شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الحرب المتجمدة في مصر (2)

الحرب المتجمدة في مصر (2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 6 نوفمبر 201902:48 م
Read in English:

Egypt’s Frozen War, 2.0

هناك لحظات مدوية: انظروا إليَّ، افهموني. طالبة يطردها أستاذ جامعي من قاعة الدراسة تصيح: "هورِّيك" ويرد الأستاذ بسوقية "مينفعش توريني هنا قدام الطلبة". يضحك الطلاب. شرٌّ محكم! في مصر التي يمثلها هذا الأستاذ، تعلن السوقية عن نفسها بوقاحة. نجح النظام في أن ينشر نظرته لمن هم خارجه كـ"أغيار" بين الجموع. يتم القضاء عمداً على المشاعر الإنسانية الفطرية باحترام الآخرين والتعاطف معهم في سبيل ضمان القضاء على أي تفاهمات يمكن أن تتشكل من خلالها مقاومة محتملة لسيطرة هذا النظام. ليست هناك علامة دالة على النجاح الساحق للقمع أكثر من أن يصل المجتمع لنقطة لا تحتاج فيها السلطة لأن تتدخل من أعلى لحكمه والهيمنة عليه، بل يقوم أفراد وقطاعات بممارسة تلك الهيمنة بالنيابة عن النظام في أوساط مواطنيهم. هذه هي النسخة الأحدث من الحرب المتجمدة في مصر.

عقب مذبحة رابعة، أصبح انقسام مصر إلى ثلاث جبهات أكثر وضوحاً. على جانب لدينا "السيساويون" (مؤيدو السيسي) الذين حازوا السلطة والقوة والوحشية. على جانب آخر، المعسكر الإسلامي، وهو بين قتيل وسجين ومطرود وهارب إلى دول أقل قسوة. وأخيراً لدينا العلمانيون الواقفون مصدومين من دولة ينغلق عليها باب تَشَكَّل من خليط قبيح من الفاشية والشمولية. في وجود جانب يكشر عن أنيابه، وآخر ملقى في السجون أو هارب، وثالث تجمد على وضع الصمت الذليل، لا أحد يضع المكابح في طريق العربة المسرعة نحو الهاوية.

في عام 2012، فاز مرسي بمقعد الرئاسة بنسبة 51.7% من الأصوات. كان تعداد المصريين قد تجاوز التسعين مليوناً في ذاك الوقت، وعدد جدير بالاعتبار قرر التصويت لمرشح الإخوان المسلمين. لذا، فعندما – بعد سنة واحدة أو يزيد قليلاً- دعا الحاكم الفعلي للبلاد عبد الفتاح السيسي جماعة الإخوان المسلمين بـ"الجماعة الإرهابية"، ثم إعلانها رسمياً "منظمة إرهابية" قبل نهاية ذلك العام، وَصمَت مصر 13.2 مليون من مواطنيها (من صوتوا لمرسي) بأنهم إرهابيون.

كيف يمكن التحرك في سبيل بناء أمة وتحقيق الأمن وخوض الحوار في ظل هذه البنية؟ مع وصف نصف الأمة بأنهم أعداء، وجد المعسكران الآخران نفسيهما في مفترق طرق. ففي أي مبنى سكني يمكن أن يكون جارك قبطياً أو عضواً بجماعة الإخوان المسلمين ينتظر الاعتقال. أما السيساويون والعلمانيون فهم إما يجرؤون على التأييد أو يغرقون في الصمت.

"هل ترغب في الكشف عن الفساد؟ أهلا بك في الزنزانة، هناك متسع للجميع في سجون السيسي حيث سيتم انتهاكك جسدياً حتى لو كنت بحجم ومنصب هشام جنينة الرئيس السابق لأهم جهاز رقابي في مصر"
"لو أنك شاركت في الثورة، أو كنت من صناع الرأي أو مُتَبنّياً محتملاً لمبادئ التغيير، فهناك زنزانة جديدة في سجون السيسي مُعدّةً لاستقبالك: 19 سجناً جديداً تم إنشاءها في مصر وهناك المزيد قيد الإنشاء"

قبل أيام من مذبحة رابعة، زارت تلك الحرب المتجمدة عائلتي. في القاهرة، في شقة كثيرًا ما ترطبها نسائم النيل، في وقت مبكر من أغسطس 2013، اتجهت المناقشة بشكل منطقي إلى اعتصام ميدان رابعة العدوية. كان أقاربي، ومنهم المحامي والمهندس ورجل الأعمال وموظف بمجال مبيعات العقارات وربة منزل، جميعهم يؤيدون الثورة الوحيدة التي عرفتها مصر: 2011، كانوا يتناقشون في الشرفة، وينفثون دخان عدد لا يحصى من السجائر، وأنا معهم. سريعًا ما توصل هؤلاء الواقفون في الشرفة - بخلاف كاتب هذه السطور- إلى أنه يجب فض الاعتصام.

أحدهم ذهب إلى حد اقتراح "خليهم يفرموهم بالدبابات". وفهمت بوضوح: هذه الدولة لم تعد على حافة الهاوية، بل إنها تسقط سقوطاً حراً وهي تظن أنها تصعد وتنجو. انقبض قلبي عندما قال الشخص نفسه: "ممكن نقبل لحد 20 ألف قتيل. دا اعتصام غير شرعي". المذهل أن أحداً لم يعترض على هذا الطرح الإجرامي. هذا الرجل هو أحد أفراد عائلتي، وهذا ما جعل الأمر أكثر فظاعة.

هذا المشهد كان تمهيداً لما هو أسوأ.

خلال الأشهر التالية، شرخ هذا الانقسام الكثير من البيوت المصرية. قابلت العديد من النشطاء والمواطنين العاديين والمفكرين الذين تحدثوا عن مناقشات باردة وجافة خاضوها مع آبائهم وأخواتهم. السيسي على رأس مائدة المعسكر الأول، حَقَن المعادلة بالدماء. ما إن تعكر الدماءُ الجسدَ السياسي حتى يتمزق المجتمع. لا عودة إلى الوراء بعد قتل 1000 مصري خلال 8 ساعات. العديد من العلمانيين صرخوا أنها مقتلة دموية، ولكن هناك أعداداً أكبر من الكتاب والممثلين والمفكرين ظلوا على صمتهم. عندما واجهت ذلك الكاتب الشهير وجادلته في تأييده قرارات القتل لمجرد أنها صادرة عن الجيش، استخدم خاصية البلوك ليوقف النقاش. هذا البتر للحوار، هذا المنهج الذي يمكن تلخيصه في "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"، يكلف مصر الكثير.

لو أنك شاركت في الثورة، أو كنت من صناع الرأي أو مُتَبنّياً محتملاً لمبادئ التغيير، فهناك زنزانة جديدة في سجون السيسي مُعدّةً لاستقبالك. بحلول عام 2016، كانت مصر قد شهدت بناء 19 سجناً جديداً، وهناك المزيد قيد الإنشاء. وأخذ النظام الحاكم على عاتقه مهمة ملئها بالأصوات الثورية المهمة مثل علاء عبد الفتاح وشادي أبو غزالة وأحمد دومة ومحمد أكسجين، وأخيراً انضمت إليهم إسراء عبد الفتاح والمحامية ماهينور المصري. كل سياسي جَرؤَ على التذمر وجد نفسه في ظلام الزنازين: سامي عنان وعبد المنعم أبو الفتوح اللذان كانا مرشحين رئاسيين، وانضم حازم عبد العظيم إلى الثوار خلف القضبان. هل تؤمن بالتغيير الديمقراطي؟ الاعتقال ينتظرك: زياد العليمي وكيل مؤسسي الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي سابقاً – كم هو مضحك ومثير للأسى اعتقاله وهو يحمل هذا اللقب- وحسام مؤنس وهشام فؤاد اعتُقلا بتهمة ارتكاب جريمة تشكيل تحالف ليبرالي يساري تحت اسم – ويا للسخرية- "الأمل"، يهدف للتنافس على مقاعد المجلس النيابي في الانتخابات المقبلة. لقد اعتقل السيسي الأملَ حرفياً.

هل ترغب في الكشف عن الفساد؟ أهلا بك في الزنزانة، هناك متسع للجميع في سجون السيسي حيث سيتم انتهاكك جسدياً حتى لو كنت بحجم ومنصب هشام جنينة الرئيس السابق لأهم جهاز رقابي في مصر.

من أساليب الاحتلال المعروفة كانت هناك دوماً خطة "فرِّق تسُد". الاحتلال الداخلي يستخدم هذا التكتيك، ويضيف إليه بهارات الاعتقال والقتل خارج نطاق القانون والرغبة الجنونية في السيطرة على الرأي العام.

ولكن الحصيلة النهائية المطلوبة هي الحفاظ على وضع الانقسام بين المصريين في ثلاثة معسكرات: السيساويين والإسلاميين والعلمانيين. لقد شهدنا خلال التظاهرات المفاجئة في 20 أيلول/ سبتمبر، أنه حتى الانخراط المخلص في معسكر تأييد السيسي لا يقيك شر الزنزانة، ويشهد بذلك حبس صحافي بعد ساعات قليلة من كتابته منشوراً على فيسبوك يهاجم فيه الدعوة للتظاهر ويعلن تأييده المطلق للسيسي.

لكن سواء كان الحبس احتياطياً أو بقرار قضائي، فإن الاحتجاز والقمع يمكنهما أن يفلحا في إسكات الناس بعض الوقت. فمع كون القبضة الحديدية تلْكمُ أحشاء المنتمين للمعسكرات الثلاثة - وإن كان ذلك بدرجات مختلفة – فإلى أي مدى قد يطول انتظارنا للانفجار المحتوم؟

شعاع الأمل الضئيل الذي أفسحت له الانتفاضة المصغَّرة في 20 أيلول/ سبتمبر، أشعل شيئاً في النفوس. كتب هذا المحلل على تويتر منذراً بلاعب جديد، "الجوكر المصري"، الذي تحدث عما أسماه بـ"السباع الجُدد" معلناً برنامجاً غير محدد الملامح للتدريب البدني والعقلي للدفاع عن البلاد ضد المخاطر. دعوته لبناء تلك الخلايا التنظيمية العنقودية جذبت أكثر من 80 ألف مهتم، هذه صيحة رقمية عالية في سبيل التغيير. سواء كانت صحيحة أم خاطئة، ويحمل لها أفقها نجاحاً أم فشلاً مدوياً، فإن أعضاء هذه "اللاحركة المنظمة" يبدو كأنهم يزدادون -على الأقل- عبر السوشيال ميديا، مهددين أدوات ممارسي القمع في الدول البوليسية مثل مصر. أعلنت تلك "اللاحركة" يوم أمس الثلاثاء يومًا لتنظيم أول تدريباتها العملية في الشارع المصري.

هناك مجموعات أخرى في الكواليس تحاول تنظيم نفسها، لكنها لا تحدث أي ضجيج. فلسنوات، تم تجفيف مصر تمامًا من أي حركة أو تنظيم سياسي. جميع الكوادر ذات الخبرة تشرذمت. وبرغم ذلك، وعد محمد علي هذا الأسبوع بمفاجأة ستخط كلمة النهاية لحكم السيسي خلال أسبوعين أو ثلاثة. النائب البرلماني أحمد الطنطاوي المحسوب على المعارضة، أعلن خطة إصلاحية من 12 بنداً للخروج من المأزق القائم، على الأقل لم تعد المياه راكدة كما كانت.

سيُهدم السد بلا معجزات. المواجهة ليست هدفاً في ذاتها، التغيير هو الهدف، وتحديداً التغيير الهيكلي. الحوار بين المعارضين والنشطاء والمفكرين يصل عادة إلى نتيجة محورية: "ليس بوسعنا أن نكرر أخطاء الماضي". لقد انتهت سذاجة الماضي ومثاليته وحلت محلهما واقعية متشائمة قاتلة. معارض بارز قال لرصيف 22: "هذه المرة قد تتسبب ثورة بمقتل 50 ألف إنسان".

الحقيقة يمكن أن تفوق الأعداد هذا الرقم. لقد أظهر السيسي تعطشاً للدماء، وربط بقاءه ووجوده بالقيادات العليا للجيش. بهذا، وبينما يغدق على تلك الطبقة بما لا يحصى من الأموال والقصور، يقامر السيسي على أن الأسلحة لن تستدير صوب صدره، بل صوب الناس عندما تحين ساعة الحساب.

مصر مقسمة منذ سنوات. ومن دون اعتراف بأهمية التحالف التكتيكي بين هؤلاء الذين لا يثقون بالسيسي، فإن المؤسسة العسكرية والبيروقراطية النفعية الفاسدة ستستمران في حكم البلد لسنوات.

ولكن إذا ذاب جليد تلك الحرب الكامنة، فسوف تقوم تلك الأمة الجديدة المتحدة بما يتعين عليها لكي تحيا هذه الدولة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard