شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كيف هربنا إلى الصداقات لنحمي أنفسنا من كوارث بلادنا؟

كيف هربنا إلى الصداقات لنحمي أنفسنا من كوارث بلادنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 30 يوليو 201907:33 م
Read in English:

How Friendships Protect Us From the Catastrophes Back Home

قبل أشهر قليلة، قرأت مقالاً باللغة الإنجليزية حول أهمية الصداقة. في المقال، ذكرت الكاتبة أن كلمة Friend في اللغة الإنجليزية، لا تعطي القيمة اللازمة للصداقة. حملتني هذه الفكرة إلى لغتنا العربية، والثراء بتنوّع مرادفات كلمة "صديق" وِفقاً للعلاقة التي تربطنا وكذلك لعوامل أخرى.

فالسمير، هو الصديق الذي يحدّثك ليلاً، والرفيق هو الصديق الذي تسافر معه، والأنيس والنديم والزميل والجليس والصاحب والخليل، وغيرها، جميعها تقع في خانة الصداقة، مع اختلاف العلاقات والسياقات وما إلى ذلك. بنفس الوقت، هل نعطي فعلاً في حيواتنا ومجتمعاتنا القيمة اللازمة للصداقة؟

في اليوم العالمي للصداقة، والذي يُصادف في الثلاثين من تموز/ يوليو من كل عام، كان هذا اليوم مناسبةً كافية لأفكر بأهمية الصداقة في حياتي، على ألا يكون سؤال الأهمية هذا ذاتياً بقدر ما يرتبط بواقع سياسي واجتماعي جمعي، سواء ما عشته في فلسطين أو ما لمسته في سفري المحدود في الدول العربية وأوروبا، واليوم في مدينتي الأوروبية التي أعيش فيها منذ أكثر من عامين: برلين.

بالتفكير في سؤال الصداقة في حياتي، أفكّر بأن أحد الأسباب الأساسية التي حملتني من عكّا وحيفا إلى برلين، هو أن أعيش في مدينةٍ يسهل الوصول فيها إلى أصدقائي وصديقاتي من الدول العربية، بلا حاجة لتأشيرات دخول أو تصاريح سفر ولا حواجز ولا حدود، هكذا، يعيش بعضنا في مكان واحد ويمكن عندما نقرر الذهاب لتناول العشاء سويةً أن نحقق ذلك، بدون أن نطلب الإذن من أحدٍ أو أن نبكي على استحالته.

وهل للصديق في "الغربة"، كلمة مرادفة في اللغة العربية؟ لا أعلم.. لكن، لربما المرادفة هي "البيت"

فكرة رومانسية؟ ربما.. لكن هذا تماماً ما شعرت به مع الوقت، بأن الصداقات هي بمثابة عوائل أخرى، نختارها ونبنيها ونستثمر بها. في مرة من المرات، وأنا أبكي على علاقةٍ انتهت مع حبيب قديم، جاءني صديق عزيز عندها - وما زال -، وقال لي: "رشا، الصداقة أهمّ من الحب". جاملته عندها بأني أوافقه الرأي، لكن بداخلي، لم أقتنع إلا بعد سنوات من تلك الحادثة... عندما أثبتت لي الصداقة قدرتها بالفعل على خلق عالمٍ موازٍ أجمل ومعانٍ للحياة أعمق، وهذه ليست فكرة رومانسية.

وُلدنا ضمن موروث مجتمعي وثقافي، يعطي قيمةً لما يُسمّى "الحب الواحد والوحيد"، وللبحث عن شريك/ة حياة، أكثر مما يعطي قيمةً للبحث عن صديق/ة والحفاظ عليه/ا. هنالك أسباب عديدة، لن أتناول كلها الآن، منها مؤسسات الدين والمنظومات الاقتصادية بالطبع، التي لعبت الميديا ووسائطها في مساعدتها على ترسيخ أهمية "البحث عن شريك" أكثر من البحث عن صديق/ة، ما يعود بالفائدة على استدامة هذه المؤسسات ومبانٍ سلطوية كثيرة داخلها. هذا بالإضافة إلى واقع الأنظمة السياسية الدكتاتورية في المنطقة العربية والتي خلقت من الصديق بعبعاً، وأسست لمشاكل ثقةٍ عميقةٍ تجاه الآخر/الصديق نابعةً من الخوف على الذات... كما أنها اخترقت مساحات صداقة حميمة لتنفيذ مصالحها، وما إلى ذلك.

وبالتالي، ما بين كيانٍ استعماري وأنظمةٍ ديكتاتوريةٍ ورجعية، عشنا وما زلنا نعيش، أنا وأصدقائي وصديقاتي، ضحايا مفهوم الصداقات (والتبعية خاصّة لكن القصّة عامّة). أذكر في زيارتي الأولى إلى تونس عام 2012، وبعد عودتي منها إلى فلسطين، كتبت امتداداً لهذه الفكرة بأني وأصدقائي لن نغفر جريمة الحدود، والمقصود بالحدود هنا هي السياسية.

مع دخول الإنترنت إلى حيواتنا، أصبحت عملية بناء الصداقات عابرة للحدود. فمن غرفتي الصغيرة في عكّا، أنشأت واستثمرت في صداقات مع صديقات في صيدا ودبي وأخريات في دمشق وأصدقاء في الإسكندرية والرباط وغيرها، بلا حاجة لأن نلتقي وجهاً لوجه. كنا نقضي ساعات نتحدث عبر السكايب، ونرسل لبعضنا البعض صوراً مع تفاصيل حميمة من يومياتنا، ونتشارك الأسرار والقصص والفضائح. بدأ ذلك حوالي العام 2006، وبعد أربع سنوات انطلقت شرارة الثورات العربية... أصبح الأصدقاء في ميدان التحرير وشارع بورقيبة ومقاهي الشام، يعيشون في بيوتنا، في عكّا وحيفا ورام الله والقدس، أكثر مما يعيش جيراننا، بأصواتهم وصورهم وأحلامهم بعالم يتسع لنا جميعاً، بلا خوفٍ من أنظمة تعيش في أسرّتنا أكثر مما نعيش نحن.

وُلدنا ضمن موروث مجتمعي وثقافي، يعطي قيمةً لما يُسمّى "الحب الواحد والوحيد"، وللبحث عن شريك/ة حياة، أكثر مما يعطي قيمةً للبحث عن صديق/ة والحفاظ عليه/ا

فمن الكوارث، استطعنا خلق عالمٍ موازٍ، "مؤقت" ربما، يشبه ذلك الذي أردنا العيش فيه... أساسه الصداقات التي علّمتنا "الغربة"، الاختيارية و/أو القسرية، قيمتها، ومنحتها معنى جديد

قبل أيام، وأنا جالسة مع صديقة من غزّة وصديق من رام الله، بالقرب من نهر صغير في برلين، سألتنا الصديقة عن أهمية الصداقة في حيواتنا. لجميعنا كانت الإجابة ذاتها: "الأصدقاء هم العائلة".. وهذا الشعور يصبح أكبر وأعمق في غياب عائلاتنا عن حياتنا اليومية، وليس الافتراضي منها.. وهذا جميل ومؤلم في آن واحد. جميل لأن البشر قادرون على خلق عائلات جديدة كل الوقت من خلال الصداقات، ومؤلم لأن هنالك من يشتاق لأمّه ولا يمكن أن يلتقي بها، لا هو قادر على العودة إلى بلده ولا هنالك من يمنحها تأشيرة سفر كي تلتقي بابنها.

كتبت كثيراً، وأنا ما زلت في عكّا، عن حلم أن أعيش في مدينة يصل إليها أصدقائي وصديقاتي من كل مكان.. كانت مدينة الحلم هذه هي عكّا، وفي هذه المدينة، منهم من يأتيني حاملاً تفاحاً وآخر زجاجات بيرة باردة في الصيف، وصديقة تحمل حكاياتها العاطفية وتحكيها لي حين نكون كلانا جالستين على كنبةٍ واحدة، ولسنا أمام شاشة حاسوب. وحبيب أقبّله بدون الحاجة إلى فيزا، لكن على ما يبدو، وللأسف، الحلم بشكله الأوّل غير قابل لتحقيقٍ سريع في هذا الزمن.

عرفت هذه الحقيقة المحزنة قبل سنوات، حتى عندما كنت ما زلت أحلم ذلك الحلم. ولأني مقتنعة بأننا "محكومون بالأمل"، كان عليّ ألا أتنازل عن حلمي بالطبع، هذا من جهة، وأن أحاول تحقيق أجزاء منه من جهةٍ أخرى. فجئت بنفسي إلى برلين، في الوقت الذي حملت كوارث بلادنا الكثيرة، السياسية والاجتماعية والشخصية منها، أصدقاء وصديقات كثيرين إلى برلين (الشتات/المهجر/المنفى)، منهم من لا يستطيع العودة إلى بيته، ومنهن من تخاف العودة، ومنهم من لا يريد العودة حتّى.. فمن الكوارث، استطعنا خلق عالمٍ موازٍ، "مؤقت" ربما، يشبه ذلك الذي أردنا العيش فيه... أساسه الصداقات التي علّمتنا "الغربة"، الاختيارية و/أو القسرية، قيمتها، ومنحتها معنى جديد.

وهل للصديق في "الغربة"، كلمة مرادفة في اللغة العربية؟ لا أعلم.. لكن، لربما المرادفة هي "البيت".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard