شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
هل الحياة لعنة؟

هل الحياة لعنة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 2 نوفمبر 201901:52 م

ضد الإنجاب: لعنة أن تولد، وتحيا ثم تموت

هناك سحر وهالة من نوع ما تحيط بأولئك العدميين جداً، الذين نقتبس منهم عبارات وجمل تصف أزمة الحياة ولا جدواها، أولئك الذين تخترق "اقتباساتهم" الدماغ بعد نهار طويل، الذين يؤشرون على عطب عميق في "الحياة" داعين إلى نفيها، منهم إميل سيوران، ألبير كامو، آرثر شوبنهور، ويضاف لهم الفيلسوف الجنوب أفريقي دايفيد بيناتار، الذي صدر له سابقاً كتاب "الأفضل إن لم تكن موجوداً-ألمُ أن تأتي إلى الوجود"، الذي يهديه إلى والديه "بالرغم من أنهما جاءا به إلى هذه الحياة"، وصدر له أيضاً "المأزق الإنساني- دليل نزيه إلى أسئلة الحياة".

شعرية الاقتباسات التي لن نذكرها، وما يدافع عنه أصحابها، تأتي من التركيز على أن الرغبة بالحياة أو "إيجاد الحياة" ليست إلا اندفاعاً لا منطقياً، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، والمحزن أن أغلب الأحياء يتجاهلون "سوء" الحياة ومأساة أن "تولد"، لكن المثير للاهتمام أن أغلب الذين نقتبس منهم لم ينتحروا.

تهمة النفاق التي تطال من لم ينتحروا ومع ذلك "يحاربون" الحياة ويدعون عدم الإنجاب يردّها بيناتار بقوله: "من الممكن أن أكون منافقاً، لكن هذا لا يعني أن أفكاري خاطئة".

يركز بيناتار على ضرورة عدم الإنجاب، ويقدّم عدداً من الحجج الفلسفية والأخلاقية الصادمة، لأن النزعة للإنجاب والتكاثر محفورة بشدة في التاريخ البشري، وكأنها ضمن الحمض النووي البشري، لكنه يعتمد في حججه على "اللا-وجود"، أي لنفكر بالذين لم يولدوا بعد من وجهة نظر منطقية، لم علينا أن نحضرهم إلى الحياة إن كانت تحوي ألماً، ونفترض أنهم محظوظين بوجودهم؟ أليس من الأفضل أن "لا يوجدوا"؟

"الحياة " كمشكلة بيولوجيّة

يحاجج بيناتار في البداية من وجهة نظر بيولوجية بحتة، فالـ"حياة" التي نمنحها للأطفال حين يصبحوا موجودين هي سيئة حكماً، بسبب أنواع الألم الهائلة التي سيتعرضون لها على مستوى داخلي: هناك الأمراض، القلق، احتمالات الموت، العمل وغيرها من الآلام الجسدية والنفسية، لكن هذا لا يعني أن الحياة لا تحوي ملذات، أو "سعادة" لكن يكفي ألم لمرة واحدة لجعلها لا تستحق أن تعاش أو سيئة، و هنا لابد من اقتباس شعري "هناك ألم مزمن، لكن لا توجد لذة مزمنة"، أي وكأن أعضاءنا كبشر مصممة لتوليد ألم مزمن لا يمكن العلاج منه، في حين أن اللذة الجسدية بشتى أشكالها لا يمكن أن تطول أو تستمر دوماً، وإن استمرت "اللذة" تصبح لعنة لا يمكن اختبار الحياة بسببها، كحالة المصابات بخلل يسبب لهن رعشة دائمة، بعكس الألم المزمن الذي يستمر أصحابه بالصراع معه دون شفاء في الكثير من الأحيان.

هناك أيضاً الظن بأن الموت أسوأ من الحياة، لكنهما، "الموت والحياة"، ليسا إلا مشكلات يواجهها" الموجودون"، ويتورط بهما من "يولد"، لا بقراره، بل بقرار من أنجبوه، خصوصاً أن ما قبل الحياة وما بعد الموت، متطابقان بالنسبة للفرد الذي لا يعي ذاته ضمنهما، مع ذلك هما يُغذّيان أوهام الأحياء، فمن لم يولد لا يمتلك هذه التساؤلات.

"الوجود" مؤلم ومضر، لا الاستمرار في الوجود، الذي يمكن أن يحوي سعادة من نوع ما يتخللها ألم وعذاب لا معنى لهما، وتأتي أهميتهما من الطريقة التي نتعامل بها معهما ونضفي عليهما معنى، في حين أنهما "سيئان" بالمطلق.

المدافعين عن الإنجاب يأخذون بعين الاعتبار المنافع التي سيعود بها "الأطفال" على الأحياء الموجودين، في تجاهل كلي أن "اللا وجود" يعني ببساطة غياب الألم، أو على الأقل عدم الخوض في المشكلات التي يعيشها ويختبرها الأحياء، فلم الأنانية في فرض الوجود المؤلم على من لا يمتلك قراراً في ذلك؟

"الوجود" مؤلم ومضر، لا الاستمرار في الوجود، الذي يمكن أن يحوي سعادة من نوع ما يتخللها ألم وعذاب لا معنى لهما، وتأتي أهميتهما من الطريقة التي نتعامل بها معهما ونضفي لهما معنى، في حين أنهما "سيئان" بالمطلق
تهمة النفاق التي تطال من لم ينتحروا ومع ذلك "يحاربون" الحياة ويدعون عدم الإنجاب يردها دايفيد بيناتار بقوله: "من الممكن أن أكون منافقاً، لكن هذا لا يعني أن أفكاري خاطئة"

"الإنجاب" كقضية سياسية

الحياة والموت قراران سياسيان، خصوصاً أن شروط الحياة لا يتحكم بها الفرد، ولا من يولد، بل الأنظمة السياسية، التي "تعترف" بأن أحدهم "حي" و"تعلن" موته، وهنا تبرز أنانية من ينجب الأطفال، هو يشهد على خراب العالم ويختبر شرّه ويعاني منه، لكن هناك دوماً أملاً ما أو وهماً يقول بإن من يولد سيكون محظوظاً، هذا الأمل تغذيه النزعة الدينية والأخلاقية بل والسياسية، من أجل إنجاب جنود ويد عاملة أكثر، ليبدو قرار الإنجاب مجرد تلبية وانصياع لرغبات سياسية.

الدعوة لعدم الإنجاب، لا تقوم على عدم حب الأطفال، أو الضرر البيئي الذي نعيشه أو تقييدهم لحرية "الآباء"، بل من فكرة أنهم سيصبحون بالغين ويعانون آلام هذا العالم ويخضعون لشروطه القاسية، بل وقد ينجبون أطفالاً مهددين بالخطر، خصوصاً حين نأخذ بعين الاعتبار "لا وعي" العلم الذي يتجلى في الحوادث، تلك التي تزداد احتمالات وقوعها بصورة يومية مع كل اكتشاف علمي وكل تطور أو خطوة "نحو الأمام"، التي يوازيها تهديد شروط "الحياة" التي في بعض الأماكن تنفي حتى القدرة على إنجاب الأطفال، كالآثار الإشعاعية والنووية.

المثير للاهتمام أن "الدول" تراهن دوماً على مواطنيها وحقهم في الإنجاب، وترى أن تزايد عدد السكان يجب أن يتم عبر إنجاب أطفال جدد، سواء كانت هذه العملية مقننة كما في "الصين" أو يشجع عليها كما في "اليابان"، لكن هذه الزيادة السكانية مرفوضة حين تكون الكتلة البشرية الجديدة مهاجرة، ولا تحتاج لرعاية، كحالة الأطفال، كي يصبحوا بالغين.

هذا السؤال ينسحب على المواطنين، فحياة من يمتلكون أطفالاً "أثمن" من أولئك الذين لا يمتلكون أطفالاً، وهذا ما نراه في شروط التبرع بالأعضاء التي يفضل فيها الآباء على العزّاب، صحيح أن الأمر "منطقي"، لكن لم الحكم على أحدهم بعدم استحقاقه للنجاة لأنه بلا طفل، ألا يجعل هذا الأطفال أشبه برهائن يساوم بهم الآباء على حياتهم في حال هددت.

هل هناك حياة لا تستحق أن تعاش؟

"هل تستحق الحياة الاستمرار بها: نعم، هل تستحق الحياة أن نبدأها: لا"

السؤال عن "نوعية الحياة" ومدى استحقاق البعض للـ"حياة" لا أخلاقي ضمن العديد من الخطابات، ويستخدم دوماً في الحجج ضد الإجهاض، في حال كان الجنين مصاباً بداء أو مرض ما، وتشتد الأزمة حول هذا السؤال حين نذكر تجارب النازية والإبادة التي مارسوها ضد فئات من البشر وجدوها "لا تستحق الحياة"، أو لا تمتلك نوعية حياة تمكنها من الاستمرار، وهنا تكمن خطورة هذا السؤال بوصفه يفتح الباب على القتل وأحياناً الإبادة، إذ يمكن توسيع تعريف "الحياة" لكن لا يمكن "تضييقه" لتحذف منه فئة ما أو وضعية ما.

ما سبق يحيلنا إلى "نوعية" الحياة بوصفها قرار سياسي، ولا علاقة لها بالفرد الواعي، ولا نتحدث هنا عن حق الأم بإجهاض الجنين، بل عن حق البالغ بأن ينهي حياته، ويقرر بأنها لا تستحق أن تعاش، دول قليلة فقط تعطي الحق بالانتحار، لكنها تضع شروطاً طبية وسياسية معقدة، ولا يمكن لفرد أن يقرر أن حياته لا تستحق أن تعاش وينهيها، الأهم أن القانون نفسه يضع بعض الأشخاص في مكانة وتعريفات تمنعهم من "تقييم" حياتهم، بوصفهم لا يمتلكون الوعي الكافي لتحديد نوعيتها، لكن ما يسأله بيناتار، أليست الحياة نفسها لا تستحق أن نبدأ بها؟ أليس الأفضل أن "لا يوجد" بشر جدد؟ وهنا لا يدعو للانتحار، بل يلخص حجته بقوله: "هل تستحق الحياة الاستمرار بها: نعم، هل تستحق الحياة أن نبدأها: لا".

أزمة اللاجدية

هناك دوماً نوع من الدعابة السوداء المرافقة للأفكار السابقة، إذ لا تأخذ على محمل الجد، بل أن فرويد يصف بالعبثية النكتة التالية: "ألا تولد هو أفضل شيء، لكن هذا يحدث فقط لواحد من ألف"، المضحك -نظرياً- والمتناقض أن هذا الواحد الذي لم يولد لا يعرفه أحد، بل هل هو فعلاً شخص؟ لكن المؤكد أن من يولد ذو حظ عاثر. ذات التناقض ينطبق على الذكاء الاصطناعي الذي يقف البعض ضد تطوره، لأن إيجاد "كيان واع" ضمن هذه الحياة، يعني أيضاً تعرّضه للتعاسة والسوء اللذين يقعان على الأحياء، فلم نورّط كيانات أخرى في تراجيديا الوجود.

المشكلة أننا كبشر لا نستوعب فكرة عدم الإنجاب، ونراها منافية لتكويننا، حتى لو اتخذنا القرار الواعي بعدم إنجاب أطفال، يبدو الأمر "لا طبيعياً" ويتحول البعض إثره إلى أضحوكة، فحتى لو تمت برهنة الأمر رياضياً ومنطقياً وبالأرقام، يبقى "سوء الحياة" وورطتها أمراً غير معقول.

الموقف الساخر- اللاجدي أو ذاك المفرط في أخلاقيته، يقفان بوجه الأفكار السابقة وسبل تحقيقها، وكأن هناك أزمة في "الوعي" ذاته الذي لا يأخذ على محمل الجد فكرة غياب الأطفال، ويراها منافية لتكوين البشر لدرجة أن "حركة الانقراض الطوعي للبشر" تحوي في التعريف عنها سؤال عن مدى جدية الحركة وهل هي مزحة؟ علماً أنها لا تهدف للانتحار أو الإبادة، بل إلى التوقف عن إنجاب الأطفال، في سبيل فناء الجنس البشري كي تعود الأرض إلى توازنها البيئي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard