شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن تعريف التحرّش الجنسي… التحجّج بالجهل تبريراً لانتهاك أجسام النساء

عن تعريف التحرّش الجنسي… التحجّج بالجهل تبريراً لانتهاك أجسام النساء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 31 يوليو 201901:11 م

في نشاطنا النسوي على الفضاءات الرقمية المختلفة، نسمع عباراتٍ مثل: يجب على النسويات توضيح معنى التحرّش الجنسي. نتمنى أن توضّح النسويات آليات التعامل مع وقائع العنف الجنسي. لماذا لا تشرح لنا النسويات الفرق بين التحرّش والملاطفة؟ يجب أن تُحدّد لنا النسويات مفهوم القبول. ندعو النسويات لإصدار أوراقٍ تعريفية عن كذا. نطالب النسويات بتشكيل لجنة تحقيق في واقعة كذا....

وفجأة تتحوّل النسوية من فرعٍ متخصصٍ من العلوم الإنسانية له نظرياته وإسهاماته، إلى عبءٍ أخلاقي يُضاف إلى النساء اللاتي يُعرِّفن أنفسهن بالنسوية باختلاف مدارسها. فجأة يصبحن مُلزمات بتوصيف كذا، والبحث عن كذا، ووضع آليات لكذا، ومسؤولات مسؤوليةً كاملة عن أي شيء يخصُّ النساء. يتجاوز ذلك حدود العبء الإضافي والإلزام، ويُجبر النسويات على بذل مجهودٍ فكري ويضعهن تحت طائلة الوصم إن لم يلتزمن به. أما المجهود الذي هن مُطالبات ببذله، فيعتمد بشكلٍ رئيسي على مشاعر هؤلاء النساء وشعورهن بالمسؤولية الأخلاقية تجاه نساء أخريات، وتجاه التغيير الاجتماعي الذي يرجونه، فيتحوّل إلى ابتزازٍ للنساء باسم النسوية. ابتزاز يحمل في طياته تأديباً اجتماعياً على اختيار النساء للنسوية، وكأنه منصب عام له مسؤولياته، ويحق للآخرين فرض مطالبهم من خلاله.

دائرة مُفرغة وتهميش مزدوج

لا نسمع تلك الجمل وهي تتوجّه لليسار بمختلف أطيافه، ويطالبهم الآخرون بتوضيح معنى الرأسمالية، وتعريف الصراع الطبقي مراراً وتكراراً دون أن يحق لهم التأفف أو الشعور بالملل. يبدو أن الصراع الطبقي لا يحتاج إلى تعريف، فهو أمر بديهي، حتى أنهم لا يُرهقون اليسار بتعريفه، لأنه كما يبدو أيضاً، لليساريين أشياء "أكثر أهمية" يحتاجون إلى طاقتهم للتركيز عليها. بينما النسويات لا يشغلهن شيء، وليس لديهن أشياء أكثر أهمية يحتجن للتركيز عليها، إلا هؤلاء الذين يسألونهن بتكرارٍ مُملٍّ عن معنى القبول، أو تعريف التحرّش الجنسي.

في هذا التصوّر يعتبرون النساء وقضاياهن أشياء لا تُقارن بصراعات فئات أخرى ضد السلطوية. لذا، يحتاج العنف الجنسي إلى تعريفٍ مستمرٍّ لا ينتهي، ليصبح التحجّج بالجهل تبريراً لاستباحة أجسام النساء.

يبدو أن ما يحدث من انتهاك لأجسام النساء هو أمر غير بديهي، ويستدعي تكرار التعريفات في كل مرة، وكأننا في مدرسةٍ لا ينجح فيها الطلاب ولو لمرة واحدة في الفهم أو حتى التذكُّر. يبدو أن النسويات لديهن وقت كافٍ لإعادة التعريفات مرة تلو الأخرى، دون أن يحق لهن التأفف والتعبير عن الملل والاستنزاف المستمر.

تلك الدوامة تسحق النساء وتسحق النسويات منهن، بحيث يصبح الاختلاف على تعريف العنف الجنسي، دون وضع فردية كل موقف نصب الأعين، هو محور الاهتمام بدلاً من فعل الانتهاك نفسه، ما يضمن وجود مخرجٍ آمن للمعتدين المحتملين.

 تُعتبر النساء وقضاياهن أشياء لا تُقارن بصراعات فئات أخرى ضد السلطوية. لذا، يحتاج العنف الجنسي إلى تعريفٍ مستمرٍّ لا ينتهي، ليصبح التحجّج بالجهل تبريراً لاستباحة أجسام النساء

هؤلاء المطالِبون بإعادة تعريف التحرّش الجنسي في كل مرة، لا يتكبدون عناء البحث عن معنى التحرّش الجنسي حتى في محرك البحث "غوغل"، ليعرفوا الجهد المبذول من نسوياتٍ مستقلات، ومنظماتٍ نسوية، ومنظماتٍ حقوقية عالمية، في تعريف العنف الجنسي، بما في ذلك التحرّش الجنسي والاغتصاب. على مستويات محلية وإقليمية ودولية، هناك أوراق تعريفية وتقارير وأبحاث صدرت ومنشورة بالفعل، ويمكن لأي شخص الرجوع لها بما أنها مازالت متاحة على الإنترنت. ولن أقول يجب عليهم قراءة الأدبيات والجدليات النسوية، لأنها ليست متاحة للجميع حتى على الإنترنت، بما أنها في سياق أكاديمي، كما أن اللغة قد تُشكّل عائقاً في الإتاحة. وهذه أمور أدركها كنسويةٍ وكأكاديميةٍ وكناشطة. لكن ما الذي يعوق استخدام غوغل والبحث من خلاله وقراءة ما يظهر في نتائج البحث والمقارنة بين هذا التعريف وذاك، أو نقد هذه الجدلية أو تلك؟ في رأيي، ما يعوق ذلك هو التعمّد والقصد في إرهاق النسويات بإلزامهن بإعادة تعريف معنى العنف الجنسي، وكأننا في روضة أطفال، يجب علينا أن نجري وراء كل طفل لنتأكد أنه مضغ طعامه جيداً، واستقر في معدته.

هؤلاء لن يتفوّهوا بكلمةٍ عن الماركسية لو أنهم على أقل تقدير، لم يبحثوا عن معناها في "ويكيبيديا"، يرجع ذلك إلى أنهم يحترمون الماركسية، ويفهمون جيداً أن هناك من سبقهم في التساؤل والطرح والجدل. بينما يتصورون النسوية كوجهة نظر، يحق لأي شخص أن يصيغ وجهة نظره دون الرجوع إلى وجهات نظر مُصاغة بالفعل، وبغض النظر عن الكم الهائل من الجدليات والأطروحات الخاصة بوجهة النظر هذه.

وفي هذا التعمّد والقصد، تهميش آخر للنساء وقضاياهن، كأن كل ما يخص النساء هو شيء ثانوي، غير هام، وغير جاد.

وقائع العنف الجنسي نسبية، ونسبيتها تختلف وفقاً للأشخاص المتعرّضات/ين للموقف، علاقات القوة بينهن/م وبين المعتدين، والسياق الذي وقعت فيه، لكنها ليست نسبية في تصنيف الفعل أهو تحرّش أم لا، لأن هذا التصنيف نفسه يرجع إلى الأشخاص الذين اختبروا الواقعة، وأغلبيتهم من النساء. فيحق لهن تأويل الفعل وفقاً لما شعرن به، وفقاً لخبرتهن الشخصية، ووفقاً للسياق العام الذي يُقرّ بأن العنف الجنسي واقع متكرّر يومياً، وتكون عبارات واستنكارات فيسبوك ليست إلا استيلاء على حق النساء في تصنيف فعل اختبرنه بأنفسهن، وتصميم على تهميش النساء وسحق أصواتهن.

يبدو أن ما يحدث من انتهاك لأجسام النساء هو أمر غير بديهي، ويستدعي تكرار التعريفات في كل مرة، وكأننا في مدرسةٍ لا ينجح فيها الطلاب ولو لمرة واحدة في الفهم أو حتى التذكُّر

وقائع العنف الجنسي نسبية، ونسبيتها تختلف وفقاً للأشخاص المتعرّضين للموقف، علاقات القوة بينهم وبين المعتدين، والسياق الذي وقعت فيه، لكنها ليست نسبية في تصنيف الفعل أهو تحرّش أم لا، لأن هذا التصنيف نفسه يرجع إلى الأشخاص الذين اختبروا الواقعة، وأغلبيتهم من النساء

لن نشترك في اللعبة!

أعود بهذه النقطة مرة أخرى إلى مطالبة النسويات بتعريف التحرّش الجنسي "بوضوح"، وإصدار أوراقٍ تعريفية "صادرة بالفعل ومنشورة ومتاحة على الإنترنت". ما الذي يحدث عندما نُعيد التعريف؟ نُتهم بأننا مُنحازات للنساء، وبأننا نُدمّر قضايا هامة مثل العنف الجنسي، بانحيازنا للنساء على حساب الرجال المحتمل تورطهم في وقائع عنف جنسي. وعندما نُعيد شرح بديهية حق تصنيف الفعل للنساء لأنهن اختبرن الموقف بأنفسهن، وبأن وقائع العنف الجنسي ليست بالجمود الذي يسمح بوضعها تحت تصنيفٍ واحد، نُوصم بأننا غير حياديات أو موضوعيات.

لذلك، أرى أن أنسب الحلول هو الامتناع الكامل عن الاشتراك في هذه الدائرة المرهقة والمستنزفة لنا كنساءٍ وكنسويات، فكل شخص يُمكنه الولوج على فيسبوك، يُمكنه كذلك البحث على غوغل عن تعريف العنف الجنسي، وعن سبب تصديق النساء. كما يمكنه نقد هذا الطرح من منظور يختاره بنفسه. فالصورة الكاملة لما يحدث هو الاعتماد الكُلي على النسويات واتهامهن ووصمهن، كأنهم يقولون لنا بشكلٍ غير مباشر أننا غير قادرات على تصنيف أفعال اختبرناها بأنفسنا، وأن شعورنا بالاستباحة والإهانة هو شعور غير هام إطلاقاً، وأن الأهم هو وجود قالبٍ واضحٍ وصريح للتحرّش الجنسي، لتصبح ادعاءات النساء غير المتوافقة مع هذا التعريف المحدود، مُهمَلة ومُهمّشة. وكنتيجة لذلك، يُفلت أشخاص من مجرد الوصم بأنهم معتدون جنسياً، لأن أفعالهم لم تتفق مع ما نصَّ عليه تعريف واحد للتحرّش الجنسي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard