شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
في هذا البار يمكنكم أن تقودوا ثورة أو انقلاباً... عن

في هذا البار يمكنكم أن تقودوا ثورة أو انقلاباً... عن "ستيلا" في القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأربعاء 30 أكتوبر 201912:50 م

يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن: "بصحتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها".


لو قُدّر للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أن يحيا بين زُمرة مثقفي مصر في النصف القرن الأخير، سيكون بار "ستيلا" مخزنًا أمينًا لصبّ آلامه وآماله على طاولاته، وكانت ستنشأ بينه وبين زجاجات البيرة بداخله قصة حبّ، بل وسيصبح ذلك البار الودود هو المحطة التي أشار إليها سائق الحافلة، في ردّه على المسافر الذي لا شيء يعجبه كما وصفه الشاعر في قصيدته، مُبشرًا إياه باقتراب الخلاص، صارخًا في وجهه: انتظر الوصول إلى "بار ستيلا"/ وابكِ وحدك ما استطعت!

ذلك التخيل العبثي لرحلة درويش إلى "ستيلا" هو ما كان يدور في ذهني خلال رحلتي إلى البار، ولم يوقظني من غفلتي سوى ضابط الشرطة الذي استوقفني في مدخل شارع "هدى شعراوي"، مُفتشًا في هاتفي عمّا يدلّ على رفضي للنظام السياسي الحالي. حمدت الله على أنني قد حذفت تطبيق "فيسبوك" قبل دخول ميدان التحرير بدقاق، واعتذرت لدرويش عما اقترفتُ من ذنب بتحريفي لقصيدته الشهيرة: سامحني يا درويش، فأنا أيضًا لا شيء يُعجبني!

لو قُدّر للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أن يحيا بين زُمرة مثقفي مصر في النصف القرن الأخير، سيكون بار "ستيلا" مخزنًا أمينًا لصبّ آلامه وآماله على طاولاته، وكانت ستنشأ بينه وبين زجاجات البيرة بداخله قصة حبّ

البلابل تنوح على اثنتي عشرة طاولة

حزن عميق يُخيّم على المكان الضيّق ذو الاثنتي عشرة طاولة، وفي ركنٍ قصيٍ يجلس الزبون الوحيد، السيد علي عبد الواحد، وأمامه ست زجاجاتّ من البيرة المُشّبرة، وعُلبة سجائر ماركة "بوسطن" قليلة التداول في مصر حاليًا، وبين فينة وأخرى ينظر في هاتفه كمن ينتظر شيئًا ولا يأتي. بيدَ أن الرجل صاحب التسعة وستين عامًا فطِنَ بخبرة السنين إلى كوني صحفيًا، فأشار إليّ بيد مُنهكة. أتيته مبتسمًا لأنه وفّر عليّ عناء التحضير لكلمات تُمهّد لإجراء حديث معه.

سحبت كُرسيًا وجلست قبالته، فبادرني: هذه الحانة من نفس عمري تقريبًا. سألني: هل تشرب؟ قلت: لا، فهتف: إذًا، حوارك معي لن يُجدي نفعًا. صمتَ برهة، ثمّ قال: داخلك رجل عجوز، كلّ شيء يدلّ على ذلك؛ كتفاك محنيان هَمًا، وعيناك منكسرتان حُزنًا. في هذه اللحظة كان عم خليل "البارمان" يحوّل محطة الراديو، فصدر عنها صوت فريد الأطرش: "لمين بتضحك يا صيف لياليك وأيامّك؟ كان لي في عهدك أليف عاهدني قدامك/ وكان لي في قلبه طيف يخطُر في أوهامك/ من يوم ما فاتني وراح/ شدو البلابل نواح/ والورد لون الجراح".

السيد علي عبد الواحد لا يشعر بالطمأنينة إلى في "بار ستيلا"، حتى لو كان هو زبونه الوحيد في أكثر ساعاته؛ "الألفة في ذلك المكان نابعة من تاريخه، فهنا جلس الشاعران نجيب سرور، وأمل دنقل، يبكيان على ما فاتهما من مجدٍ يستحقانه في زمانهما. لكن الشهرة التي نالاها بعد وفاتهما هي ما تجعلني أحزن على نفسي، لأنني قد أموت على تلك الطاولة، ولن يتذكرني أحد".

غيرَ أن عم خليل، في الخمسينيات من عمره، شعر بحميمية اللقاء، فاقترب منا، ووقف يستمع إلى شجون السيد عبد الواحد، التي قلّبت عليه مواجعه، فقال: "أبي كان بارمان المكان لخمسة وأربعين سنة كاملة، عاصر خلالها الخواجة اليوناني، مالك المكان، الذي تزوّج من مصرية، وكان ينوي أن يجعله مخزنًا للبيرة، وهو ما يجعل البعض يُطلق على المكان اسم المخزن. أما أنا فعاصرت المالكة الثانية، الابنة إيريني". ثمّ صمت برهة ليتمالك دموعه قبل سقوطها، وهمس بصوت مبحوح: "الخواجة مات، وأبي كذلك، وأنا سألحق بهما... هل سيذكرنا أحد؟!".

الزبائن تنقطع أقدامهم رويدًا رويدًا عن "ستيلا"، إما بسبب التضييقات الأمنية بين الحين والآخر، وإما لأسباب مادية، فزجاجة البيرة  -بحسب تأكيد عم خليل بار مان المكان- وصل سعرها منذ عام  2000 إلى أربعين جنيهًا، بعد أن كانت بستة جنيهات فقط.

مخزن الدموع المحرّض على الثورات

رنّ جرس الهاتف الداخليّ للبار، فانتهزها عم خليل فرصة للهرب من حالة اليأس التي اعترته، لكن صوت الجرس أعادني إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث ذلك التسجيل الوحيد لقصيدة "أميات" للشاعر نجيب سرور، حين قطعه أثناء ترديد أبياتها رنين مماثل، وهو ينوح: "أنا عارف إني هموت موتة ما ماتها حد/ وساعتها هيقولوا: لا قبله ولا بعده/ وبطانة بتقول: يا عيني مات في عمر الورد/ وعصابة بتقول: خلصنا منه.. مين بعده؟".

"ستيلا" من البارات القليلة التي نشأت بعد ثورة يوليو 1952، وارتبط حقيقة بالثورة وبالفكرة الوطنية المصرية، كونه الأقرب إلى ميدان التحرير من ناحية، والأرخص نسبيًا من المطعم الشهير "كافيه ريش" القريب منه

وتحت جدران "ستيلا" الشاهقة، كان المطرب الراحل محمد حمام يبكي على انهيار "بيوت السويس" إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وينوح بصوته الشجي: "يا شمس غيبي ويا مراكب حِلي"، حسبما يؤكد الأديب الراحل مكاوي سعيد، في كتابه "مقتنيات وسط البلد"، مُشيرًا إلى أنه "على رغم صِغر مساحة هذا المكان فإن كل حصوة صغيرة فيه سمعت ورأت كثيرًا مما لم يروِه التاريخ".

بينما خصّص الكاتب محمود خير الله، فصلًا كاملًا لبار ستيلا، في كتابه "بارات مصر.. قيام وانهيار دولة الأُنس"، أسماه "مخزن الدموع والأشرار"، ويقول فيه: "عشتُ دهرًا أنا -وبعض أصدقائي- أظن أن (المخزن) يعني من بين دلالاته الكثيرة، أنه مخزن دموع للمثقّفين، فعلى كثيرٍ من مقاعده ومناضده، جاء المثقفون وبكوا، وقد علِمنا أن الشاعر الكبير أمل دنقل والروائي الجميل يحيى الطاهر عبد الله، جاءا وبكيا فوق هذه المقاعد، وعِشنا إلى أن رأينا صديقهما، الناقد الأدبي المرموق الراحل، فاروق عبد القادر (1939 ـ 2010) تتدلى خيوط الدموع من عينيه على وجنتيه، أيضًا في هذا المكان".

ويصف خير الله "ستيلا" بأنه: "من البارات القليلة التي نشأت وترعرعت بعد ثورة يوليو 1952، وارتبط حقيقة بالثورة وبالفكرة الوطنية المصرية، كونه الأقرب إلى ميدان التحرير من ناحية، والأرخص نسبيًا من المطعم الشهير "كافيه ريش"، القريب منه والذي كان روّاده دائمًا من الكتاب الكبار والمتحققين والأثرياء، بينما كان "ستيلا" ولا يزال، قريبًا من جيوب المثقفين الصغار، وقروشهم المحدودة".

خلف الاثنتي عشرة مائدة في "ستيلا" يمكنكم أن تقوموا بثورة، أو تقودوا انقلابًا، أو تغتالوا من تريدون من رؤساء الجمهوريات

ويتذكر الكاتب الشاب محمد محمد مُستجاب ذكريات والده الأديب الراحل عام 2006، قائلًا: "كان أبي يعشق هذا المكان، يمرّ عليه في ليلة الثلاثاء، يسهر مع أصدقائه، ويلتقي تلاميذه، وفي الختام يحمل بعضًا من الكتب المُهداة له. لم يكن يحبّ مطعم الجروين المرتفعة أسعاره، إلا إذا كان اللقاء حساسًا، أو لأصحاب آخرين، ولم يكن يحبّ (ريش) بعد أن أصبح كغرفة إنعاش لا يوجد به إلا الموتى".

ويشير "مُستجاب" إلى أنه: "خلال هذا المكان الضيق، والذي يصعب عليك أن ترى من بجوارك على المائدة المجاورة، يمكنك أن تتحدث وتثرثر وتتكلم بحرية عن أفكارك أو آرائك، أو مشروعات القادمة".

ويصف حميمية المكان بقوله: "الجميع في بار ستيلا يصير واحدًا، والجميع يلتف حول هذه الزجاجة الخضراء الغامقة، فهذا اللون لن تراه في أيّ مكان آخر؛ لون مميز حمله "ستيلا" بعد أن كان في الماضي بنيًا غامقًا، وخلف الاثنتي عشرة مائدة يمكنك أن تقوم بثورة، أو تقود انقلابًا، أو تغتال من تريد من رؤساء الجمهوريات".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard