شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لمستك نستني الحياة"... لماذا الاحتكاك الجسدي ممتع للغاية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 15 أكتوبر 201907:10 م

قد تؤدي لمسة ناعمة بين شخصين إلى نسيان الحياة وما فيها، وحدوث طوفان من المشاعر والأحاسيس التي قد تشتعل عند الاحتكاك الجسدي اللطيف...

منذ بضعة أيام، اتصلت بي صديقتي ودعتني لحضورcacao ceremony (حفل الكاكاو) في بيروت، صحيح أنني كنت قد كتبت مقالاً عن هذا الموضوع في موقع رصيف22، إلا أنني لم أتخيل يوماً أن أشارك في مثل هذه الاحتفالات التي تقوم على التأمّل وبعض الطقوس الروحانية، إذ لطالما اعتبرتها "مضيعة للوقت" ومجرد تمارين تعزف على وتر الأوهام، إلا أن فضولي دفعني في نهاية المطاف لاكتشاف حقيقة ما يدور في مثل هذه الاحتفالات.

على وقع الموسيقى الهادئة وأضواء الشموع الخافتة، جلسنا جميعاً على الأرض حيث شكلنا دائرة بشرية، وطلبت منا المدربة الألمانية أن نغمض عيوننا ونمسك أيادي بعضنا البعض لكي يشعر كل شخص منا بمن حوله، وعندها اكتشفت، لأول مرة، كيف يمكننا أن نكون مقرّبين من أشخاص لا نعرفهم ولا نعرف عنهم أي شيء، وجوه غريبة خلفها حكايات وتجارب حياتية مختلفة، وروح واحدة متعطشة لمعرفة أسرار هذا الكون والعودة إلى الذات لتطويرها، وكل هذه الضبابية قد تتبدّد من خلال لمسة بسيطة نابعة من القلب.

هذا التمرين يفتح نافذة حول أهمية اللمس في حياتنا وفي إعادة ترتيب ما في داخلنا من أحاسيس، ويبرهن أن لمسة واحدة قد تكون كفيلة بإشعال مشاعر الحب، حتى بين الغرباء.

لغة الحب

"شعرتُ وكأن العالم كله بحوزتي، شعرت وكأنني مرّرت أصابعي على كل ذرّة في هذه الأرض رغم أنها يدك".

في الشوارع والطرقات، في السيارات، في المطاعم والكافيهات، نصادف الكثير من العشاق الذين يتبادلون النظرات الجميلة والكلمات الشاعرية والقبلات الخاطفة، هذا وينسون جميع هموم الدنيا لحظة تشابك الأيدي، فعندها يشعر كل واحد منهما بالآخر من دون الحاجة إلى التفوّه بكلمة.

قد تؤدي لمسة ناعمة بين شخصين إلى نسيان الحياة وما فيها، وحدوث طوفان من المشاعر والأحاسيس التي قد تشتعل عند الاحتكاك الجسدي اللطيف

هذا السلوك الذي يمارسه كل البشر دون اتفاق مسبق وبشكل عفوي وتلقائي، تحوّل إلى طقس مقدس من طقوس الحب، إلى لغة خاصة يفهمها العشاق بشكل خاص بعيداً عن اللغات المتعارف عليها، وحتى لو اختلفت العادات والتقاليد بين مجتمع وآخر، يبقى اللمس لغة خاصة بالقلب والمشاعر يمكن اللجوء إليها لإيصال رسائل قد يصعب على الكلمات إيصالها.

والحقيقة أن لا صوت يعلو فوق صوت اليدين، إذ قد تقول الأيادي ما تعجز الكلمات عن قوله، وذلك يعود بشكل رئيسي إلى لغة الإشارة التي استخدمها الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، كما تعود أهمية اللمس إلى فترة الطفولة حيث كنّا صغاراً نحتاج ليد أمنا لمساعدتنا على تحقيق التوازن في خطواتنا الأولى، وحتى وإن تقدم بنا العمر، فإننا لا نزال بحاجة إلى لمسة حنونة لضمان توازن مشاعرنا ولتبديد خوفنا أو للتعبير عن حبنا.

لا شك أن مسألة التعبير تختلف من شخص إلى آخر، فالبعض يعبر عن مشاعره وأحاسيسه من خلال الكتابة، والبعض الآخر يفضّل "لغة العيون" والاكتفاء بنظرات قد تعبر عما هو موجود في القلب من دون الحاجة إلى كلمات، كما أن البعض يميل إلى التعبير عن حبه للآخر عن طريق اللمس، وهو حال نور (اسم مستعار)، والتي تجد أن حاسة اللمس هي أصدق مرآة للنفس: "من خلال اللمس يمكن البوح بما قد نخجل من التعبير عنه شفهياً"، وفق ما تقوله لرصيف22.

تعتبر نور أن الاحتكاك الجسدي اللطيف يمرّر عدة رسائل، من بينها: الحب، الاهتمام، الراحة، الطاقة... مشيرة إلى أن اللمسة النابعة من القلب تطبع في وجدان المرء وذاكرته: "لا أحد ينسى لمسة الأم/ الأب، عناق الحبيب..."، هذا وتؤكد نور أن اللمس يحرّك المشاعر ويشكل عنصراً هاماً في العلاقة الجنسية، إذ تقول: "تشكل المداعبات بين الثنائي جزءاً رئيسياً من العملية الجنسية، كما أنها تساعد المرأة في الوصول إلى النشوة الجنسية".

الحرمان من اللمس

يلعب اللمس دوراً أساسياً في تكوين الروابط الاجتماعية والحفاظ عليها، في حين أن غياب اللمس له تأثير ضار على صحتنا الجسدية ورفاهيتنا النفسية.

بنبرة حزينة تخبر هدى (إسم مستعار) كيف أنها حُرمت من لمسة والدها، الأمر الذي جعلها تدخل في علاقة باردة معه طوال حياتها، فتقول لرصيف22: "كان والدي شخصاً قوياً ذو طباع حادة، وبعكس والدتي، لم أذكر يوماً أنه عانقني أو أمسك يدي، حتى حين كنت ألازم الفراش بسبب مرض الربو الذي عانيت منه لسنوات".

تكشف الشابة البالغة من العمر 28 عاماً، أنها لطالما كانت تراقب تصرفات أهل أصدقائها، وتقارن بين سلوك والدها معها وسلوك الآباء الآخرين: "تمنيت لو كان أبي يتصرف مثل باقي الآباء، كأن يلعب معي مثلاً ويمازحني ويمسك يدي حين أشعر بالخوف أو بالحزن...".

وعن المرة الوحيدة التي لمسها فيها والدها، تقول: "بعد حفلة التخرج من الجامعة، ربّت على كتفي وهمس في أذني: "بتبيضي الوجه"... وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي أسمع منه كلمات تشجيع".

وبالرغم من قسوته عليها، إلا أن هدى لا تنكر أنها كانت تشعر بطيبة معيّنة يحاول والدها كبتها وراء قناع الصرامة نتيجة العقلية الذكورية التي تربى عليها: "في البداية كنت أتضايق من الأمر إلا أنني سرعان ما أدركت أن تصرفاته نابعة من التربية القاسية التي تلقاها منذ الصغر".

الغموض

لا يزال اللمس بالنسبة إلى العلماء يشكل الإحساس الأكثر غموضاً، فمنذ 50 عاماً، اكتشف الباحثون الخلايا والجزيئات التي تكمن وراء حاسة النظر والسمع والشم والذوق، غير أنهم بدأوا للتوّ في التعرف على الآلية الأساسية التي تستخدمها الثدييات للكشف عن اللمس، ومعرفة ما يدور في أدمغتنا أثناء عملية اللمس.

يعتقد الباحثون أن المخ يحتوي على "خريطة" للجسم لإدراك اللمس، وقد يكون لدى البشر أيضاً خريطة جسم عاطفية تتوافق مع مشاعر اللمسة اللطيفة، وفق ما جاء في البحث الذي تم تقديمه في الاجتماع السنوي الرابع والأربعين لجمعية العلوم العصبية.

من لمسة الأم الحنونة إلى عناق العشيق/ة، يقوم الاحتكاك الجسدي اللطيف بتنشيط مجموعة متخصصة من الأعصاب لدى البشر، إذ تشير الأبحاث المنشورة في موقع neuron إلى أن بعض الخلايا العصبية الحسية، المعروفة باسم (CT) C tactile تشارك في عملية تحفيز المشاعر الناجمة عن الاتصال الجسدي اللطيف.

وفي هذا الصدد يزعم فرانسيس ماكغلون، من جامعة جون مورس في المملكة المتحدة، أن هذه الخلايا الموجودة في جلد معظم الثدييات، بما في ذلك البشر، مهمة في السلوكيات الاجتماعية، وحتى في إعطاء البشر شعوراً بـ"الأنا"، إذ تعد اللمسات إحدى الطرق التي يضع فيها الإنسان حدوداً بينه وبين العالم الخارجي، وبالتالي قد تؤدي الخلايا العصبية الحسية إلى تعزيز الإحساس بالذات.

واللافت أن الاحتكاك الجسدي عن طريق اللمس يحمل تأثيراً قوياً بحسب طريقة اللمس والشخص الذي يقوم بهذه الحركة.

التأثير القوي

سواء كنتم تشعرون بمداعبة لطيفة من حبيبكم أو لمسة ناعمة من صديقكم أو من أحد أفراد أسرتكم، فإن المتعة التي يجلبها اللمس هي جزء مهم من معظم العلاقات الاجتماعية، وحتى في الإطار المهني، فإن المصافحة اللطيفة يمكن أن تساعد في تعزيز العلاقة مع أرباب العمل والزملاء، كما أن اللمسة قد تكون مفيدة في بيئة الرعاية الصحية، وذلك بالنسبة للمرضى الذين يشعرون بالاطمئنان بمجرد تلقيهم لمسة ودية من الطبيب/ة أو الممرض/ة.

لا صوت يعلو فوق صوت اليدين، إذ قد تقول الأيادي ما تعجز الكلمات عن قوله ويبقى اللمس لغة خاصة بالقلب والمشاعر يمكن اللجوء إليها لإيصال رسائل قد يصعب على الكلمات إيصالها

يوضّح موقع سيكولوجي توداي أنه يمكن أن ينتج عن الإحساس باللمس مجموعة واسعة من التغييرات الفيزيولوجية والكيمياء الحيوية في الجسم، بما في ذلك انخفاض معدل ضربات القلب وضغط الدم، وكذلك تراجع معدلات الكورتيزول وزيادة هرمون الأكسيتوسين، وقد أظهر التصوير بالرنين المغناطيسي أن اللمس اللطيف يمكن أن ينشّط المناطق الرئيسية في الدماغ، بما في ذلك القشرة الأمامية، هذا وقد يؤدي إلى تغييرات في مستويات السيروتونين في الدماغ ما يفسر السبب الذي يجعل التدليك يخفف الإحساس بالألم.

ولكن كيف تختلف اللذة الكامنة وراء اللمسة مع التقدم في العمر؟

بهدف البحث حول كيفية تأثير الشيخوخة على قدرتنا على إدراك اللمسة اللطيفة، أجرى الباحث إيزاك سيلستيد من جامعة غوتنبرغ في السويد، دراسة شملت 120 مشتركاً (60 رجلاً و60 امرأة) تتراوح أعمارهم بين 13 و82 عاماً، بمتوسط عمر 35-36، وبعد الانتهاء من الإجابة على استبيان لقياس الاكتئاب والأداء المعرفي، خضع كل مشترك لسلسلة من الضربات اللطيفة.

وبفضل فرشاة مصنوعة من شعر الماعز، تم توجيه ضربات لطيفة على الساعد الأيسر بمعدلات مختلفة من السرعة، وعليه تمكن الباحثون من توفير تحفيز موحد لجميع المشتركين، وبعد كل ضربة من الفرشاة كان يتعين على المشتركين تقييم الضربة من حيث اللطف والقوة.

وبعد التجربة طُرح على المشتركين أسئلة موحدة حول كيفية تعاملهم مع اللمس بشكل يومي، وجاءت الأجوبة كالتالي: "أنزعج بسهولة إذا قام شخص لا أعرفه بمعانقتي"، "في العادة أسعى لكي يكون هناك اتصال جسدي مع الآخرين"، "أنزعج بسهولة عندما يلمسني أحدهم بشكل غير متوقع".

أظهرت النتائج أن الأشخاص الأكبر في السن أقل حساسية لموضوع اللمس من غيرهم، غير أن الشق المثير للاهتمام أن النتائج نفسها كشفت أن الإحساس اللطيف المرتبط بلمسة لطيفة زاد مع التقدم في العمر، رغم انخفاض حساسية اللمس، ما يشير إلى أن اللمس الجسدي قد يصبح أكثر أهمية بالنسبة إلى كبار السن.

أحد التفسيرات المحتملة لهذه النتيجة يأتي مما وصفه عالم النفس تيفاني فيلد "فرضية الجوع للمس"، والتي تقوم على فكرة أن يكون الناس أكثر احتمالاً أن يقدّروا الإحساس باللمس اللطيف عندما يكبرون في السن، لأن لديهم فرص أقل لهذه اللمسة التي قد نعتبرها أمراً مفروغاً منه عندما نكون أصغر سناً.

هذا وقد يكون كبار السن أقل احتمالاً للبحث عن فرص للاتصال الجسدي ما يجعل لمسة لطيفة تبدو أكثر متعة عندما تحدث.

بمعزل عن العمر، الجنس ونوع العلاقة... لا شك أن اللمسة الناعمة بين شخصين لا تزال من أقوى الإشارات الاجتماعية العاطفية، إذ يلعب الإحساس باللمس دوراً أساسياً في سلامتنا النفسية وكيفية تفاعلنا مع الآخرين، لذا لا تترددوا في التواصل ولمس الناس في حياتكم، قد يكون الأمر أكثر أهمية مما تعتقدون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard