شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"يوسف مسجون في مصر ويحلم بالهجرة"... قصص الأنبياء في أفلام داوود عبد السيد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 8 أكتوبر 201902:10 م

يستلهم داوود عبد السيد في الكثير من أفلامه قصص الأنبياء كما وردت في الكتب السماوية، وما يميز هذا الاستلهام عن غيره تركيزه اللافت على الأثر الإنساني الواسع الذي تخلفه القصص في نفوس قرّائها، ويسجلها كخلفية شفافة للأحداث والشخصيات، أو علامة مائية، فهو يعنى بأثر القصة، وليس بالقصة نفسها.

والتفاعل مع قصص الأنبياء لديه هو مجرد وسيلة يمنح بواسطتها القصص الخاصة بشخوصها بعض العمق التاريخي، المرتبط بإعادة إنتاج حكاية الإنسان في أشكال وصور عدة.

مما يجعلنا نطرح تساؤلاً عن الإشارات والعلامات التي تركها داوود عبد السيد في أفلامه لنا، لنستقرئها.

"الكيت كات": يوسف يرفض إغواء مطلّقة

في فيلم "الكيت كات" استدعى المخرج والسيناريست المصري ظلّ قصة يوسف عليه السلام، وذلك عبر التفاعل مع الخيطين الدراميين الرئيسيين في القصة الأصلية، وهما خيطا "الغواية والسجن"، واستطاع الفيلم أن يمنحهما أبعاداً أكثر عمقاً واتساعاً، مع الإشارة اللطيفة المتمثلة في عمى الشيخ حسني "أبو يوسف"، مستلهماً العمى الذي أصاب يعقوب عليه السلام كذلك.

إن الغواية هنا ليست غواية امرأة العزيز، وإنما غواية امرأة فقيرة من حي "الكيت كات" هجرها زوجها، وتعلق قلبها بهذا الفتى الجميل يوسف، وكذلك فإن السجن هنا لم يحضر بشكله المعتاد، وإنما يطرح داود عبد السيد السجن في شكل الوطن، والذي يحلم يوسف بالهجرة عنه بأي طريقة.


والاستقراء السينمائي للقصة -كما قام به داود عبد السيد هنا- ليس قائماً على الإضاءة عليها بحذافيرها، فيوسف الذي كان منقذاً فيما مضى لمصر، أضحى الآن هو من يحلم بالخروج من هذا الوطن، في إشارة إلى أنه ربما أن "السبع العجاف" قد استطالت، ولم يأت العام الذي فيه "يغاث الناس وفيه يعصرون" بعد، فكان حقاً له أن يبتلعه سجن العزيز، المتمثل في اليأس تارة، وفي الكبت تارة أخرى، وفي الفقر على الدوام.

كما يطل الخوف مما يحبه كأحد تجليات السجن، حيث واصلت جدته منذ صغره بتخويفه مما يحب "العزف على العود"، ومن الجمل التالي التي يقولها يوسف، أدى دوره الممثل شريف منير، لفاطمة، للفنانة عايدة رياض، تتضح بعض الخطوط التي استلهمها عبد السيد للإضاءة عليها:

"طول عمري كنت باخاف من المزيكا، وزي ما ستي كانت بتقول.. كان بتقول لي اوعى تمسك العود.. لو مسكت العود، العود جواه عفريت، هيطلع ديله اللي عامل زي التعبان ويلف حوالين رقبتي ويخنقني، ويكتفني ويخطفني جواه، ستي كانت بتقول لي إن العود أكل عقل أبويا وخلاه خدامه.."

رسالة لنبي غير معروف

يطرح دواد عبد السيد تساؤلات من خلال التماس مع قصص الأنبياء، بعضها لمحاولة فهم طبيعة الحياة الإنسانية، فلم يكن اختيار اسم يحيى "المشتق من الحياة" لأبطال أفلام: "أرض الخوف"، "رسايل البحر"، "قدرات غير عادية"، "مواطن ومخبر وحرامي"، محض صدفة، ففكرة الرسالة مرتبطة لديه بالحياة، والقصص التراثي كذلك ينبغي استقراؤه جيداً بغرض فهم تلك الحياة لا أكثر.



وأبرز مثال على ذلك  قصة يحيى في فيلم "رسائل البحر"، التي يناقش فيها فكرة قبول الاختبار، وعموم الرسالة الإنسانية.

يرسل البحر رسالته إلى يحيى الذي لا يتوصل إلى اللغة التي كتبت بها، فربما هي كانت رسالة بالفعل لنبي غير معروف، في إشارة إلى رسالة إنسانية لا ترتبط تجلياتها بلغة أو زمن معين، وربما في إشارة إلى أن لكل إنسان رسالة تصله من الغيب في صور مختلفة.

يختار يحيى، بطل الفيلم، قبول الاختبار من البحر، بعد أن يبلغ منه اليأس مبلغاً كبيراً - في إشارة إلى الحزن والقلق وربما اليأس الذي أصاب أكثر من نبي قبل بلوغه مقام الرسالة- والذي يتضح في الحوار التالي مع البحر مرسل الرسالة، حيث يتكلم بمنطق جهالة الإنسان قبل أن يعلمه ربه، ويتساءل رغبة في تحصيل الحكمة:

"جيت لك وأنا مش محتاج وإدتني رزق، ودلوقت جاي لك وأنا جعان وبتبخل عليا، ده ظلم ده ولا فوضى؟".

الغواية في فيلم "الكيت كات" ليست غواية امرأة العزيز، ولكن امرأة فقيرة، هجرها زوجها، وتعلق قبلها بيوسف، والسجن هو الوطن، الذي يحلم بالهجرة
ما يلفت النظر في توظيف داوود عبد السيد للقصص الدينية هو انتباهه للقيم الإنسانية المركبة، وتخلصه من الطبيعة الوعظية المسطحة، التي تبرز أطراف الخير والشر بشكل واضح وقاطع

وبعد انتهاء النوة المناخية التي تتساوق مع النوة الفكرية بداخل يحيى في مسائل الرزق والقدر والجبر والاختيار، تنحسر المياه، وتسطع الرسالة وتصله رسالة البحر، ونجده في المشهد اللاحق له يبيع إحدى بذلاته التي هي من بقايا حياته البرجوازية القديمة، في إشارة إلى قبوله حياته الجديدة/ الاختبار.

يكمل يحيى الاختبار إلى نهايته، مشتبكاً مع العديد من القيم المستمدة من قصص الأنبياء، مقدماً وجهات نظر أخرى في "قابيل"، وفي مفهوم "العهر"، بجانب اشتباكه المسالم المتعالي على الصغائر مع شخصيات الفيلم بكل تجلياتها، ابتداء من كارلا وجدتها فرانشيسكا، واللتين تنتميان إلى أصول إيطالية كرموز للتركيبة الكوزوموبوليتانية، وصولاً إلى الحاج هاشم ورجاله، كممثلين للتركيبة القائمة على فكرة الاستقطاب الديني، مع الانتباه لدلالات اختيار هذه الأسماء تحديداً، وارتباطها بنهاية الفيلم حيث تتجمع حول المركب التي تقل يحيى ونورا مجموعة كبيرة من الأسماك الميتة والتي كان يصطادها الحاج هاشم بـالديناميت.

إن ما يلفت النظر في توظيف داود عبد السيد للقصص الديني واستدعائه إياه هو انتباهه إلى القيم الإنسانية، وتخلصه من الطبيعة الوعظية المرتبطة بقصص الأنبياء، وتعاليه على كونها قصصاً مسطحة تبرز أطراف الخير والشر بوضوح وحدة، حيث يتعامل مع كونها قصصاً تحمل الكثير من العلامات التي يمكن إعادة قراءتها لاكتشاف زوايا تصويرها لأزمات إنسانية ممتدة.

"أرض الخوف": قتل وتحمل الأمانة

في مشهد لم يخلُ من مباشرة فجّة في فيلم "أرض الخوف"، يقضم يحيى التفاحة بنهم عظيم، إيذاناً بقبول مهمة (أمانة) النزول إلى أرض الخوف، بكل ما تتضمنه من خطايا مثل "القتل، المخدرات، سفك الدماء، اقتراف المعاصي"، تحت اسم آدم، ورغم المباشرة التي تبدو في الحوار وقضم التفاحة، إلا أن المشهد لم يخل من لغة بصرية رهيفة تمثلت في التماثيل التي تجد عناء كبيراً في حمل الطبق الذي يحوي عدداً من التفاح، في إشارة إلى فكرة "حمل الإنسان للأمانة"، وإمعاناً في استنطاق الصورة، ولعل الحوار المصاحب يدعم ذلك:

"- بالنسبة لك هتُودَع وثيقة موقعة من خلال تلاتة في خزانة رسمية مختومة بالأختام الرسمية، تفيد إنك في مهمة رسمية تحت اسم "أرض الخوف" تمتد لنهاية حياتك..

- وإن كل ما ارتكبته من جرايم كان لخدمة الوطن، وده ضمان ليك عشان لو صدر ضدك أي حكم من الأحكام زي الإعدام مثلاً..

-المشكلة الحقيقية يا يحيى إنك مش هتمثل الفساد، ده مش دور على المسرح، دي حياة، انت هتبقى فاسد فعلاً، هتبقى تاجر مخدرات فعلاً، بس في أعمق مكان في عقلك لازم تعرف في النهاية إنك ظابط شرطة.. هتخون وتسرق وتقتل وتسمم المجتمع.."

ولعل اختيار "الخوف" هنا جاء كوصف ملازم للأرض، ما بقيت عليها الحياة، وكذلك فإن الحوار في مجمله يؤصل لما بعده من ارتباط مصير بني الإنسان بعضهم ببعض، معرجاً كذلك على أفكار الجبر والاختيار، ومسائل الخير والشر، وغيرها من المسائل الوجودية التي يبحث فيها العقل البشري منذ نشأته، متناصاً مع فكرة نزول آدم عليه السلام إلى الأرض.

احتفى الفيلم كذلك بالحوار أو المحاججة التي أثبتتها كتب التراث الإسلامي بالحوار الذي دار بين آدم وموسى عليهما السلام، إذ يتكئ عليها في المشهد الذي يعرض الحوار بين آدم الذي بدأ يداخله الشك في حقيقة مهمته، وبين موسى، موظف البريد الذي يتفاعل معه وهو لا يعلم الحكمة النهائية من العملية/ المهمة التي أرسل من أجلها آدم، وفي ذلك إشارة رهيفة من بعيد إلى انتهاء قصة موسى والخضر، والتي أكسبت موسى عليه السلام أنه ليس أكثر من مجرد رسول، وأنه محدود العلم والحكمة مقارنة بالخضر، والذي جاء في تأويل علمه اللدني الكثير من التأويلات، فنجد في الحوار عبارات مثل "أنا مش أكتر من رسول"، و"أرجوك، ما تقوليش عن المهمة أي معلومة، مش مطلوب مني أعرف أي حاجة".

وكذلك شخصية عمر "عزت أبو عوف"، وموقفه من آدم حين انتهاء مهمته، والتي لم يسانده فيها، منطلقاً من الشماتة به لقبوله الأمانة والاختبار، ولكن المشهد كذلك لم يكتف بالإشارة المتوفرة في موقف عمر من آدم، وإنما يقطع بالحوار أن عمر هو معادل موضوعي لإبليس، في أحد وجوهه:

"إنت عامل زي إبليس لما ربنا طلب منه يسجد لآدم، رفض، واتكبر، وبقا شيطان".

"-عارف يا عمر أنا اللي مانعني من قتلك إيه؟ حاجة واحدة بس.. انا مرت عليا لحظات كنت باشك فيها في نفسي: أنا ظابط بوليس ولا بقيت فعلاً تاجر مخدرات؟ الحقيقة إني لسه ع الأقل جزء مني ظابط بوليس.

- يحيى أبو دبورة تاجر مخدرات، لأنك قتلت وتاجر مخدرات.

- إنت عامل زي إبليس لما ربنا طلب منه يسجد لآدم رفض واتكبر وبقا شيطان".

وعلى خلفية خضراء تحيل إلى تصور بدائي عن الجنة، يفترق في نهاية هذا المشهد كل من آدم وعمر، ليصيرا عدوين إلى ما لا نهاية، مروراً قبل ذلك بمحاورة آدم مع شخصية "المعلم هدهد" والتي تحمل شخصيته بعض ملامح سليمان عليه السلام، من الملك الواسع والحكمة والنظر للخير والشر من جهته هو، وصولاً إلى انتهاء المهمة وتعيين "حارس" لآدم، ما يشكل فلسفة الفيلم في النهاية المفتوحة الممتدة بعد انتهاء شريطه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard