شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"كانت الأعراف هي الدين بالنسبة لنا"... وشوم الجدات الليبيات صارت "حراماً وعيباً"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 31 أغسطس 201903:48 م

بين وجوه الجدات وأجسادهن المزيّنة بالوشوم التقليدية وبين ترهيب أمهات اليوم لبناتهن من الوشم تحت مسميات الحرام والعيب والقرف يكمن كل التضاد الثقافي والمجتمعي الذي باتت تعيشه المجتمعات المتوسطية والشمال أفريقية.

اعتقدت قبائل ليبية كثيرة، وخاصة تلك التي أقامت في مناطق معينة من جبل نفوسة (غربي طرابلس)، أن الوشم يُبعد أي أذى قد يحل بالمرأة الحامل وجنينها، ولجأت نساء جبليات لوضع الوشم أثناء فترة حملهن باعتباره جالباً للحظ ودافعاً للأذية.

وقد بقي النظر للوشم فترة طويلة باعتباره عادة حميدة ووسيلة تجميل رائجة، إلا أن تغير المجتمع وثقافته الطاغية التي بدأت تشدد على الفرق بين العادات والدين لمصلحة الأخير دفع بكثيرات إلى الندم، ومحاولة إزالة الوشوم من على وجوههن وأذرعهن ومناطق أخرى من أجسادهن.

وبدأت الوشوم القبلية تُحاط بالريبة والاضطراب، حتى أن بعض العائلات التي تنتمي لقبيلة العربان بدأت بالاعتقاد أن الوشوم يتبعها "سقوط رقبة" أي موت أحد أفراد العائلة، في حين أصرت قلة من النساء على الاستمرار في وشم وجوههن من دون الاكتراث للاعتقاد السائد، على اعتبار الوشم سمة جمال تضيف لهن جاذبية من نوع فريد.

الوشم بين الحاجة مفيدة وجيجي 

الحاجة مفيدة أحمد (اسم مستعار)، تبلغ من العمر اليوم 70 عاماً، وهي من سكان منطقة العربان- جبل نفوسة.

أخيراً، أقدمت الحاجة مفيدة على إزالة الوشم من على جسدها، معلّلة ذلك بأن "الصحوة الدينية هي السبب، وأن العادات الليبية القديمة تتعارض مع قيم الإسلام الحنيف، وبالتالي يجب الامتثال لقيمنا الدينية".

تقول الحاجة مفيدة: "كل زمن يتميز بشيء ما ونحن كنا جاهلين تفاصيل الدين ومحظوراته، فكل ما كان يُروّج في تلك الفترة نقدم على فعله من دون الرجوع إلى خلفيته الدينية إذ كانت الأعراف هي الدين بالنسبة لنا، وهذا بالطبع خطأ كبير".

صورة تعبيرية

لم تكتف الحاجة مفيدة وحدها بإزالة وشومها بل حاولت إقناع صديقاتها أيضاً بحرمة أجسادهن على الجنة وهن موشومات، فأصبحت جلسة إزالة الوشم جماعية.

أما اليوم، وعند زاوية تلتقي فيها الجالية الليبية في تونس، كان اللقاء مع فتاة ترى نفسها مسحورة بالوشوم (التاتو) على جسدها الذي تعتبره ملكاً لها وحدها دون إعارة أدنى اهتمام لما تقول إنه بات أعراف مجتمعية مقدسة.

هي جيجي الرمحي (23 عاماً) من مدينة بنغازي ومقيمة في تونس، تعمل مذيعة ديجيتال ولديها شغف واضح بالوشم في أماكن متنوعة على جسمها.

تعتبر جيجي أن التاتو يجعل من الجسد قيمة مميزة وطبعة خاصة تعكس سيكولوجية الإنسان الداخلية ومراحل نضوجه المختلفة.

تقول: "عام 2015، بدأت برسم التاتو الأول على جسدي على شكل قطة جالسة تُعبّر عن حالة اكتئاب ولامبالاة كنت أمر بها"، مضيفة: "التاتو بالنسبة لي ليس مجرد ممارسة أوراسية قديمة أو رسم تجميلي وُضع بشكل عشوائي لينال إعجاب الآخرين، بل هو نوع من الفنون التي تُثري الروح والجسد وبقية الفنون الأخرى".

في بادئ الأمر، كان رد فعل عائلة جيجي قاسياً، إذ قوبل قرارها بالوشم باستهجان والدتها وأخيها على وجه التحديد.

تعتبر جيجي أن خلفية أخيها السلفية التي سمحت له بتوجيه موجة من التحريمات المباشرة لها واعتبارها شخصاً محروماً من دخول الجنة كانت الحافز الأول الذي جعل منها تصر على قرارها أن الجسد حرية وملكية فردية ولا يسمح لأحد آخر إطلاق أحكام مسبقة على صاحبه أو من خلاله. مع ذلك، اضطرت جيجي آسفة إلى أن تلجأ للكذب.

"عندما وجدت أن رد الفعل قوياً داخل بيتنا حاولت أن ألجأ للكذب، فقلت لهم إن هذا التاتو مؤقت وسيختفي مع مرور ستة أشهر، لكن بعد انقضاء المدة علموا أنني أكذب عليهم، وهذا ما اضطرهم إلى تقبل الأمر بصعوبة"، كما تقول جيجي التي تُضيف أن جوابها لهم كان: " لو تقبلتم أو لم تتقبلوا هذا التاتو، فهو لن يزول في الحالتين... لذا تقبلوه أفضل لنا كلنا".

أقدمت الحاجة مفيدة على إزالة الوشم من على جسدها، معلّلة ذلك بأن الصحوة الدينية هي السبب، وأن العادات الليبية القديمة تتعارض مع قيم الإسلام... وشوم الجدات التي كانت معياراً للجمال تحولت إلى "عيب وحرام" يُطارد شابات ليبيات 
لفترة طويلة، بقي النظر للوشم كعادة حميدة ووسيلة تجميل رائجة، إلا أن تغيّر المجتمع الذي بدأ يشدد على الفرق بين العادات والدين دفع بكثيرات إلى الندم... نساء ليبيا والوشوم بين عادات الجدات وترهيب الحفيدات 

بنوع من السخرية، تعترض جيجي على مجتمع اليوم الذي بات ينفر من كل شيء لا يشبهه متجاهلاً دلالاته التاريخية والثقافية التي تعكس معارف مجتمعية راسخة، موضحة أن جدتها وعمتها والكثيرات من كبار السن من السيدات في محيطها لديهن الوشم الليبي التقليدي الذي كان سمة للجمال والزينة في حقبة زمنية سابقة.

هؤلاء السيدات، وفق جيجي، بتن يبررن وشومهن بجهل تلك الحقبة بالدين الذي يحرم ويحظر هذا النوع من التجميل على الأجساد.

تتحدث جيجي عن وشوم جسدها الحالية وهي ثلاثة، ثم تؤكد أنها لن تتوقف عندها بل ستعمل على توثيق كل فترة عمرية أو لحظة معينة تعيشها برسم تاتو يعبر عنها، برغم أن "آخر تاتو على فخذي إلى الآن لم تره أمي ولا أدري كيف ستكون رد فعلها".

صورة تعبيرية

تعترض جيجي على نظرة العديد من الرجال للفتيات اللواتي لديهن وشم على أجسادهن باعتبارهن "فتيات منحلات ومتسيبات وليس وراءهن رجال"، وتقول: "لا تهمني نظرة الرجال أو حتى النساء لي، فأنا لا يخجلني تماماً أن أُري وشمي للجميع، حتى التلميحات التي غالباً ما يرميها البعض لي لا تهمني... هذا جسدي وليس جسدهم، أليس كذلك؟".

"بنت الناس لا تضع وشماً"!

"أعتبر الوشم أيقونة الأجساد الجاذبة للأنظار، فكم من ناس ألتقيهم تكون وشومي هي الجاذبة لهم"، هكذا بدأت سارة جمال (25 عاماً)، خريجة الأدب الإنكليزي من مدينة بنغازي حديثها.

واجهت سارة بعض التعليقات السلبية من أقارب وصديقات نعتن وشومها بالمحرمة دينياً والقبيحة شكلياً وغير المقبولة اجتماعياً، فبرأيهن "الفتاة المحترمة لا تلجأ لأساليب تجميلية سافرة كهذه"

تقول سارة: "القرآن لم يذكر نصاً واضحاً وتحريماً قطعياً بالوشم، أما بخصوص الحديث الشريف لعبد الله بن مسعود والذي قال فيه (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ : إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ ، فَقَالَ : وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) فهو حديث ضعيف.

تستطرد سارة متسائلة: "لماذا لعن الحديث النساء الموشومات فقط ولم يلعن الرجال الموشومين؟ هل نحن فقط من نُلعَن في هذا الأمر والرجال مستثنون! ما الدلالة التي يود الحديث إيصالها لنا؟".

واجهت سارة بعض التعليقات السلبية من أقارب وصديقات نعتن وشومها بالمحرمة دينياً والقبيحة شكلياً وغير المقبولة اجتماعياً، فبرأيهن "الفتاة المحترمة لا تلجأ لأساليب تجميلية سافرة كهذه".

تقول سارة: "هناك من كان لديه رد فعل إيجابي من محيطي ولكن في المقابل هناك كثيرون يعتبرون أن الموشومة لن يرضى بأن يتزوجها أحد، ومن هؤلاء والدي الذي يعتبر الوشم على جسدي علامة غير مقبولة لدى الرجال ولدى أي شريك يود الارتباط بي مستقبلاً".

لاقطة الأحلام

لدى سارة سبعة وشوم متنوعة على ظهرها وكتفها وساقها ويديها، وتصف كل واحد منها على حدة وكأنه أحد أبنائها.

تعتبر سارة أن الوشم وسيلة كتابية للتعبير عن شخصيتها وعن مراحل مفصلية في حياتها، فتبدأ باسم والدتها الذي وضعته على كتفها تخليداً لدورها الأهم في حياتها، ومن ثم تستعرض بعض الوشوم على كفها وإصبعها كنوع من التوثيق لمرحلة عمرية ما مرت بها، كما يحمل ظهرها وشماً اعتبرته الأكثر مميزاً في جسدها وهو وشم لاقطة الأحلام (Dreamcatcher) الذي يستفز الكثيرين للسؤال عن جمال تصميمه وروعة اختيار وضعه على جسدها.

صورة تعبيرية

صورة تعبيرية

يضع الكثير من الناس أحكاماً مسبقاً على الأشخاص الحاملين وشوماً على أجسادهم وكأنهم آتون من الشارع ولا عائلة لهم، وهو ما تؤكده سارة بالقول إن "عقلية الغالبية الساحقة من المجتمع الليبي لا تزال تحكم عليك من مظهرك إذا كان لديك وشم أو مجموعة من الأكسسوارات على أنفك أو حاجبك أو لمجرد أنك اخترت شكلاً أو مظهراً خاصاً بك لا يؤذي أحداً ولا يتسبب في إزعاج"، متسائلة: "لماذا تكون الغلبة لتلك الصورة الأحادية غير المبنية على حقائق، وهي أن الموشومين متفلتون من قيم أهلهم وذويهم؟".

وبالعودة إلى الجانب الديني في المسألة، تجدر الإشارة إلى أنه بالأمس القريب ظهر أحد علماء الأزهر ليُبيح رسم الوشم على الجسد بتقنية "المايكرو بليدينغ" التي تتعامل مع الطبقة الثانية أو الثالثة من الجلد ولا يتم فيها غرز الإبر حتى ظهور الدم، وهو ما كان قد أشعل مواقع التواصل الاجتماعي التي تفاوتت تعليقاتها بين رافض هذا التصريح -برغم محدوديته- وبين مهللٍ وسعيد بهذا الأمر الذي يعتبر خطوة سابقة لدى المؤسسات الدينية في الحيلولة دون ردع الحريات الفردية والقرارات الشخصية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard