شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لا يغيب العراق عن الصورة ولا عن الذاكرة... عن الفنون العراقية اليوم

لا يغيب العراق عن الصورة ولا عن الذاكرة... عن الفنون العراقية اليوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 14 نوفمبر 201912:09 م

تكتب رشا صلاح، القيّمة على مهرجان "عراقيات" المقام في "دار النمر-بيروت"، عن الأثر الذي خلفه سقوط بغداد العام 2003، على الشعور والفكر العربي: "غاب العراق عن الصورة وعن الذاكرة ولم نحظ بوقت لوداع ضحكات الأصدقاء وضفاف دجلة، أو لإنقاذ الحروف والكتب من حواري شارع المتنبي، ومفاتيح أبواب المتاحف من كل مكان"

ولكنها تؤكد لاحقاً أن هذه المدينة لم تمت، وأن الفعالية الثقافية المقامة اليوم أكبر دليل على استمرارية الثقافة العراقية في إنتاج الفن والإبداع. وتضيف عن التظاهرة: "عراقيّات هو احتفالية بيروت ببغداد نيابة عن كل المدن".

التفاعل الثقافي بين المدن العربية

افتتح المهرجان  كنافذة للتعرّف على المشهد الفني العراقي الحالي بأنواع فنية متعدّدة: فنون التجهيز والفيديو، الموسيقى، الأدب، وأفلام سينمائية عراقية قصيرة وطويلة، تم اختيارها لتمثل تنويعات الموضوعات الفيلمية التي تقدمها السينما العراقية في المرحلة الراهنة.

في حديث خاص مع رصيف 22، بينت رشا صلاح أن هناك انقطاعاً ما مع الثقافة العراقية منذ سقوط بغداد في العام 2003: "كأننا نسينا إعادة بناء الجسور مع الثقافة العراقية. وهذه الفعالية هي محاولة إعادة إشادة هذه الجسور الثقافية". وفي سؤالها عن خيارات الأعمال الفنية المنتقاة للمشاركة في هذا المهرجان، قالت: "هدفي هو التنويع في الأنواع الفنية والأشكال الإبداعية التي تُقدم ثقافة العراق الغنية. ولذلك تم التنويع بين اللوحات التشكيلية لضياء العزاوي، إلى أعمال التجهيز المعاصرة عند عادل عابدين، وكذلك فن الفيديو المفاهيمي مع محمود العبيدي"، كما بيّنت رشا الاهتمام بالتنويع بين الفنانين في انتمائهم لعدة أجيال، وكذلك في تواجدهم بين الداخل العراقي وفي بلاد المهجر: "ذلك ما يسمح بالتعرّف على القضايا المتنوعة في الفن العراقي، كما هو الحال في خيارات الأفلام السينمائية المشاركة في المهرجان".

فيلم بغداد في خيالي

في أمسية الافتتاح، قدّمت الكاتبة والفنانة المسرحية رائدة طه، قراءة لقصيدة "فرس للغريبة" للشاعر الفلسطيني محمود درويش: "لم يبق في الأرض متسع للقصيدة يا صاحبي، فهل في القصيدة متسعٌ بعدَ العراق؟"، وعن العلاقة بين فلسطين والعراق: "لفلسطين القطعة الأكبر في قلب العراقي، قوته اليومي، يتغذى بها، تختلط مع دمه، تبقى جاثمة في جسده، متماهية مع روحه. إذا ما ذكر حرف الفاء لتكملة الكلمة .... تتطأطأ الرؤوس حزناً وخجلاً".

قالت المسرحية رائدة طه: "هذا النوع من التظاهرات التي تعرف ثقافات المدن العربية ببعضها البعض، ضرورة ملحة هذه الفترة. علينا أن نكتشف ثقافتنا أكثر. في هذه المنطقة، تجهل المدن العربية المتجاورة ثقافات بعضها البعض، ولذلك حرصت على القدوم من عمان لأقدم قراءات فلسطينية إلى بغداد، وكل ذلك يتم في بيروت".

مسرحية رائدة طه


الذاكرة بكرة شريط أغاني

من بين الأعمال الفنية المشاركة في التظاهرة، عمل تجهيز بعنوان "العودة إلى المستقبل" للفنان عادل عابدين، الذي يقارب فيه بين الذاكرة العراقية وشريط الكاسيت، فيشبّه الفنان استرجاع ذكريات العراق بترجيع شريط كاسيت بقلم رصاص، هو تحريك لبكرة الزمن في البحث عن الأغنيات العراقية التي كان يسمعها في الطفولة، يكتب الفنان عابدين في البيان التعريفي لعمله عن علاقته مع الذاكرة: "أذكر - عندما كانت آلة التسجيل شبه معطلة – كيف كان عليّ أن أرجّع الأشرطة بنفسي مستخدماً القلم وأنا أحاول إيجاد أغنية محددة في الشريط. أيقنت فجأة بأن هذا الشعور شبيه اليوم باسترجاع ذكرى، فأصبح هو مصدر إلهامي في هذا العمل. قررت أن أحول هذا الأفكار إلى منحوتات ميكانيكية، داعياً الجمهور للمشاركة في البحث عن معاني الأغنيات".


دعماً للعراق بلداً وثقافة نطلّ على مختارات من الفنون العراقية... فنون التجهيز والفيديو، الموسيقى، الأدب، وأفلام سينمائية عراقية

العراق المأمول والمنتظر من الفنانين والمبدعات العراقيين/ات، هو عراق الديمقراطية، حقوق الإنسان، وحرية التعبير

الأزياء بين الهوية والقيد

"نحن نولد عراة، نتيقظ لعرينا ونشعر بالخطر، فنرتدي ثياباً. ننضم لمجموعة ونلبس زيها الرسمي. نمضي لنحارب، فنموت عراة"، بهذه العبارات يقدم الفنان محمود العبيدي عمل تجهيز فيديو بعنوان "الزي الرسمي"، على الشاشة أمام المتلقي تمضي مجموعة صور متلاحقة لجسد ذكوري يدور بصورة متسارعة، يتنقل من العري أولاً، ومن ثم تتلاحق على جسده مجموعة أزياء الديانات التقليدية في العراق، الإسلام، المسيحية، اليهودية والملابس الأيزيدية، ومن ثم ننتقل إلى ملابس أكثر معاصرة، لتعود الصور إلى العري مجدداً، بين الأزياء كهوية، والأزياء كانتماء قسري.

بورتريه للشخص العراقي في آخر الزمان

المحاضرة الأدبية للشاعر والروائي والأكاديمي العراقي سنان أنطون، بعنوان "سيرة الماء: ذاكرة النص"، كانت مخصصة لتتبع عنصر الماء في الإبداع العراقي منذ أسفار التكوين الأولى وأساطير وادي الرافدين إلى حضور الماء في الشعر والرواية العراقية المعاصرة، ولكن وعلى حسب تعبير سنان أنطون: "أمام الأحداث الحالية التي تجري في العراق" فقد حوّل موضوع محاضرته إلى "تحديات المبدع العراقي في محاولة مواكبة اللحظة الاستثنائية".

اعتبر أنطون أن التحديات الحالية أمام الفن والمبدع العراقي اليوم تتمثل في أمرين، التحدي الأول: كيف يمكن تمثيل وتصوير العنف والتعامل مع تاريخ العنف؟ والتحدي الثاني: كيف يمكن كتابة الذات العراقية في سرديات التاريخ؟ وقد وجد في تجربة الشاعر العراقي "سركون بولص 1944-2007" نموذجاً في التعامل مع هذين الموضوعين، وركز بالتحديد على قصيدة لبولص بعنوان "بورتريه للشخص العراقي في آخر الزمان"، باعتبارها قصيدة أدبية تسعى إلى رسم الذات العراقية داخل التاريخ:

سنان أنطون

"أراه هنا، أو هناك: عينه الزائغة في نهر النكبات، منخراه المتجذران في تربة المجازر، بطنه التي طحنت قمح الجنون في طواحين بابل، وفي جبينه الناصع يمكنك أن ترى كأنما على صفحة كتاب، طابور الغزاة يمر"، وبالوقت عينه هي قصيدة توصف قدرة الذات العراقية على النهوض في كل مرة: "أرى صورته التي فقدت إطارها، في انفجارات التاريخ المستعادة، تستعيد ملامحها كمرآة، لتدهشنا في كل مرة، بمقدرتها الباذخة على التبذير".

يستشهد أنطون بكتاب "أطر الحرب" لجوديث بتلر، الذي بحثت فيه ضرورة مواجهة العنف الذي يغزو الفرد والذات، لا لكي يتم محوه، بل لتغير مجراه، لأنه لا يمكن إلغاء العنف بل يمكن تغيير احتمالاته. هكذا يضع سنان أنطون الفن العراقي أمام تحديات مواكبة التجربة الاجتماعية والسياسية، لذلك ركّز في القسم الأخير من محاضرته على الأبعاد السياسية في قصائد بولص، والذي اعتبره أبرز الشعراء المعاصرين في توظيف القصيدة للتعامل مع الواقع السياسي والحدث التاريخي، وأشار خصيصاً إلى ديوان "عظمة أخرى لكلب القبيلة".

حوادث وفجائع تاريخية في لوحات ومنحوتات

في اللقاء الخاص معه، تحدث الفنان التشكيلي العراقي ضياء العزواي عن المراحل التاريخية والسياسية التي عانى منها العراق، من حكم الحزب الواحد، إلى العراق تحت الحصار، ومن ثم عراق المدائح للقائد الواحد، تلاه فترة الاحتلال الأمريكي، ومن ثم عراق الفساد والاقتتال الطائفي. وأضاف، أن ما يجري من أحدث اليوم في المظاهرات العراقية لا يبشر بقدوم العراق المأمول والمنتظر من الفنانين والمبدعين العراقيين، أي عراق الديمقراطية، حقوق الإنسان، وحرية التعبير.

في الجانب المتعلّق بالفن من محاضرته، قدم الفنان العراقي مجموعة من أعماله التشكيلية التي استُلهمت أو رُسمت انطلاقاً من أحداث سياسية مرّت بها المنطقة العربية، وخصوصاً، العراق، لبنان، وفلسطين.

بدايةً، قدم مجموعة من رسوماته التي أطلق عليها "يوميات بصرية من الحرب"، وهي رسومات استوحاها من مشاهد الحرب في بغداد، ثم قدم لوحة "وجوه تعبيرية على مدخل العامرية" التي استوحاها من حادثة قصف القوات الأمريكية لملجأ العامرية في العام 1991، قضى على أثرها 400 ضحية، هذه اللوحة تمتلئ بوجوه ثكلى في حالة الفجية والألم مرسومة بالأبيض والأسود، تنظر إلى المتلقي مباشرة وتبثه تلك الحالة التعبيرية التي تعايشها. ومن ثم قدم سلسلة لوحات بعنوان "بلاد السواد"، قائلاً: "بالنسبة لي أرض السواد، هي أرض التراجيديا، والدماء، والتهجير"، مجموعة اللوحات في هذه السلسلة أيضاً مستلهمة مما عايشه الفنان ومما شاهده من آثار الحرب، وقدم لوحة بعنوان "ليل ماطر" خصصها لصور القصف التي بثها الإعلام على مناطق مختلفة من بغداد.

ضياء العزواي

في لوحته "سجن أبو غريب" نجد جسداً متكوراً على نفسه في أسفل اللوحة، أعضاؤه متراكبة بعشوائية فوق بعضها البعض، بينما يسيل خط بلون أحمر قان من أعلى اللوحة نزولاً حتى قسمها السفلي. الفجيعة المأساوية تنطبق أيضاً على لوحته "الهدف الخطأ، 2004"، وهي تجسيد لحادثة قصف الطيران الأميركي لأربعة شبان في بغداد يركبون على دراجتهم الهوائية التي تداخلت في اللوحة مكوناتها مع مكونات الجسد المشتت الأطراف جراء القصف. مجموعة من اللوحات أيضاً عرضها الفنان العزاوي والتي رسمها تعبيراً عن مآسي مرحلة الاقتتال الطائفي أو ما أطلق عليه "صراع الأخوة الأعداء"، هذه اللوحات تتسم بتراص أعضاء الجسد البشري فوق بعضها البعض، حضور الوجوه بالعيون المجوفة الناظرة إلى المشاهد.

كما عرض مجموعة أعمال نحتية، منها عمل نحتي لدبابة عسكرية تتربع فوق أبواب آثار بابل، وهو يسرد قصة الفرقة العسكرية البريطانية التي لم تجد مستقراً لدبابتها إلا فوق السور الأثري لبوابة بابل، كما أدخل الحواجز الكونكريتية الإسمنية في أعمال نحتية أخرى، كتب عليها عبارات من قبيل: "باسم الدين باقون الحرامية"، وكلمات أخرى تدين الاقتتال الطائفي، وترفض نظام المحاصصة السياسية. كان لحادثتي مجزرة صبرا وشاتيلا، وهجوم الجيش الإسرائيلي على غزة أيضاً أعمالاً فنية أنجزها الفنان، ولوحة "تحية إلى ناجي العلي".

أخيراً، قدم الفنان عمله "الروح الجريحة"، وهو عبارة عن نصب من البرونز لحصان تخترق جسده السهام في مناطق متعددة، وزعت من حوله 450 شمعة، تحية للعلماء العراقيين الـ450 الذي تم اغتيالهم من قبل جهات مجهولة، لاستهداف البحث العلمي والتطور المعرفي الذي حققه العراق. هذا العمل النحتي الضخم موجود في متحف نابو في الشمال اللبناني، وقدم عنه نموذج مصغر في صالة معرض "دار النمر في بيروت".

في حديث خاص مع رصيف 22، أشاد الفنان ضياء العزاوي بأهمية التظاهرة الثقافية "عراقيات" التي تعرض الفن العراقي، وبالأخص التنوع في الأفلام السينمائية المنتقاة، معتبراً أن السينما العراقية أصبحت رافداً أساسياً في الحركة الفنية العراقية، أما عن التفاعل الثقافي بين المدن العربية، قال: "للأسف التفاعل الثقافي بين المدن العربية مفقود. والحركة الفنية والثقافية بين المدن العربية شبه معدومة".

الفن، الحرب، الاختفاء القسري والحنين: موضوعات السينما العراقية

الأفلام السينمائية العراقية المختارة في فعاليات المهرجان تعكس عبر حكاياتها وقصصها موضوعات عديدة من التجربة الاجتماعية، السياسية، والثقافية المتعلقة بالعراق. ضم المهرجان أربعة أفلام قصيرة، وثلاثة أفلام طويلة.

بين الأفلام القصيرة لدينا فيلم "حديقة أمل، ناديا شهاب".


نتابع تفاصيل حياة ثنائي تركماني يعيشان في شمال العراق، ويحاولان إعادة ترميم منزلهما بعد عقد من الحروب. أما في فيلم "الناجون من ساحة الفردوس، عادل خالد"، فهو وثائقي يتابع قصة فنانين "النحات باسم والمخرج عادل"، ويواكب صراعاتهم في بغداد إثر الاحتلال الأمريكي وذهابهم إلى دمشق. من دمشق يفترق الفنانان وتتباعد طرقهما، فيعود باسم إلى بغداد ويموت في ظروف غامضة، أما عادل فيصل إلى أوروبا. فيلم يطلعنا على حال الفنان العراقي بين محاولة الاندماج في الوطن، وبين محاولات الهجرة. نتابع الحديث عن الهجرة، أيضاً مع فيلم "أيام مجنونة، عادل عابدين"، فهو يراقب التحولات في شخصية مهاجر عراقي في فنلندا، في بعده النفسي والجسدي في محاولة الانخراط في المجتمع الفنلندي الذي يراه بشكل دائم كدخيل، ويطغى على الفيلم طابع الوحدة والمسافة بين الناس. الفيلم القصير الأخير هو بعنوان "سبية، ضياء جودة"، وهو يتحدث عن امرأة يزيدية تعيش على سفح جبل في شمال العراق مع ابنتها الوحيدة، إذ هاجر زوجها للمحاربة ضد داعش، ورغم أن الكثير من العائلات غادرت المنطقة، إلا أنها أصرت على البقاء مفضلةً أن تموت بشرف على أن تعيش ذليلة.


ثلاثة أفلام طويلة، "ابن بابل، محمد دراجي" وهي رحلة جدة وحفيدها في البحث عن زوجها المختفي قسراً منذ حرب الخليج 1991. وفي "بغداد في خيالي، سمير جمال الدين" عن علاقات العائلية والاجتماعية بين المهاجرين العراقيين في لندن، وفيلم "قوانة، الأسطوانة المكسورة" وهو عن رحلة شعرية عبر العراق في البحث عن أغنية عراقية/تركمانية، نطلع عبرها على تراث العراق الغنائي.

ختام المهرجان مع الفن الغنائي والموسيقي، في محاضرة بعنوان "الأغنية العراقية ملامح الظهور والاختفاء في الإعلام العربي"، سيقدم الناقد الموسيقي العراقي سامر المشعل نبذة تاريخية عن الأغنية العراقية وأبرز المحطات الإبداعية التي مرت بها عبر رحلتها منذ القرن العشرين حتى يومنا هذا، يليها جلسة سماعية يحييها الملحن والمغني كوكب حمزة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard