شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"أخ كبير"... السخرية بدهاء من داخل "عباءة النظام"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 15 أكتوبر 201911:12 ص

يتحدث كثيراً، يثرثر، وبالكاد يتوقف عن الكلام. في البداية لم أستسغ إكمال أولى مشاهداتي لبرنامج "أخ كبير" من إنتاج "مدى مصر"، لكن بعد لحظات أذعنت للموسيقى وهي تنبس بكلمات غير مفهومة، وكأنها تراتيل بوذية مع صورة خلفية لرجل غامض، يظهر لنا ظهره، تعلوه كلمة "الجلالة" من فوق، ثم... يتوسط المشهد تتر ضخم مكتوب بخط أصفر بارد: "بأكمله".

أخ كبير… عدو "الأشكال الوسخة القذرة"

"لا للاكتئاب يا كلاب"، كانت أولى الحلقات التي شاهدتها، يظهر فيها "أخ كبير" كعادته، بعباءة سوداء وسبحة تلف هاتف البلاك بيري، وذقنه البارز بشكل لافت ولكنته المصرية الشعبية الخالصة.

يحاول بنزعته الذكورية والبطريركية أن يدافع عن الأنساق المحافظة وخطاب الدولة الرسمي، ويهاجم في ذات الوقت المعارضين وذوي الخطابات الثورية والتحررية ويصفهم بـ "الأشكال الوسخة والقذرة"، ويحث المواطن "الأسمر" البسيط على الحفاظ على الثوابت، وألا ينجرّ لخطابات هؤلاء لأن ذلك قد يسبب له الاكتئاب!

عبثاً، تتسلل تلك الأفكار "القذرة" إلى المواطن "الأسمر" (وهو وصف يؤخذ على محمل السخرية، كونه يعبّر عن مواطن مقهور ومقموع في اختياراته)، ويصاب هو الآخر بالاكتئاب، رغم محاولات الدولة ونخبها وإعلامها ومؤسساتها تخديره بإيديولوجيا الوهم، على حد تعبير ماركس، من مسلسلات وأفلام وأغانٍ وبرامج، كلها تحث على الرضا بما قسم له القدر، وأي محاولة لتفسير العبث الذي يعيش تحت وطأته هو ضرب من الكفر ليس إلا.


سخرية بالتبني في وجه التنميط الكوميدي

يقدم محمد أنديل، مقدم برنامج "أخ كبير"، للمشاهد في دول منطقتنا، كوميديا لا ترمي كلاماً على عواهنه، أو مجرد قفشات غبية مكررة ومجترة في كل وقت وحين، بل يحاول أن ينتج "سخرية بالتبني"، أي أنه يتبنى، بشكل ظاهري، مواقف وخطاب الدولة الرسمي وأيضاً الأنساق والأنماط والاخلاقيات السائدة في المجتمع.

هي إذاً سخرية لا تزعج ولا تستعرض نفسها كمعارض شرس لهذه المنظومات، بل تحتويها وتتحدّث باسمها، لكنها تسخر في عقر دار هذا الخطاب، داخله وليس خارجه، مثلما هو معتاد في الكوميديا المتداولة في شكلها المنمط، كما هو معروف في تجربتي "البرنامج" و"جو شو"، وغيرهما من التجارب الكوميدية التي تقدم الفكرة في قالب يبتغي المعارضة الصريحة، والتي يصفها منتقدون بأنها تدخل في إطار "تصفية حسابات سياسية ضيقة".

الملاحظ في حلقات برنامج "البرنامج" هو توظيف قفشات جاهزة، وأخرى تستدعي إضحاك الجمهور بغباء وسطحية تارة، وتارة أخرى توظيف المزحة في سبيل الاحتجاج والثورة على هذه المنظومة على حساب منظومة أخرى بديلة.

وبشكل ما، يمضي برنامج "جو شو" على خطى برنامج "البرنامج" في توظيفه لنفس التقنيات بتفاصيلها المتمثلة في الديكور وطريقة الأداء والتنشيط وعرض الفيديوهات وصدى ضحكات الجمهور.

الكوميديا هنا لا تصنع فارقاً سوى أنها تقدم لقطات وأحداث لها راهنيتها ليسخر منها مقدم البرنامج ويصفق عليها الجمهور، والغاية - طبعاً- سياسية وإيديولوجية بالأساس، أي كما كان برنامج "البرنامج" يستخدم المزحة ليسقط الإخوان، برنامج "جو شو" هو الآخر، يوظفها ليسقط العسكر، ولأجل ذلك فليتنافس المتنافسون.

يرى منتقدون بأن مثل هذه التجارب الفنية لا تقدم سوى وفرة في المعارضة والاحتجاج الكوميدي مع ندرة في صناعة سخرية مُفَكِّرَة، أي أنها تستهدف عقل وذهن المتلقي وتحاول أن تستفز مسلماته اليقينية، أو حتى تغيّر من أفكار وقيم مجتمعية (الحريات الفردية، المسألة الجندرية، قضايا التنوع، تمكين المرأة، حقوق الأقليات، الديمقراطية، نقد الأنظمة الذكورية والأبوية...)

لا يمكن إنكار دور مثل هذه البرامج في ممارستها لسلطة أشبه بالرقابة على أداء أنظمة الحكم في دول منطقتنا وهي تعمل، بشكل أو بآخر، على تنوير المتلقي بمعطيات قد تساهم في تحريك المياه الراكدة، لكن، لا يمكن إنكار أيضاً دورها في تدجين الجمهور وأحيانا أدلجته، أي جعله يتبنى أفكاراً ومواقف وخطاباً سياسياً أو مجتمعياً دون وعي.

يقدم "أنديل" للمشاهد كوميديا لا ترمي كلاماً على عواهنه، أو مجرد قفشات غبية مكررة ومجترة، بل يحاول أن ينتج "سخرية بالتبني"، أي أنه يتبنى، بشكل ظاهري، مواقف وخطاب الدولة  وأيضاً الأنساق والأنماط والاخلاقيات السائدة في المجتمع.

يختلف "أنديل" عن البقية كونه لا يسخر كفعل احتجاجي، أو استعراضي بهلواني، ولا يصنع القفشة السطحية باعتبارها فعلاً يستدعي كسب الجمهور، وإنما يقول: أنا أعارض وأسخر وأشتم لكن داخل عباءة النظام.. "يا (...) أمكم!"

بماذا يختلف أخ كبير عن هذه التجارب الكوميدية؟

يقول قائل بأن "أخ كبير" لا يقدم سوى ثرثرة في الكلام و ألفاظ نابية فارغة المحتوى، هذا حكم قد يأتي للوهلة الأولى أو عند المشاهدات العابرة للحلقات، لكن الحكم قد يتغير بعد إعادة المشاهدة أكثر من مرة، و يكتشف المشاهد أن المحتوى ليس مجرد كلام فارغ، هنا يختلف "أخ كبير" كتجربة كوميدية، بكونه يستثمر في الديكور والموسيقى والإكسسوارات والمصطلحات العلمية والأكاديمية، من قبيل: "inconscience"، "خلل فيزيائي"، "الجهاز العصبي"، "أدوات الإنتاج"، "الميثاسيكولوجيا"، "المجتمعات التجريبية"، و"الاختراق"، وغيرها من المصطلحات.

ليس المهم هو ذكر هذه المفاهيم على ثقلها، لكن الذكاء في وضعها جنباً إلى جنب، مع الألفاظ ومحتوى الشارع الخالص والمعبر عن مزيج من الكبت والغضب والاستكانة من جهة، والتمرد والخضوع من جهة ثانية، هنا يوظف أنديل الكلام العلمي والأكاديمي ليحلل، ويفسر الأوضاع ككل تارة بشكل موضوعي محايد، وتارة أخرى ليسخر ويهاجم "الأشكال الوسخة القذرة"، في إشارة إلى الأشخاص ذوي الأفكار المتمردة والثورية.

يختلف أخ كبير عن نظرائه من الكوميديين في الشكل، وكذلك في المضمون، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: ماذا يريد من فيديوهاته؟ هل يريد أن يعارض النظام وكفى؟ هل يسخر كفعل احتجاجي أو بهلواني "أراجوزي"؟ هل يرغب في قصف تيار ما أو توجه مجتمعي ضد آخر؟ ماذا يصنع هذا الولد الثلاثيني ذو الشنب الذكوري؟

لم تكن مصر أفضل حالاً، خصوصاً بعد أحداث تموز/يوليو عام 2013، إذ بدأت الأوضاع تزداد سوءاً سنة بعد سنة، والمحصلة: سجن واعتقالات وتضييق على الحريات، هنا جاء "أخ كبير"، في ظرفية مواتية، ليعبّر عن مرحلة سياسية واجتماعية وثقافية عنوانها الأبرز: سيادة نظام أبوي ذكوري وديكتاتوري، ولا مجال لمن يعترض، و"اللي حينطق حيضيع!".


أمام هذا الوضع المتأزم، لا يستطيع أنديل أن يعبّر بشكل كوميدي عن معارضته للأوضاع بشكل صريح، فأي كلمة منفلتة تساوي تضييقاً وحبساً، لذلك "السخرية بالتبني" هي الحل.

في هذا السياق، يقول أنديل: "الصعوبة في أن يعبّر الشخص عن رأيه في ظل حكم دكتاتوري، هو في عدم تحوّل هذا التعبير إلى ورقة تستخدمها أطراف أخرى للضغط السياسي ولتحقيق مكاسب خاصة".

و يضيف في كلامه: "لا أتوجّه للناس بمنطق العارف الذي يوزّع معرفته على الناس الأقل معرفة منه، بل أحاول تحطيم الصورة النمطية للصواب التلفزيوني والخطاب التثقيفي الفاسد، أتمنى أن يتوقف الناس عن الوثوق بأي شخص يُسمح له بالظهور على التلفزيون".

تجربة "أخ كبير" تشبه إلى حد ما التوجه السائد في الإنتاجات الإبداعية في أوروبا القرون الوسطى وما بعدها، كانت السخرية أداة للمقاومة والتنوير على يد فلاسفة ومبدعين كـفولتير وموليير ونيتشه، في ظل نظام فيودالي تتحكم فيه الكنيسة والسلطة الحاكمة في كل صغيرة وكبيرة، لم تكن السخرية آنذاك واضحة وصريحة بقدر ما كانت، بشكل أو بآخر، مخادعة ولمّاحة.

لكن، وللأمانة لم يكن "أخ كبير" لمَّاحاً، كأنه يقول: "أنا أؤيد هذا النظام وأنساقه وأدافع عنه"، وبنفس الوقت يضع المواطن البسيط والمصري المدجن (وغير المصري أيضاً) أمامه وكأنه مرآة له- للمواطن- ولتصوراته ومواقفه حيال الأحداث والقضايا التي تهمه، لكن ينتقده ويهاجمه هو الآخر من حيث لا يدري ولا يعي ذلك، أي المواطن نفسه.

في المحصلة، يختلف هذا الولد الثلاثيني ذو الشنب الذكوري عن البقية كونه لا يسخر كفعل احتجاجي، أو حتى استعراضي بهلواني "أراجوزي"، ولا يصنع القفشة الساذجة والسطحية باعتبارها فعلاً يستدعي كسب الجمهور، وإنما يقول بصوت عالٍ: أجل أنا أعارض وأسخر وأشتم لكن داخل عباءة النظام.. "يا (...) أمكم!"


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard