شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عن رحلتي إلى ميدان التحرير… لعنة الله على الخوف

عن رحلتي إلى ميدان التحرير… لعنة الله على الخوف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 30 سبتمبر 201905:55 م

الخوف. في بلدي الآن أينما وليت وجهك لن تجد سوى قلوب خائفة. الخوف يسيطر على الجميع، يتملك المشاعر، يحدد خريطة سيرك وأماكن جلوسك ومقابلتك للأصدقاء.

هناك بُقع محرمة، وأخرى يصعب الوصول إليها. أينما توجهت لن تجد سوى زوجة تخشى على زوجها ألا يعود، أو تخشى على ابنها أن يقع في يد عنصر شرطة يفتش هاتفه ويجد منشوراً لا يعجبه فيكون سبباً لوقوعه في متاعب، وأخت تطمئن أن شقيقها وصل إلى بيته بسلام.

حين غادرت عملي الأسبوع الماضي كنت أنا الآخر خائفاً، كأنّ هواء القاهرة الحامض تلك الأيام ينقل إلينا هذا الشعور. حاولت مقاومته. ماذا لو تم توقيفي؟ لن يجدوا في حسابي على فيسبوك سوى بضعة صور لسعاد حسني وأحاديث عادية مع الأصدقاء وقفشات أفلام. لن أُحبس بسبب هذه التفاهات.

أعود وأقول: ماذا لو قرروا احتجازك؟ السيناريو بات معروفاً، الترحيل والضم على ذمة التحقيقات بتهمة إثارة الفوضى أو الانتماء إلى جماعة إرهابية.

لعنة الله على الخوف... خائف من دمعة أمي وحيرة أبي وقلق أصدقائي وقسوة جلادييّ ووحشة السجن وظلم القضاة، خائف من أن أصبح بين ليلة وضحاها مجرماً مُداناً فأفقد كل شيء، خائف من أن أُحرم من كتبي.

أقاوم كل ذلك. سأذهب إلى وسط البلد. فضولي الصحافي دفعني إلى المجازفة، وموعدي الأسبوعي في أحد البارات يستحق المشوار، لكن قبل التحرك هيأت نفسي تماماً لكل الاحتمالات. قبل الميدان بنصف كيلومتر، وجدتهم يفتشون بعض الأفراد. فاجأني أنهم يؤمّنون ميدان التحرير من تلك المسافة. قادني الخوف ولم أدرِ بنفسي إلا وأنا أمسح تطبيق فيسبوك عن الهاتف وأكمل السير براحة أكثر في انتظار ما ستسفر عنه تلك التجربة.

أفراد يرتدون الزي المدني وعربة شرطة فيها شباب وفتاتان تتوارى في أحد الشوارع. صامتاً وفي انتظار الأوامر وقفت، وكعادتي طلبت إبراز هوية مَن يوقفني، فأخرجها لي بضيق نفس قبل أن يطلب مني بطاقة الهوية. أخرجتها ومعها بطاقة نقابة الصحافيين التي تُعدّ سلطة في مثل هكذا أوقات، ومبرراً قوياً لوجودي في قلب الأحداث، لكنه لم يكترث. وضع البطاقتين جانباً، وفتشني جيداً قبل أن يطلب مني هاتفي. نظر في عيني بتحدٍ يوحي بأنني لا يمكنني الرفض رغم كوني صحافياً. أخرجته له وأدخلت رمز الدخول. رحت أتابع عينيه وهو يبحث عن "العلامة الزرقاء التي يتوسطها حرف f. لم يكترث بكل التطبيقات الأخرى، حتى سألني: "هو فين الفيسبوك؟". أخبرته أنني "مسحته"، فردّ: "نعم؟!". قلت له إنني لست من هواة مواقع التواصل الاجتماعي، لكن تلك الكذبة لم تنطل عليه فأوقفني قليلاً وذهب إلى عنصر آخر بدا أنه أعلى منه رتبة ليسأله عن كيفية التصرف في هكذا موقف.

أتاحت لي الوقفة مشاهدة بعض عمليات التفتيش. بجواري فتى يفتشه عنصر شرطة وبعد فحص هاتفه سُئل: "هو أنت بتحب كايروكي ليه؟"، ويقصد فرقة "كايروكي" التي تنتمي إلى الفن المستقل ولها أغاني تطالب بالحرية. رجل الشرطة أكمل بعد أن عجز الفتى عن الإجابة ربما من شدة الخوف: "آه أنت بقى من العيال اللي بتردّد أغاني مطلوب زعيم ويا الميدان، ويا مصر هانت وبانت".

حاولت أن أتدخل لأخبره أن الأخيرة ليست لتلك الفرقة بل لمطرب اسمه مصطفى سعيد، لكني آثرت الصمت بعد أن أكمل رجل الشرطة رحلة البحث في "بروفايل" الفتى الواقف بجواري، ليسأله أسئلة شخصية على شاكلة: "ومين بقى البنت الفلاني؟ة" ليتضح إنه يتفحّص الماسنجر. وقف الفتى يرد بكلمات غير مفهومة حتى سمح له رجل الشرطة بالمغادرة بعد أن تأكد من وجهته.

أما الموقف الذي أنهى وقفتي، فكان وجود فتاة على بعد 10 أمتار تصرخ في وجه عنصر شرطة: "أنت ازاي تدخل على الماسنجر؟ أنت قليل الأدب". وبدا أنه سمح لنفسه بالاطلاع على أسرار الفتاة، ما دفع بضابط إلى إنهاء الأمر فوراً والسماح لها بالعبور، وهو أيضاً مَن أعطاني بطاقتيّ بعد أن توترت الأجواء بسبب صراخ الفتاة، وتركني أعبر إلى ميدان التحرير.

كوبري قصر النيل الذي لا يخلو من العشاق، حتى في أصعب الظروف، وجدته فارغاً على الجانبين. لا أحد يعشق وهو خائف. الحدائق والنوادي النيلية فارغة، والميدان هادئ تماماً إلا من السيارات التي تعبر سريعاً.

نُحبس على يد أفراد يرتدون زياً مدنياً وينتشرون في الشوارع وأمام محطات المترو، فقط يبرزون هويتهم التي تعطيهم الحق في كل شيء من أجل حماية الحاكم
كوبري قصر النيل الذي لا يخلو من العشاق، حتى في أصعب الظروف، وجدته فارغاً على الجانبين. لا أحد يعشق وهو خائف

لدي معلومات مسبقة عن أفراد شرطة يتمركزون في بعض المناطق، مثل ميدان عبد المنعم رياض وطلعت حرب والإسعاف، وهي كلها مداخل لميدان التحرير. وحين وصلت إلى ميدان طلعت حرب كنت على موعد مع تفتيش ثان، لكنه هذه المرة أقل حدة. لا أعرف هل هذا بسبب هويتي الصحافية أم لأنني وصلت إلى هذا المكان أصلاً. فتشني عنصر الشرطة وطلب مني الهاتف وقبل فحصه أخبرته أنني لا استعمل "فيسبوك"، فتأكد من ذلك وضحك قبل أن يقول: "صحافي بقى وواخد احتياطاتك"، وتركني أتجوّل في الميدان. بجواري فتى يسأله شرطي: لماذا يشترك في صفحة "كوميكس" تنتقد الوضع السياسي، وتعرّض للتوبيخ من أجل ذلك ولم أعرف هل تركوه أم لا.

في نصف ساعة من التجوال، شاهدت الشوارع فارغة، المقاهي مغلقة، أفراد المباحث منتشرون على المداخل. كثيرون يتم توقيفهم وتفتيش هواتفهم ومناقشات كثيرة وحيرة أمام توقيف بعض الأفراد واحتجاز آخرين.

هذا هو الميدان، قبلتنا الأولى للمطالبة بالحرية، بات خاوياً على عرشه، أين روحه، سكانه، رواده، عشاقه؟ لا شيء. كأنه اقتطع من مصر وبات دخوله يحتاج كل تلك الإجراءات المعقدة. لولا تماسك مبانيه لشعرت أنه أصبح مكاناً من تلك الأماكن التي قصفتها الطائرات فلم تترك فيها أحداً. كثير من المحلات مغلقة، وقليل من المارة يهرولون للخروج من المكان.

لا ليس احتلالاً ما نعيشه. ليس هناك جنود يحملون أسلحتهم ويتكلمون بلكنة لا نعرفها ولا يقدسون حقاً أو ديناً. ليس هناك حالة حرب أو حظر تجوال. نعيش ما هو أفظع، نُحبس على يد أفراد يرتدون زياً مدنياً وينتشرون في الشوارع وأمام محطات المترو، فقط يبرزون هويتهم التي تعطيهم الحق في كل شيء من أجل حماية الحاكم: التفتيش، فرز الهاتف، الاطلاع على كل أسرارك عنوة، وفي النهاية فإن القرار لن يتعلق بما شاهدوه بل بما يريدونه.

حين غادرت الميدان شعرت أنني نجوت، بين كل خطوة وأخرى كان يمكن أن يُزج بي في السجن، وبين كل عسكري وعسكري هناك عسكري يراقبك. أسترجع أحداث رواية 1984: الأخ الكبير يراقبك أينما كنت. نعم، يراقبنا ويفحص هواتفنا.

أحزن على وسط البلد. بالأمس كنا نقول: "وحشتني وسط البلد من غير حواجز". ليت الأمر توقف عند الحواجز والبوابات الحديدية، ليته توقف عند وضع بضعة أحجار وإغلاق شوارع. لكن الميدان بات محرّماً وبات الوصول إليه يستحق أن يروى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard