شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
وصلت الأوامر فتغيرت البوصلة... جولة على أداء الإعلام المصري منذ اللحظة الأولى للانفجار

وصلت الأوامر فتغيرت البوصلة... جولة على أداء الإعلام المصري منذ اللحظة الأولى للانفجار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 6 أغسطس 201912:30 م
Read in English:

The Orders Were In and the Story Was Altered… a Roundup of Egypt’s Media Handling of the Latest Explosion

حينما تقع أحداث جسام تكون الدولة - أي دولة - هي صاحبة الرواية الرسمية (هذا لا خلاف عليه)، لكن هناك فرقاً كبيراً بين أن تكون الدولة صاحبة الرواية الرسمية وأن تكون السلطة هي صاحبة الصوت الأوحد.

في البلدان التي تحترم مواطنيها وحقهم في المعرفة، يصدر فور حدوث أية أزمة بيان رسمي من السلطة، تُعرض فيه المعلومات المتاحة، وعلى خط موازٍ تتحرك الصحافة بحرية تامة للبحث والتحليل والرصد.

أما في بلاد الصوت الواحد، فالنظام هو صاحب الرواية، وصاحب الصحافة، وصاحب الشاشات وهو اللاعب والحكم والجمهور، وهنا تختلط المعلومة بالتكهن والحقائق بالشائعات ويُترك المجتمع فريسة للخوف والتلاعب.

ما شهدته مصر في الـ24 ساعة الماضية عقب الحادث الذي وقع قرب معهد الأورام، وسط القاهرة، هو نموذج واضح للحالة الثانية، إذ طغت الضبابية على الموقف.

انفجار لا أحد يعلم سببه

عند الساعة الحادية عشرة ونصف من مساء الأحد الماضي، سُمع دوي انفجار هائل وشوهدت ألسنة اللهب تتصاعد من معهد الأورام في وسط القاهرة. انتشر الخبر أولاً على صفحات التواصل الاجتماعي مصحوباً بتساؤلات عن ماهية ما حدث، وتكهنات هنا وهناك في ظل غياب المعلومات.

أول تغطية إعلامية للحدث نشرها "موقع القاهرة24"  عند الساعة 11:50، أي بعد عشرين دقيقة من وقوعه، وكانت بعنوان "حريق بالمعهد القومي للأورام... وسماع دوي انفجار شديد"، مصحوبة بتعليق "ورجح شهود العيان أن السبب هو انفجار في أسطوانات الأوكسجين الخاصة بالمعهد".

بعد عشر دقائق من هذه التغطية، نشر "موقع الفجر" الخبر تحت عنوان "حريق بالطابق الثاني في معهد الأورام"، وفي متن الخبر كتب أن سبب الحادث انفجار أنبوبة أوكسجين داخل المبنى.

وظهرت الدولة بشكل رسمي ممثلة بوزارة الداخلية في الساعة 1:10 ليلاً، عبر بيان رسمي للوزارة قالت فيه: "مساء اليوم 4 الجاري وحال سير إحدى السيارات الملاكي المسرعة عكس الاتجاه بطريق الخطأ بشارع كورنيش النيل أمام معهد الأورام بدائرة قسم شرطة السيدة زينب، اصطدمت بالمواجهة بـ 3 سيارات، الأمر الذي أدى إلى حدوث انفجار نتيجة الإصطدام، مما أسفر عن مصرع وإصابة عدد من المواطنين، تم نقلهم للمستشفى لتلقى العلاج… وتم اتخاذ الإجراءات القانونية".

صحيح أن البيان أتى بعد ساعة وأربعين دقيقة من التفجير لكن لا يُعد ذلك تأخيراً مهولاً، إذا أخذنا في الاعتبار أن الوزارة أرادت التأكد ودراسة الوضع قبل الإعلان عنه. البيان المقتضب لم يكشف عن الكثير، لكن بشكل عام لا يمكن وصفه بالسيء باعتباره بياناً أولياً سوف تتبعه بيانات أخرى كاشفة أكثر.

في بلاد الصوت الواحد، النظام هو صاحب الرواية، وصاحب الصحافة، وصاحب الشاشات وهو اللاعب والحكم والجمهور... ساعات طويلة من التخبط والتضليل عاشها الإعلام المصري إثر حادث الانفجار قرب معهد الأورام
"انفجار معهد الأورام يصيب الصحافة المصرية بإغماء مؤقت"... من "حادث مروري" إلى "حادث إرهابي"، وصلت الأوامر فتغيّرت البوصلة. هنا جولة على أداء الإعلام المصري منذ اللحظة الأولى للانفجار

في المقابل، يمكن رصد ما تبع البيان من تعليقات تكشف حجم انعدام الثقة بين المواطنين ووزارة الداخلية، إذ أتت غالبيتها مشككة في صدق رواية الانفجار الناتج من اصطدام سيارتين.

يمر الوقت والوزارة لا تجيب عن تساؤلات المعلقين، ولا تُصدر تفاصيل أكثر عن الحادث، معطية مساحة لمزيد من الاستهجان والتشكيك على وسائل التواصل الاجتماعي.

وبين البيان المقتضب والتعليقات المشككة، تعطلت ماكينة الإعلام عن تغطية الحدث تغطية حقيقية. اكتفت الجرائد القومية بإذاعة البيانات، وتعاملت الجرائد الخاصة (المملوكة للأجهزة الأمنية) مع الحدث بمنطق رصد عدد المصابين حصراً، بينما مواقع جرائد، مثل "الأهرام أونلاين" الذي يُفترض أنه أُنشئ ليكون المصدر الأساسي للمعلومات عن مصر للناطقين بالإنكليزية، تجاهلت الحدث تماماً، كأنه لم يحدث.

أداء الصحافة المصرية كان مكبلاً على نحو دفع عضو مجلس نقابة الصحافيين هشام يونس لأن يصف أداءها قائلاً: "انفجار معهد الأورام يصيب الصحافة المصرية بإغماء مؤقت".

وإذا وصفنا التغطية الصحافية للحدث بالسيئة من حيث غياب المعلومة الوافية، فعلى شاشات التلفزة كان الوضع كارثياً، وبرغم أن مصر تمتلك قناتين إخباريتين هما "النيل للأخبار" و"إكسترا نيوز"، لم يجد المشاهد المصري عليهما ما يتابعه فتوجه للقنوات العربية ليعرف ماذا يحدث في بلاده، وهو ما دفع إعلامياً مثل محمد الباز (وهو مقرّب من الدولة) لانتقادها عبر برنامجه "تسعين دقيقة" قائلاً: "هما غلطانين آه غلطانين".

صدرت الأوامر… فتغيرت البوصلة

طوال نهار الاثنين، استمر الوضع على ما هو عليه. الرواية الرسمية تؤكد أن الحادث تم نتيجة تصادم بين سيارتين، وصفحات التواصل الاجتماعي تعلو فيها نبرة التشكيك في الرواية، والمواقع والقنوات ملتزمة النص حتى الخبراء الذين حلوا ضيوفاً في المحطات الدولية التزموا الرواية نفسها، ومنهم مدير "مركز الدراسات العربية" العميد سمير راغب الذي تحدث عبر شاشة "بي بي سي" ولم يشكك لحظة في أنها حادثة تصادم.

لكن!

في الساعة الرابعة والنصف انقلب الوضع 180 درجة، بعدما تقدم الرئيس عبدالفتاح السيسي عبر حسابه الرسمي على تويتر "بخالص التعازي للشعب المصري ولأسر الشهداء الذين سقطوا نتيجة الحادث الإرهابي الجبان في محيط منطقة القصر العيني مساء الأمس".

وبفارق دقيقتين عن تدوينة الرئيس، أصدرت وزارة الداخلية بياناً جديداً أعلنت فيه أنه حادث إرهابي، تم بواسطة سيارة مسروقة قبل بضعة أشهر، متهمة "حركة حسم"، التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين"، بالوقوف وراءه.

هنا تغيرت البوصلة تماماً، وبعدما كان الحديث منصباً على "حادث التصادم" أصبح عن "الإرهاب وجماعة الإخوان"، ولم تمض ساعات قليلة حتى انطلق هاشتاغ "#الإخوان يفجرون معهد الاورام" الذي سرعان ما أصبح "ترند".

وإذا كان التعامل مع بيان الداخلية الأول ممكناً باعتباره مقبولاً مرحلياً، فالبيان الثاني فتح الباب لأسئلة أوسع وأخطر، خصوصاً في ما يتعلق باتهام "حسم"، فالسؤال أصبح: إذا كنتم بعد بضع ساعات لم تتيقنوا هل هو حادث إرهابي أم تصادم، فكيف بهذه السرعة حسمتم أمركم بتحديد الجاني؟ وإذا كنتم تعلمون من البداية بأمر السيارة فلماذا لم توقفوها؟

حادثة معهد الأورام تكشف بوضوح للمرة المليون، أننا إزاء فشل تام في تغطية الأحداث، ليس بسبب ضعف إمكانات الصحافيين أو بلادتهم، لكن لأن الجميع أصبحوا ينتظرون الأوامر.

هذا التحول المفاجئ في المواقف دفع مدير تحرير جريدة "الشروق" محمد عبد الحفيظ للتعليق قائلاً: "18 ساعة من التخبط والتضليل المتعمد للرأي العام".

المفاجأة كانت أن حركة "حسم" أصدرت بياناً نفت فيه علاقتها بالحادث، مؤكدة "نهج الحركة الثابت في صيانة دماء المصريين والتشديد على عصمتها". 

وسواء كانت "حسم" وراء الحادث أم لا، فالسؤال الذي يعنينا هو كيف تدير الدولة المصرية ملفها الإعلامي، وتحديداً في حوادث مماثلة؟

نظرياً، فلسفة النظام هي إحكام القبضة على وسائل الإعلام ليتمكن من توجيه رسالته، ومواجهة "أعداء الدولة"، لكن عملياً يظهر أن الجمهور انصرف تماماً عن هذه الوسائل ولم يجد ملاذاً يعرف منه أخبار بلاده إلا إعلام من يحاربهم النظام بالأساس.

حادثة معهد الاورام تكشف بوضوح للمرة المليون، أننا إزاء فشل تام في تغطية الأحداث، ليس بسبب ضعف إمكانات الصحافيين أو بلادتهم، لكن لأن الجميع أصبحوا ينتظرون الأوامر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard