شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لم يفكر بالألحان بل كان يصلّيها… عن محمد فوزي الذي

لم يفكر بالألحان بل كان يصلّيها… عن محمد فوزي الذي "لم يخف الموت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 24 أكتوبر 201905:54 م

لا يصحو مصاباً بأي ألم، فقد قطع صلة الرحم مع الماضي. لا يصحو قلقاً من الغد، فقد ضرب بعصاه اليابسة بينه وبين المستقبل فعاد بحراً كما كان. إنه يلتهم اللحظة الآنية بكل ما فيها من موسيقى وحياة. لا يفكر في الألحان، بل يُصلّيها وتُصلّيه، فينعدم حينئذ القلق وتبقى الطمأنينة واللذة. أزعم، وفي بعض الزعم يقين، أن محمد فوزي كان يمكنه أن يصبح معالجاً نفسياً ناجحاً، بملامحه البشوشة المريحة مثل شيزلونج ناعم، وبخفة ظلّ تغلّف حضوره، لكن الموسيقى والغناء اختارا له أن يصبح طاقة ما يسمى بـ"هنا والآن".

أزعم، وفي بعض الزعم يقين، أن محمد فوزي كان يمكنه أن يصبح معالجاً نفسياً ناجحاً

في كل لحظة ستجد معك وفيك صورة من محمد فوزي، طفلاً كنتَ أو عجوزاً أو شاباً، ستجده يعصر الوقت الحالي بكل ما فيه من حياتك ليملأه قفزاً ولمعاناً وعلواً كبيراً، ولعل بدايته بغناء المواويل في موالد "الغربية"، إحدى محافظات دلتا النيل، كانت معلمه الأول. ففي الموالد، لمن لم يسعده الحظ أن يتدروش فيها، لا ينشغل البال إلا بالفُرجة والاستمتاع بالفُرجة، لا وقت لاسترجاع ذكريات ولا التفكير في الرجوع للأهل الذين استأخروك. وفي الموالد تتكوّن فكرة التيه في شقها الأعظم، فلا عودة إلى شيء سوى النفس وما تقوله لك هواجسك وشياطينك الموسيقية.

تقول أحاديث النميمة إن "فوزي" كان ذئب نساء، لا يستغني عن مغامراته في عالم النساء، حتى وهو متزوج، لكن الذئب الذي لا يُروّض بداخله، يعي تماماً أنه مؤتمن على أغنامه... نحن أمام ذئب متفرد، لم تدجنه سوى الليالي ومدّاحيها، لكن ما الليالي؟ أليست جزءاً من الزمن؟ ما الزمن؟ إنه أصعب أسئلة الميتافيزيقا...

لقد حار الفلاسفة في تفسير هذا الكائن المرعب، الذي لا أول له ولا آخر، لا تعرف من أين يأتي ولا أين ينتهي، أين يبيت ليلته قبل أن يزورنا صباحاً؟ لا نعرف أين يقيم وعلى أي شيء تكون إقامته؟ أليست هذه حياة الرعاة والرُّحَّل؟

نعم، لقد كان "فوزي" ابناً لحياة البادية التي لا مقام لها، فالرعاة لا ينتمون إلا إلى اللقطة الحية، هم أبناء المكان الذي يحلّون فيه ويتغير كلما همّوا بالرحيل، لا يألفون إلا صدْحة الناي التي تخرج من قطعة غاب تشبه ثعابين، وأبخرة يأكلها المدى المشبع بالنجوم، لا يألفون إلا الضلال، لا ترى لهم وطناً... وطنهم السباحة في الفضاء غير المحدود، وطنهم الكواكب والحيرة... فلا موضع قدم لهم بيننا على الرغم من أننا نراهم فعلاً أحياناً، تماماً مثل محمد فوزي، الذي نتيقن من أننا نسمعه كل صباح ومساء وظهيرة ونراه بصراً وبصيرة، لكننا لا نستطيع إدراكه كاملاً طوال الوقت، فهو خفيف كالسحر، حاد كالنَّصْل، مرح كنعجة ضالة مخمورة، مبتسم كمحمد فوزي.


ما أجمل أن تكون المشبَّه والمشبَّه به معاً..

تأملوا صوت فوزي كذكَر خشن حيناً ومائي الانسياب أحياناً، تأملوا - على هامش الحكاية- سلساله الأنثوي المتمثل في شقيقته المطربة والممثلة هدى سلطان، إننا أمام خامة صوت مصنوعة من العفاريت، تتلبس بيئة الأغنية المطلوب أداءها، صوت وموسيقى يقفان في المحراب كطفل يصلي لأول مرة –يلعب ويصلي معاً- ينزل عليه الوحي فلا يُراجع ما يُملَى عليه من السماء، قد لا تلتفت إلى تعنيفه على ما يعبث به من قداسة، وقد يشغلك فتترك عبادتك التي جئت من أجلها لتراقبه، فتبتسم له حيناً ويُغويك أحياناً بما تتمنى فعله لكن تمنعك جدارات الموهبة والجرأة من تقليده.

موسيقى "فوزي" تقول لك: كل شيء يحدث الآن، التهم الحاضر وعش فيَّ ولا تبتئس بما كانوا يفعلون... جرب أن تفعل شيئاً بالأمس أو الغد، يستحيل، متى تذكرت ماضيك؟ تتذكره الآن، متى حلمت بمستقبلك؟ حلمته الآن، ليس هناك أي معنى لأن تختبر الماضي أو المستقبل، إنهما ليسا موجودَين في الحقيقة، إنهما فكرة وهمية، أما أنت وأنا والجميع فلا نزال نعيش في حقيقة الحاضر، كل شيء يحدث الآن، إذن فلا مشكلة إطلاقاً... لن تخشى من أبويك ولا السادة المصلين إلى جوارك في الصفوف الأمامية والخلفية... العبْ وصلِّ وامرحْ وقل ما تريد لإلهك، ولا تتألم على ما خسرته في الشارع من لهو قبل قليل.


36 فيلما سينمائياً شهدت ظهوره تمثيلاً وتلحيناً وغناء، 400 أغنية بين عاطفية ووطنية وأطفال وصور غنائية وأوبريتات، أنتج 47 فيلماً لم يظهر فيها... كل هذا خلال 48 عاماً فقط قضاها "فوزي" بيننا على الأرض، في رحلة إعداد قصيرة جداً مهّدت لسيرة مطولة في عالم آخر يغلفها الخلود.

"فوزي"- وقد كان له نصيب كبير من اسمه- الذي قاتل مرضاً غريباً، عُرف فيما بعد على أنه "سرطان" داهمه بعد تأميم شركته على يد نظام عبد الناصر، لم يكن مهموماً بدخول حرب مع الدولة التي كسرت عظمه بعد تقطيع لحمه وشرب دمه، وقامت بالسطو على مشروع عمره، ورمت إليه بوظيفة "مدير" في مملكته التجاري الكبرى، فما كان جوابه إلا الاكتفاء بالصمت والألحان.

36 فيلما سينمائياً شهدت ظهوره تمثيلاً وتلحيناً وغناء، 400 أغنية بين عاطفية ووطنية وأطفال وأوبريتات، أنتج 47 فيلماً لم يظهر فيها... كل هذا خلال 48 عاماً فقط قضاها محمد فوزي بيننا على الأرض

في أيامه الأخيرة، كتب إلى جمهوره رسالة حب، فيها من عبارات تتضمن فلسفته في التعايش مع الألم، كأنه شريك وجود لا ضجرَ منه، لا تخيفه النهايات التي ستأتي، ووسط المعركة لم ينس أن يُلقي التحية على كل الذين أحبوه.

لا يأسى الراعي على نعجة شردت أكلتها ذئاب الليل...

لم نر فيه، بعد الخسارة والظلم، تاجرَ مأساة، لم يطِب له دور الاستشهاد والمظلومية، بل كان مشغولاً بما يعيشه وربما يكون هنا سرّ بقائه، ولكي يرد له الزمن بعض جميله لم يجد النظام السياسي ورقة توت أخيرة يستر بها نكسته عام 1967، إلا في أغنية "بلدي أحببتك يا بلدي"، التي عصرها "فوزي" من خلايا روحه.

في أيامه الأخيرة على الأرض، حين عرف أنه مغادر لا محالة، كتب "فوزي" إلى جمهوره رسالة حب وتوضيح موقف من باب "هذا بيان للناس"، أنقل منها هنا بعض عباراته التي تتضمن فلسفته في التعايش مع الألم، بل الحياة مع الألم كأنه شريك وجود لا ضجرَ منه، لا تخيفه النهايات التي ستأتي، ووسط المعركة لم ينس أن يُلقي التحية على كل الذين أحبوه لأنه كان على يقين أنهم كثيرون فوق الحصر.. يقول:

"منذ أكثر من سنة تقريباً وأنا أشكو من ألم حاد في جسمي لا أعرف سببه... بعض الأطباء يقولون إنه روماتيزم والبعض يقول إنه نتيجة عملية الحالب التي أجريت لي... كل هذا يحدث والألم يزداد... بدأ النوم يطير من عيني... وأنا أحاول إخفاء آلامي عن الأصدقاء… حتى الحقن المسكنة التي كنت أُحْقَن بها لتخفيف الألم أصبحت لا تؤثر فيَّ، وبدأ الأهل والأصدقاء يشعرون بآلامي وضعفي وأنا أشعر أني أذوب كالشمعة.... لا أخاف الموت... فقد أديت واجبي نحو بلدي وكنت أتمنى أن أؤدي الكثير.... لجأتُ إلى العلاج حتى لا أكون مقصراً في حق نفسي... تحياتي إلى كل إنسان أحبّني... تحياتي لكل طفل أسعدته ألحاني... تحياتي لبلدي.."..

ونحن بالمقابل، نرد له تحيته الساخنة كلما سمعناه، فنغني معه ألحاناً سوف يحملها الزمن على ظهره إلى مكان ما... إلى وطن ما... أو إلى كل الأوطان التي لم نعرفها بعد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard