.

في الحقيقة، إن الصراع الداخلي الذي يعيشه المرء بين حبّه للحوم وبين التعاطف مع الحيوانات والشفقة عليها قد يختلف وفق الهوية الجنسية، وفق ما كشفه موقع nbcnews، مشيراً إلى أن بعض الرجال يلجؤون إلى تناول اللحوم كوسيلة لإثبات رجولتهم، على اعتبار أن هذه اللحوم تدخل في تعريف جوهر الرجل الحقيقي.

ومن خلال أبحاثه، وجد هانك روثغربر من جامعة بيلارمين، أن تناول اللحوم يرتبط بعمق بمفهوم الرجولة، مضيفاً في الدراسة التي نشرت في  Psychology of Men & Masculinity أن "استهلاك اللحوم هو رمز للبطريركية الناجمة عن التحالف الطويل مع الرجولة والقوة والفحولة".

وأوضح روثغربر أن الرجال أعربوا عن مواقف أكثر إيجابية تجاه مسألة تناول اللحوم، متجاهلين معاناة الحيوانات، انطلاقاً من اعتقادهم بأن هذه الكائنات تأتي في مرتبة أقل من البشر في التسلسل الهرمي، هذا بالإضافة إلى إعطاء تبريرات دينية وصحية للاستهلاك الحيواني، والزعم بأن مصير الإنسانية يتوقف على أكل اللحوم: "هذه هي استراتيجيات مباشرة لا تقبل الاعتذار، وتتبنى تناول اللحوم وتبرر هذه الممارسات"، مشيراً إلى أن النساء كن أكثر ميلاً إلى اتخاذ مواقف غير مباشرة ومليئة بالاعتذارات. 

حالة إنكار

بمعزل عن الهوية الجنسية والفروقات بين الرجال والنساء، إلا أن هناك بعض الأسئلة التي لا نتوقف عن طرحها على أنفسنا: لماذا نشعر بالغثيان لمجرد التفكير بفرضية تناول الكلب الأليف الذي يقطن منزلنا أو العصفور الذي "يطربنا" بصوته العذب صباح كل يوم، في حين أننا نشعر بالجوع عند التفكير في طبق البيض مع القورما مثلاً، ويسيل لعابنا أمام طبق البرغر الشهي أو الكبسة بالدجاج... فهل المسألة تتعلق باهتمامنا ببعض الحيوانات دون غيرها، وفي حال كان الأمر كذلك ما الذي يدفع محبي الحيوانات على أنواعها إلى تناول اللحوم بغض النظر عن مصدرها؟

في الواقع لقد أصبحت طريقة استهلاكنا لللحوم مشكلة تحتاج إلى حل جذري، كونها تؤثر سلباً على البيئة المحيطة بنا، فمع نمو عدد السكان يزداد استهلاك اللحوم بشكل كبير، حتى في البلدان التي كان اللحم فيها باهظ الثمن ومقتصراً على طبقة اجتماعية معيّنة، فقد بات الآن مكوناً أساسياً للعديد من الأطباق الشعبية.

واللافت أن الطريقة "العصرية" التي ننتج بها اللحوم تتعارض بشكل متزايد مع مبدأ الرفق بالحيوان، إذ أصبحت ممارسة تربية الحيوانات، قتلها، والاستفادة من لحمها، بعيدة كل البعد عن مفهوم الإنسانية، رغم إصرار البعض على أن اللحم حلال على اعتبار أن عملية الذبح تتم وفق الشريعة الإسلامية.

لماذا نشعر بالغثيان لمجرد التفكير بفرضية تناول الكلب الأليف الذي يقطن منزلنا أو العصفور الذي "يطربنا" بصوته العذب صباح كل يوم، في حين أننا نشعر بالجوع عند التفكير في طبق البيض مع القورما مثلاً، ويسيل لعابنا أمام طبق البرغر الشهي أو الكبسة بالدجاج... فهل المسألة تتعلق باهتمامنا ببعض الحيوانات دون غيرها؟

وفي حين أن البعض قرر "مقاطعة" اللحوم على أنواعها، فإن البعض الآخر لا يخفي حبه لتناول اللحوم، رغم تشديده على أنه من محبي الحيوانات والمدافعين عن حقوقها، فكيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا من أنصار الرفق بالحيوان ويستهلكوا لحمه في الوقت نفسه؟

يوضح الأخصائي في علم النفس بروك باستيان لموقع the conversation أن الطريقة الوحيدة للدمج بين حب الحيوانات وتناول لحمها هو تجاهل الرابط بين اللحوم والحيوانات، إذ إنه من النادر أن يفكر الناس في المصدر الذي يأتي منه اللحم والمسار الذي يسلكه قبل أن يصل إلى المائدة... وبالتالي فإن نسيان أو تجاهل مسار إنتاج اللحوم، يسمح للبعض بأن يفصلوا اللحوم عن الحيوانات في ذهنهم، بشكل يجعلهم يأكلون لحم البقر مثلاً من دون التفكير بالبقرة نفسها.

بمعنى آخر، عندما نأكل لحم البقر، أجنحة الدجاج، سندويشات الهوت دوغ، وغيرها من الأطعمة التي ترتكز على اللحوم بشكل أساسي، فإننا غالباً ما نعيش حالة نكران، تبدأ من مجرد الإشارة إلى أن ما نأكله هو "لحم البقر" مثلاً بدلاً من البقرة، ومن هنا فإننا نقوم بإنشاء مسافة بين طعامنا وبين الحيوان نفسه.



تجريد الحيوان من صفاته الأخلاقية

 يدعي الفلاسفة والناشطون في حقوق الحيوان باستمرار، أن البشر يميلون إلى تجنب التفكير في الحيوان الذي يلتهمونه، ما يقلل لديهم الشعور بالانزعاج وبالذنب.

ولكن اعتبر بروك باستيان أنه في عالمنا المعاصر الذي يعتمد بشكل رئيس على لغة "الصورة" وتأثيرها القوي، يبدو أن نسيان مصدر اللحوم ليس ممكناً على الدوام، خاصة وأن العديد من المطاعم المتخصصة في اللحم البقري تستخدم صور الأبقار للترويج لمنتجاتها، فيقع الناس من جديد في صراع داخلي، بين الرغبة العارمة في تناول الطبق الشهي والتعاطف مع الحيوان.

عندما نأكل لحم البقر، أجنحة الدجاج، سندويشات الهوت دوغ، وغيرها من الأطعمة التي ترتكز على اللحوم بشكل أساسي، فإننا غالباً ما نعيش حالة نكران، تبدأ من مجرد الإشارة إلى أن ما نأكله هو "لحم البقر" بدلاً من البقرة، ومن هنا فإننا نقوم بإنشاء مسافة بين طعامنا وبين الحيوان نفسه

وعليه كشف بروك أن الحل الذي يعتمده البعض للتغلب على ظاهرةThe meat paradox يكمن في تجريد هذه الحيوانات من صفاتها الأخلاقية، وإنكار أن لديها عقلاً، شارحاً ذلك بالقول: "عندما نعتقد أن أحداً ما يمتلك عقلاً، نبدأ حينها بالاهتمام برفاهيته وبالتعاطف معه".

وعليه اعتبر باستيان أن إنكار الصفات العقلية للحيوان يقلل من التنافر المعرفي لعملية الاستهلاك: "ففي حين أن الناس قد يكونون سعداء للغاية لمعرفة الصفات الوراثية لأبقار Wagyu والتي تمنح لحمها جودة عالية، فإنه من غير المرجح أن يكونوا سعداء لمعرفة أن هذه الأبقار نفسها لديها استعداد وراثي لاختبار الألم أو أنها تتمتع بذاكرة جيدة".

وفي هذا الصدد، توضح بعض الدراسات كيف يقوم "عشاق اللحوم" باللجوء إلى تقنية إنكار القدرات الذهنية للحيوان من أجل التغلب على الشعور بالذنب الذي قد يمتلكهم.

ففي إحدى الدراسات، طُلب من المشتركين الاختيار ما بين تناول قطعة من لحم البقر أو قطعة كاجو، وبعدها طلب منهم تحديد الحيوانات التي كانوا يعتقدون أنها تستحق الاهتمام الأخلاقي، وفي وقت لاحق طُلب منهم إلقاء نظرة على صورة بقرة وتقييم قدراتها العقلية.

وقد تبيّن أن الأشخاص الذين تناولوا اللحم البقري، اعتقدوا أن عدداً أقل من الحيوانات تستحق الاهتمام الأخلاقي، كم أنهم وجدوا أن البقرة التي في الصورة تتمتع بقدرات ذهنية أقل، مقارنة بالمشتركين الذين تناولوا الكاجو، ما يعني أن الأفراد الذين تناولوا اللحوم قاموا بتجريد الحيوان من قدراته الذهنية من أجل التغلب على الشعور بالذنب.

لا شك أن إسكات الشعور بالجوع هو دافع إنساني، كما أن معظم الناس على استعداد دائم لإيجاد طرق مختلفة من أجل تبرير استهلاكهم للحوم الحيوانات، وبالرغم من أن اللحوم تشكل جزء مهماً من ثقافة الطهي، إلا أن بعض الأفراد لديهم هاجس متعلق بما يضعونه في أفواههم، وفق ما يؤكده بروك باستيان بالقول: "في حين أنهم يستمتعون بتناول اللحوم، إلا أنهم لا يحبون أكل العقول".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard