شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ابن مُناذر وعبد المجيد... قصة حبّ مثلية من العصر الوسيط

ابن مُناذر وعبد المجيد... قصة حبّ مثلية من العصر الوسيط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 19 أكتوبر 201905:57 م

ذات يوم، وبينما كان الناسك محمد بن مُناذر، رجل الفقه والشعر الشهير، يمشي بخطوات حثيثة في طريقه إلى مسجد البصرة، يعصر قريحته ملياً من أجل تأليف قصيدة جديدة، شغلته كلماتها عن متابعة باقي الناس الذين راحوا يلقون عليه التحية خلال سيره، بُوغت بمشهد غيّر كيانه للأبد، وقلب حياته رأساً على عقب: بشريٌّ بالغ الجمال قاده إلى الحب للمرة الأولى.

لا تكتمل فصول الحكاية على نحو مستقيم هذه المرة، فلم يُباغت العابد الأديب حب امرأة يغدو اقترانه بها اكتمالاً لنصف الدين وكل الدنيا، وإنما كان سهم العشق الذي خرق قلبه وحياته لرجل يدعى "عبد المجيد"! ومن يومها لم يعد أبداً ابن مناذر كما كان: شاعراً كبيراً ولغوياً بارعاً يغدو إليه الناس ويلتمسون رضاه لنيل معلومة نحوية أو شطراً من الشعر، ويتجنبون غضبه خوفاً من أبياته اللاذعة.

يحكي عبد الله بن محمد العباسي في كتابه "طبقات الشعراء"، أن ابن مناذر رجل "من أهل عدن" وكان مولى لبني يربوع، وقع إلى البصرة لـ"كثرة العلماء والأدباء بها"، لزم أهل الفقه وأصحاب الحديث واللغة حتى تفوّق بهما، فيما يمنحنا شمس الدين أبو المظفر في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" المزيد من التفاصيل الأخرى المتعلقة بحياة الشاعر البصري: كنيته أبو ذَريح، وأنه نزل على بغداد أولاً وتنسَّك بها (أي ظلَّ ملازماً للمسجد) ثم عاد إلى البصرة بعد ذلك.

يوضح الأصبهاني في "الأغاني" أن سبب الكُنية إنما يرجع لابن لمحمد اسمه ذريح مات وهو صغير، ونعاه بقوله:

كأنك للمنايا يــا ذريـــح الـله صوركـا

فناط بوجهك الشعرى وبالإكليل قلدكا

اختلف المؤرخون في ضبط اسمه الأخير، هل هو "مَناذر" أم "مُناذر"، يقطع الشك في التباين، الرواية التي نقلها ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه "توضيح المشتبه"، بأنه كان يغضب إذا سمع اسمه بميم مفتوحة، ويوضح لقائلها "إنما هو مُناذر، اسم فاعل من ناذر، مثل مُضَارب من ضَارب"، أما الثانية هو اسم لقريتين بنواحي الأحواز.

أما خير الدين الزركلي فيمنحنا تواريخ للحقبة الزمنية التي عاشها الرجل بعدما قدَّر بكتابه "الأعلام"، أن وفاته كانت بالعام 198هـ/813م، وإن كنا لا نعلم له تاريخ ميلاد يرجح أنه جاء إلى الدنيا في أواخر العهد الأموي، إلا أننا يمكننا أن نقطع بأنه عاش جُلّ حياته في العصر العباسي الأول، وهو ما ينسجم ما رُوي عن معاصرته للخليفتين هارون الرشيد والمأمون، واتصاله بالبرامكة.

يحكي دكتور عبدالحفيظ عبد الهادي في أطروحته "شعر محمد بن مناذر- قراءة فنية" التي أجازتها كلية التربية بجامعة المنصورة، أنه استمسك في جزء من شعره بالنمط القديم الذي يحافظ على قيم الشعر الفنية، ألفاظاً وأساليب ومعاني، نظراً لما كانوا يتمتع به الأقدمون من نفوذ واسع عند الخلفاء، فكانت قصورهم تعجّ بهم كحاشية كما كان أبناؤهم ينشأون على أيديهم، وهو وإن حافظ على القديم لم يتخلَّ عن التماهي مع ثقافة عصره.

فيما يضيف عبد العزيز إبراهيم في أطروحته "شعر بن مناذر"، أن الرجل هو ابن عصر شهد مزجاً اجتماعياً وثقافياً أدى لظهور ذوق جديد بعيد عن حياة البداوة وخشونة الأعراب، فدفع بعناصر جديدة في قوله، ولأنه لم يكن بمعزل عن كل هذا جاء شعره يحمل صورة واضحة للمجتمع المختلط المنفتح الذي عاشه.

رجل ماجن لا يبالي

تشرَّب الرجل العِلم في مدينة البصرة، وتألق اسمه في علوم الأدب، يقول عنه أبو الفرج الأصبهاني: "كان شاعراً فصيحاً متقدماً في العلم باللغة وقد أخذ عنه أكابر أهلها".

بدأ نجم ابن مناذر يعلو في البصرة في ظل خلافة المنصور، وتألق فيها شاعراً موهوباً مرهوب اللسان، وكان إماماً في الفضل والأدب، بزغت قدراته حتى قال لأصحابه: "إن الشعر ليسهل عليّ لو شئت ألا أتكلم إلا بشعر لفعلت" فيما تناثرت أقاويله الجزلة بين صفحات الكتب، فيستعرض ابن عبد البر في مؤلفه "بهجة المجالس وأنس المجالس" قوله: "لا تقل شعراً ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعراً فأجد" كقولٍ حكيم على كل شاعر ناشئ أن يقتدي به.

ويلخّص كل هذه الإشادات أبو العباس المبرد في كتابه "الكامل"، متحدثاً عنه بفقرة جليلة، قال فيها: "كان رجلاً عالماً مقدماً، وشاعراً مفلقاً، خطيباً مصقعاً، وله في شعره شدّة كلام العرب بروايته وأدبه، وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته، ولا يزال قد رمي في شعره بالمثل السائر والمعنى اللطيف واللفظ الفخم الجليل والقول المتسق النبيل".

برع ابن مناذر في الهجاء، فهاجم قاضي البصرة خالد بن طليق، قائلاً بحقه:

قل لأمير المؤمنين الذي    من هاشم في سرها واللباب

إن كنت للسخطة عاقبتنا     بــخالد فـهـو أشــد العقـاب

كان قضاة الناس فيما مضى    من رحمة الله، هذا عذاب

يا عجبي من خالد كيف لا      يغلط فينا مــرة بالصـواب

كما سلط نيرانه على عالم الحديث بكر بن بكار فقال عنه: "أعوذ بالله من النار ... ومنك يا بكر بن بكار"، ولما بلغ هذا البيت للأول قال عنه: "ذاك رجل ماجن خليع لا يبالي ما قال".

وفي أحد الأيام بلغه نبأ زواج الإمام محمد بن عبد الوهاب الثقفي بامرأة اسمها عمارة وكان يعاديه، فأنشد عن ذلك:

لما رأيت القصف والشاره     والبز قد ضاقت به الحاره

والآس لمن ذا قيل أعجوبة   محمـد زوج عــمّـارة

لا عمّــر الله بــها ربــعــه    فـإن عمّـــارة بذكاره

ويحك فرّي وأعصبي فاك لي  فهذه أختك فرّاره

لم ينجح هذا الزواج ولم تلبث عمارة في كنف زوجها إلا أيام معدودات وبعدها هربت، وتعجب الناس كيف وافق هذا الفعل قول ابن مناذر، كما لم يسلم حتى أصدقاءه من لسانه السليط، فيُروى عنه أنه استمرّ يهجو إسكافياً صديقه يُدعى أبو العساس حتى استجار منه فقال له: أنا صديقك، فاتقِ الله وابقِ على الصداقة، ولما استمر ابن مناذر على هوايته السوداء استعمل الإسكافي نفس سلاحه، وباغته بقوله:

كثرت أبوّته وقلّ عديده    ورومــى القضــاء بـه فراش مناذر

عبد الصبيريين لم تك شاعراً    كيف ادعيت اليوم نسبة شاعر

وكأن هذين البيتين هما انتقام القدر الذي تلمسه كافة خصوم ابن مناذر، فتلقفوهما وأشاعوهما في أرجاء المدينة حتى صارا على كل لسان، لدرجة أن ابن مناذر نفسه قال: "ما مرّ بي شيء قط أشد عليّ مما مرّ بي من قول أبي العسعاس فيّ".

لم يسلم من معاركه حتى النحويين، فذات يوم عقد فيه الإمام عبيد الله بن عتبة تلميذ سيبويه حلقة علم، انشغل بها الناس عن حلقة مماثلة عقدها ابن مناذر، فقام إليهم وأنشد قوله:

قوموا بنا جميعاً    لـحلقـة الـعـار

يجمعن للشقاء   مـع عتبــة الخسّار

ما لي وما لعتبة   إذ يبتغي ضراري

ونتيجة لشيوع الهجاء في كلماته، سأله يوماً رجل من ثقيف: ما بال هجائك أكثر من مدحك؟ فرد عليه منتقداً إياه: ذلك ما أغراني به قومك، واضطرني إليه لؤمك!

لله دُر ابن مناذر

مدح الخليفة المهدي، وقال بحق هارون الرشيد:

لما رأينا هارون صار لنا   الليل نهاراً بضوء هارونا

فلو سألنا بحسن وجهك يا هارون صوب الغمام سقينا

كما امتدح البرامكة قائلاً:

أتانا بنو الأملاك من آل برمك     فيا طيب أخبــار ويا حســن منظــر

لهم رحلة في كل عام إلى العدا    وأخرى إلى البيت العتيق المستر

إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت    بيحيى وبالفضــل بـن يحيى وجعفر

وقيل إن هارون عاقبه عقب محنة البرامكة لقاء هذه الأبيات، إلا أن هذا لا يستقيم مع بقية الروايات التي بلغتنا عن وجوده في حضرة الخليفة ومدحه له، وربما صالح ابن مناذر الخليفة الغاضب بشعر رقيق حتى عفا عنه.

تفوّق في مناظرة غير مباشرة على اللغوي البصري الشهير معمر بن المثني الذي امتدحه الجاحظ بقوله: "لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه"، لكن المروية التي ساقها صلاح الدين الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات" تؤكد أن ابن مناذر كان أعلم منه، بعدما سُئل الأول عن اسم اليوم الأول من النحر فلم يعرف، ولما استعلم صاحب السؤال من ابن مناذر، أخبره: هذه أيامٌ متواليات كلها على حرف الراء، فالأول يوم النحر، والثاني يوم القَرّ، والثالث يوم النَّفْر، والرابع يوم الصَّدر، ولما علم أبو عبيدة بهذه الإجابة كتبها عنه.

"كان على ستر وصلاح وحلم ووقار"، إلى أن رأى عبد المجيد الذي كان من أجمل فتيان ذلك الأوان وأأدبهم وأظرفهم، فعشقه ابن مناذر وافتُتن به و"انتهك ستره"... قصة عشق أقامت الدنيا وأقعدتها 

ترك النُسك عندما افتتن بشاب اسمه عبد المجيد... "وعظته المعتزلة فلم يتعظ، وأوعدته بالمكروه فلم يزدجر، ومنعوه من دخول المسجد فنابذهم"، وظل على مجونه حتى آخر أيامه

كما دخل في تحدٍّ يوماً مع اللغوي الكبير الخليل بن أحمد، بعدما سفّه الأخير من صنعته بقوله: "إنما أنتم معشر الشعراء تبع لي وأنا سكان السفينة إن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم، فبارزه ابن مناذر بقوله: والله لأقولن في الخليفة قصيدة أمتدحه بها ولا أحتاج إليك فيها عنده ولا إلى غيرك"، وبالفعل قرض في الرشيد قصيدة مطلعها "ما هيّج من مطوقة ... أوفت على بانة تغنينا"، لما بلغته منحه 20 ألف درهم، كما حمل له القدر بعدها تقديراً مضاعفاً بعدما أصاب القحط الناس سنة، فاستسقى بهم الرشيد فنزل الماء فسر بذلك، وتذكر أحد أبيات قصيدة ابن منذر: "ولو سألنا بحسن وجهك يا ... هرون صوب الغمام أسقينا" فقال لنفسه: لله دُر بن مناذر، ثم سأل عن خبره وبعث إليه بجائزة.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي يقترن فيها شعره بالخليفة هارون، وإنما في أحد الأيام أراد الشاعر العملاق أبو العتاهية، مناقرة من اعتبره "شاعر البصرة"، فدخل على الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين هذا شاعر البصرة ابن مناذر يقول قصيدة في كلّ سنة، وأنا أقول في السنة مئين قصائد. فأدخله الرشيد إليه فقال ما يقول أبو العتاهية. فقال: يا أمير المؤمنين لو كنت أقول كما يقول: "ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة"، لقلت مثله كثيراً، ولكنني أقول: "إنّ عبد المجيد يوم تولّى ... هدّ ركنا ما كان بالمهدود/ ما درى نفسه ولا حاملوه ... ما على النّعش من عفاف وجود"، وهنا أنصف الخليفة ابن مناذر، وأمات أبو العتاهية غمّاً وأسفاً بأمره أن تُصرف له 10 آلاف درهم، ثم قال له مثنياً عليه: ما لها عيب إلا أنها في سوقة، وما كان ينبغي إلا أن تكون في خليفة أو وليّ عهد.

دون أن يدري أن هذا "السوقة" سيغير شكل حياة ابن مناذر للأبد.

«السوقة» الفاتن الظريف

يقول ابن المعتز عن ابن مناذر "كان على ستر وصلاح وحلم ووقار"، إلى أن رأى عبد المجيد الذي كان من أجمل فتيان ذلك الأوان وأأدبهم وأظرفهم، فعشقه ابن مناذر وافتُتن به و"انتهك ستره"، فيما ذكر أبو الحسن التغلبي في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، أن خبر ابن مناذر مع عبد المجيد الثقفي "أوضح من أن يُشرح"، ولذا لا نستغرب أن يرفض إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين، الثقة في نقله للأحاديث، وأن يصفه الذهبي في تاريخ بأنه "لَيْسَ يروي عَنْهُ أحد فيه خير".

ينقل ابن سعد المغربي في كتابه "المرقصات والمطربات" بضع روايات عن شكل توطد العلاقة بين الرجلين، فبعد أن يحكي كيف كان عبدالمجيد على غاية الود لابن مناذر، وكان أبوه لا ينكر عشرته به لأنه لم يكن بلغه عنه ريبة"، يروي أن ابن مناذر خرج يوماً لأداء صلاة التراويح ومن خلفه عبد المجيد فلم يزل يحدثه إلى الصبح وهما قائمان، وإذا انصرف عبد المجيد شيّعه ابن مناذر إلى منزله فإذا بلغه وانصرف ابن مناذر شيعه عبد المجيد إلى منزله، لا يطيب أحدهما نفساً بفراق صاحبه، كما يحكي أنه لما مرض عبد المجيد تولى ابن مناذر أمره بنفسه وكلما سمع تأوهاً منه وضع يده في ماء حار كي ينال مثلما ينال من ألم، ولم ينسَ طبعاً أن ينشد بحقه شعراً مادحاً فقال:

متى إلى الماجد المرجى  عبد المجيد الفتى الهجان

خير ثقيف أبا ونفساً     إذا إلتفت حلقتــا البطــان

نفسي فداء له وأهلي    كــل مــا تملك اليــدان

هذا التحول الخطير في حياته دفع بالمعتزلة إلى محاربته، يقول الأصبهاني: لما عدل ابن مناذر عما كان عليه من النُسك وعظته المعتزلة فلم يتعظ، وأوعدته بالمكروه فلم يزدجر، ومنعوه من دخول المسجد فنابذهم وطعن عليه قائلاً:

يا للقبائل من تميم مالكم   روبى ولحم أخيكم بمضيع

هبوا له فقد أراه بنصركم   يأوي إلى جبل أشمّ منيع

وكان يأخذ المِداد بالليل فيطرحه في مطارحهم، فإذا توضؤوا به سوَّد وجوههم وثيابهم، ويضيف الحكموي في معجمه، إن ابن مناذر كان يُرسل العقارب في مسجد البصرة حتى تلسع الناس.

كما تدخل في هذه الأزمة أبو الصلت شقيق عبد المجيد الذي لم يرقه ما جرى على الألسنة من ميله لأخيه، فهاجمه وشاجره في مسجد البصرة واتهمه بالزندقة، فأخرج من ابن مناذر من جعبة هجائه التي لا تنضب أشعاراً بحقه قال فيها:

إذا أنت تعلقت بحبل من أبي الصلت

تعلقت بحبل واهن القوة منبت

إذا ما بلغ المجد ذوو الأحساب بللت

ولم ينتهِ الجدل حول هذه العلاقة المثيرة للجدل إلا بأمرٍ باتر لا رد لقائه، فبينما كان عبد المجيد يتجول فوق سطح منزله، تردّى منه وسقط على رأسه فمات!

عندما تولى عبد المجيد

حزن ابن مناذر على صديقه الأثير بشدة، حتى سبق أهله وإخوته عليه في البكاء والعويل، وظهر منه من الجزع ما عجب الناس له، ورثاه بعد ذلك بقصيدة شديدة الشهرة بدأت بقوله:

إن عبد المجيد يوم تولَّى     هــدَّ ركنــاً مــا كـــان بالمهدود

ما درى نَعْشُه ولا حاملوه  ما على النَّعش من عفافٍ وجود

تلقفها أهل البصرة بالاستحسان وباتت من أفضل أشعار المراثي في الأدب العربي، ويُروى في "الأغاني" أن أم عبد المجيد لما سمعت قوله في ابنها:

ولئن كنت لم أمت من جوى الحزن   عليه لأبلغن مجهودي

لأقيمن مأتماً كنجوم الليل    زهــراً يلطمــن حــر الخـدود

موجعات يبكين للكبد الحرى   عليـه وللفـؤاد الـعميـد

قالتك والله لأبرّن قسمه؛ فأقامت مع بناتها وجواريها مأتماً راحت تصيح فيه عليه، وقيل إنها أول من فعلت ذلك بالإسلام.

يقول السري الرفاء في كتابه "المحب والمحبوب والمشموم والمشروب"، مرثيته سارت في الدنيا وذكرت في المراثي الطوال الجياد، وهي فحلة محكمة فصيحة جداً.

فيما يضيف الدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي عن القصيدة المكلومة في كتابه "تاريخ الشعر العربي"، أنه أقام الدنيا وأقعدها في هذه القصيدة، فتارة يستكين استكانة اليائس الكظيم أمام جبروت الموت وقسوة الدهر، وطوراً يتأسى بمن هلك من الملوك والحكام، ثم يفيق من هول الصدمة فيعود إلى كارثته الضخمة وخسارته الفادحة.

بعد رحيل عبد المجيد ضاقت أرض البصرة على ابن مناذر بما رحبت، وأيقن أنها لم تعد له وطناً بعد الآن، فرحل إلى مكة وسكن بها حيث أكثر من شعر المجون، ربما كان أكثرها جرأة: "ألا يا قمر المسجد هل عندك تنويل/ شفاني منك أن نولتني شم وتقبيل" وهي التي يصفها صالح علي الشتيوي في بحثه "روافد ابن مناذر الثقافية في شعره"، الذي أقرته كلية الآداب بالجامعة الهاشمية، بأنه ظلَّ على مجونه رغم رحيل عبدالمجيد، وفي هذه الأبيات يتباهي بعشقه للغلمان وهو الداء الذي يبدو أنه لم يبرأ منه حتى مات، فكفَّ لسانه وشعره للأبد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard