شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
بيروت…  كأن شيئاً ما عاد فجأة للحياة في داخلي

بيروت… كأن شيئاً ما عاد فجأة للحياة في داخلي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 26 أكتوبر 201902:13 م
Read in English:

Beirut… You Suddenly Breathe Life Into Me

بدأت بزيارة بيروت بعد نهاية الحرب اللبنانية، أي في أوائل التسعينيات، وحينها لم أكد أبلغ العاشرة من عمري. كنا نذهب أنا وعائلتي من دمشق كل صيف تقريباً، على اعتبار أن عمتي متزوجة من لبناني، وكنا نقيم في منزلهما حوالي أسبوع كل مرة.

عندما أفكر بتلك السنوات، تقفز إلى ذاكرتي أولاً بعض المشاهد التي لا بد منها: الجدار الخارجي لبناء منزل عمتي بمنطقة سن الفيل وفيه ثقوب من الرصاص، وقباله بناء بسطح قرميدي فيه ثقب كبير ناجم عن قذيفة على الأغلب، وقالوا لنا بأن هذا هو القصر الرئاسي القديم قبل أن ينتقل مقره لمكان آخر. كان غريباً بالنسبة لي وجود ثقب في سقف القصر الرئاسي دون أن يبادر أحد لإصلاحه. أبنية في منطقة فرن الشباك وقد امتلأت بثقوب صغيرة كان زوج عمتي يقول لنا بأنها آثار طلقات الرصاص، وأعتقد بأنها المرة الأولى التي اقتربت فيها إلى هذا الحد من فكرة الحرب.

كنا نسمع كل زيارة الأحاديث نفسها. عن ذكريات أمي في بيروت قبل الحرب، وعن شوارعها الأنيقة وأسواقها الجميلة. عن انتقال عمتي وزوجها وابنها وابنتها للحياة في دمشق مع اشتداد وتيرة الحرب في لبنان، وعن مغامرة زوج عمتي للعودة وتفقد المنزل وإمساك عناصر أحد الحواجز له عند معرفتهم بكونه من ديانة مغايرة، ومن ثم نجاته بأعجوبة من "الموت على الهوية". عن هجرة الشباب والشابات بحثاً عن مكان أفضل، وعن دمار كبير طال أمكنة لم أرها أبداً، وربما لم يسمحوا لنا برؤيتها.

كنت أحفظ أغنية ماجدة الرومي "يا بيروت يا ست الدنيا" عن ظهر قلب، رغم أنني لم أفهم كثيراً لماذا قد نعتذر يوماً من مدينة أو نغار منها. كانت بيروت تبدو لي مدينة مبهرة فائقة الجمال، فلمَ الاعتذار؟ هي أجمل من دمشق بكثير. أذكر منها في تلك الفترة محال الملابس الجميلة، والسوبرماركت الكبير الذي كان يحتوي أصنافاً من الأطعمة والحلويات التي لم أرها يوماً خلال طفولتي في دمشق خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات. كانت أسعد اللحظات تلك التي يسمح لنا فيها أهلي بشراء ما يحلو لنا، وكنا نتباهى أمام أصدقائنا لدى عودتنا بما نملكه من ملابس وبسكويت وشوكولا من بيروت. كانت بيروت هي المبتغى الذي نشتهي قضاء كل صيف فيه، وكانت مكافأتنا السنوية بعد انتهاء العام الدراسي تكمن في الذهاب إلى هناك، واستمرينا على هذه العادة سنيناً طويلة.

بعد انخراطي في الحياة الجامعية ومن ثم العمل، توقفت تقريباً عن الذهاب إلى لبنان، واستعدتُ هذه العادة منذ حوالي ست سنوات، بعد اندلاع الحرب في سوريا، وانتقال جزء كبير من أعمالنا إلى لبنان الذي أصبحنا مرتبطين به بشكل غير مسبوق، وأصبح بوابتنا للعالم الخارجي.

زرتُ بيروت عشرات المرات خلال السنوات الأخيرة، وأذكر أول زيارة لي بعد بداية الحرب هنا، أواخر العام 2013، وكم شعرتُ بالذهول حينها. كنا نعيش في دمشق على وقع التفجيرات والقذائف والصواريخ بشكل يومي، ودون كهرباء لساعات طويلة، وفجأة وجدتُ نفسي في مدينة تضجّ بالحياة والأضواء ويملأ السوريون شوارعها. اعتدنا في تلك الفترة على العودة لمنازلنا في الثامنة مساء على أبعد تقدير حيث تتحول دمشق بعدها لما يشبه مدينة أشباح، وحين أخبرني أصدقائي في بيروت بأننا سنسهر خارجاً قلتُ بعفوية: "بس هيك منتأخر على البيت!". في هذه اللحظة فهمتُ بأن عليّ بناء علاقة جديدة مع هذه المدينة.

لا أعتقد بأنني فهمتُ بيروت تماماً، فهي معقدة كمعظم عواصم بلداننا العربية أو الشرق أوسطية. غنى فاحش وأبنية أنيقة وفقر مدقع ومنازل بسيطة تبدو وكأنها تنتمي لبلدة ريفية. لبنانيون جميلون، وآخرون يمارسون علينا كثيراً من العنصرية، وبعضهم لا يقبل الحديث معنا لأن لهجتنا سورية ولأننا لا نتكلم الفرنسية أو الإنكليزية بطلاقة.

حفلات صاخبة، وأجواء سهر ليلية لا تنتهي، وأنشطة ثقافية لم نعد نحلم بمثلها في دمشق التي تحوّلت لمدينة منغلقة تعيش في فقاعتها الخاصة خارج الزمن. شجارات دائمة مع سائقي سيارات الأجرة والذي يمكن لهم أن يتحولوا بسهولة لوحوش عنصريين على الفتيات وعلى السوريين في آن معاً، ولفتاتٌ جميلة من أصحاب محال أو مارة في الطرق، يعرضون علينا أي مساعدة لمجرد سماع لهجتنا السورية، والتي كنا نحاول أحياناً تغييرها نحو اللبنانية –بفشل- تجنباً لأي موقف غير محمود العواقب.

حضرتُ في لبنان حفلات زفاف أعز أصدقائي، ممن أبعدتنا الحرب في سوريا عنهم قسراً أو خياراً، وممن استقبلهم لبنان بصدر رحب. بنيت هناك صداقات جديدة وخسرتُ أخرى. ودعتُ واستقبلت كثيرين، فباتت بيروت محطتي الثانية بعد دمشق التي ودعتُ منها معظم أصدقائي خلال السنوات الأخيرة، وصارت لي فيها ذكريات أشعر بأنها خليط من العذوبة والألم والجمال والبشاعة في آن معاً.

رغم أنني كرهت ازدحامها وطقسها وتلوثها وتصرفاتها وطبعها، لم أكفّ يوماً عن الإعجاب ببيروت، وعن كوني مدينة لها بالكثير، وغالباً ما كنت أقول: "نحنا بدنا كتير لحتى نصير متل لبنان. بدنا سنين". كنت أغار من بيروت، وأخجل من الاعتراف بذلك.

حضرتُ في لبنان حفلات زفاف أعز أصدقائي، ممن أبعدتنا الحرب في سوريا عنهم قسراً أو خياراً، وممن استقبلهم لبنان بصدر رحب. بنيت هناك صداقات جديدة وخسرتُ أخرى. ودعتُ واستقبلت كثيرين، فباتت بيروت محطتي الثانية بعد دمشق.

أشعر وكأننا نرى دمشق في بيروت، وداخل لا وعينا نشبّه شوارعنا بشوارع بيروت اليوم، وساحاتنا بساحاتها. لبنان أعاد البسمة لوجهي، ولوجوه كثيرين.

منذ انتهاء المعارك في غوطة دمشق الشرقية –القريبة من منزلي حيث أعيش- قبل حوالي عام ونصف، توقفتُ عن متابعة الأخبار بشكل يومي، وبات كل ما يحدث في سوريا متشابهاً بالنسبة إلي بشكل غريب. شعرتُ لفترة طويلة بأنني أتخمتُ من أخبار الموت والدمار التي ما عدت قادرة على تفكيكها وفهمها، فأصبح الابتعاد عنها أكثر راحة لدماغي وجسدي المتعبين. حذفتُ تطبيق فيسبوك من هاتفي، وصرت أكتفي بقراءة واحدة للأخبار مساء قبل النوم.

منذ حوالي أسبوع، أعجز عن النوم، وقد أصابتني دهشة جميلة من كل ما يحدث في لبنان. أخاف أن يفوتني خبر أو نكتة أو لافتة أو أغنية ما، فأقضي أغلب وقتي على فيسبوك وتويتر. بعض مقاطع الفيديو جميلة جداً لدرجة أنني أرغب بإعادتها مراراً وتكراراً، أرقص وأغني وأبكي معها وكأن شيئاً ما عاد فجأة للحياة في داخلي من جديد. أشعر وكأننا نرى دمشق في بيروت، وداخل لا وعينا نشبّه شوارعنا بشوارع بيروت اليوم، وساحاتنا بساحاتها. لبنان أعاد البسمة لوجهي، ولوجوه كثيرين، وبات اليوم يحتل جزءاً كبيراً من أحاديثنا ونقاشاتنا اليومية وآرائنا وتحليلاتنا، على اختلاف انتماءاتنا وشرائحنا العمرية، وكثيرون منا شعروا بحب مفاجئ للبنان، أو باستعادة حب قديم له.

كتبت صديقة لبنانية على صفحتها منذ أيام: "أول مرة من 30 سنة بشوف اللبنانية فايقين الصبح مش معصبين". وأنا، ولأول مرة منذ سنوات أستيقظ بسعادة وحب وبعض من الأمل الأبله. شكراً لبنان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard