شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ليس في مكة فقط...

ليس في مكة فقط... "كعبات" كان يحج إليها العرب قبل الإسلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 3 أغسطس 201905:00 م


في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، كان العرب قبل الإسلام يفدون من كل صوب وحدب إلى "بيت الرب"، فيطوفون حوله، وينحرون أضحيات ويتقربون من الله بالنذور والهدايا ثم يعودون إلى ديارهم.

و"بيت الرب" كان معبداً لـ"ذي الشرى"، إله الشمس والإله الرئيسي عند الأنباط، ولعل اسمه مشتق من الشراة وهي منطقة جبلية حول البتراء. وكان الأنباط يحتفلون بعيده سنوياً، ويصفونه بـ"رب البيت الذي يفرق الليل عن النهار"، حسبما ذكر الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".

داخل هذا المعبد، نُصب تمثال "ذي لشرى" على قاعدة مكسوة بالذهب، وحوله صور تمثل مشاهد تقديم القرابين إليه، وهو في موضع مرتفع على صخرة عالية.

وبحسب علي، لم تكن هذه "الكعبة" خاصة بالأنباط فحسب، وإنما كانت محجة لغيرهم من العرب الذين كانوا يفدون إليها من مواضع بعيدة للتقرب إلى هذا الإله.

نفوذ اقتصادي

"بيت الرب" لم يكن محجة العرب الوحيدة بجانب كعبة مكة، إذ وجدت كعبات وبيوت كانت بمثابة محجات أخرى، ما يرجعه مدير مركز الدراسات القبطية في مكتبة الإسكندرية الدكتور لؤي محمود سعيد بالأساس إلى أسباب اقتصادية.

يشرح لرصيف22 أن وجود كعبة مكة لم يحقق لمَن حولها من القبائل، خاصة قريش، نفوذاً دينياً فحسب، وإنما ساهم أيضاً في منحها وضعاً اقتصادياً مميزاً.

ويضيف أنه أقيمت مراكز تجارية حول الكعبة، تستضيف الحجاج ويباع فيها الطعام والشراب والتماثيل، فضلاً عن نحر للحيوانات وبذل الحجاج للنذور والعطايا، ما أحدث حالة من الازدهار الاقتصادي أثارت غيرة القبائل الأخرى فاتجهت إلى بناء "كعبات" خاصة بآلهتها، لاستنساخ نموذج نفوذ مكة الديني والسياسي والاقتصادي.

وساعد أيضاً على انتشار "الكعبات" عدم وجود نسق فكري للمعتقدات الدينية يلتزم به كل العرب وقتها، كأن يلتزموا مثلاً بالحج إلى كعبة واحدة، ما أتاح لسادة القبائل وزعمائها إنشاء معابد لإضفاء أهمية دينية على مناطقهم، وكان متاحاً لأي شخص أن يحج لأيّة "كعبة" متى تواجد في أرضها، أو كانت قريبة منه، بحسب سعيد.

بيت الربة "اللات"

يذكر سعيد أن هذه "الكعبات" لم تكن تقام إلا في المناطق التي تشهد استقراراً معيشياً، أي الأماكن الحضرية مثل الطائف والمدينة، وليس في أماكن انتشار البدو الجدباء، حتى تكون أكثر جذباً للحجاج.

ففي الطائف، كان الثقفيون يحجون إلى "بيت الربة"، ويرفعون منزلته إلى منزلة الكعبة، ويعظمون فناءه كتعظيم قريش لحرم الكعبة، فحُرّم على الناس قطع شجره وصيد حيوانه وأعلنوا أن مَن يدخله يكون آمناً، حسبما ذكر الدكتور محمد سهيل قطوش في كتابه " تاريخ العرب قبل الإسلام".

والربة المقصودة هي "اللات" التي كانت من الآلهة القديمة المشهورة عند العرب الشماليين وعرب الحجاز، وكان تمثالها على شكل مربع أو على شكل صخرة بيضاء منقوشة، وعبدتها ثقيف في الطائف، وبنت عليها بيتاً، كان الناس يحجون إليه.

وبحسب قطوش، "كانت سدانة هذا البيت لآل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك، أو لبني عتّاب بن مالك من ثقيف، وهما أسرتان ثريتان من أسر الطائف، تقومان بخدمته وتنظيفه على نحو ما كان في مكة وبيوت الآلهة الأخرى".

العزى... حرم آمن

رغم أن أهل مكة كانوا يحجون إلى كعبة مكة، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الحج إلى "العزى"، وهي، بحسب قطوش، كانت إلهة أنثى وإلهة المكيين المفضلة.

وبلغت منزلة العزى عند قريش حد أن جعلوا لها حرماً في وادي حراض يقال له سقام، كانوا يضاهون به حرم الكعبة، فأضحى موقعاً آمناً لا يُعتدى على أحد فيه، ولا تُقطع شجرة منه، ولا يُقام بعمل يخل بحرمته. وكان القرشيون يزورونها ويهدون لها ويتقربون منها بالذبائح عند منحر يقال له "الغبغب".

وغير قريش، عبدت العزى قبائل عربية كثيرة مثل باهلة وخزاعة وكنانة وغطفان، وعُبدت كذلك في الحيرة أيام المناذرة، وكان ملوكها يقدّمون لها القرابين البشرية في بعض الأحيان، فضحى المنذر الرابع بابن عدوه الحارث ملك غسان وكان أسيراً، كما كانت معبودة لدى اليمنيين والأنباط، روى قطوش.

معبد مناة "إله السحاب"

على ساحل البحر من ناحية المشلل بين مكة والمدينة، كان العرب من قبائل الأزد وغسان والأوس والخزرج وقريش وخزاعة وهذيل يحجون إلى معبد مناة، فيذبحون حوله ويهدون له، ولا يحلقون رؤوسهم إلا عنده.

ويذكر قطوش أن مناة كان إله السحاب الذي يرسل الرياح فتأتي بالأمطار فتغيث الناس، لذلك تمثله الجاهلي إلهاً كريماً يسعد عباده ويساعدهم على تجاوز المكاره والملمات، ويعطيهم ما يحتاجون إليه، فأقاموا له معبداً على ساحل البحر.

في معبد "بيت الرب"، نُصب تمثال "ذي الشرى" على قاعدة مكسوة بالذهب، وحوله صور تقديم القرابين إليه... كان العرب قبل الإسلام يفدون إليه فيطوفون حوله وينحرون أضحيات ويتقربون من الله بالنذور والهدايا
في الطائف، كان الثقفيون يحجون إلى "بيت الربة"، ويرفعون منزلته إلى منزلة الكعبة، ويعظمون فناءه كتعظيم قريش لحرم الكعبة، فحُرّم على الناس قطع شجره وصيد حيوانه وأعلنوا أن مَن يدخله يكون آمناً

وجنى سدنة مناة من قبائل الأزد أموالاً كثيرة من الهدايا والعطايا والنذور التي كان يقدمها له المتعبدون، وبقي هؤلاء السدنة يرتزقون باسم هذا الإله إلى عام الفتح، سنة 630، عندما هدمه المسلمون.

"بيت إلها" في مملكة الحضر

وعلى بعد 70 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من مدينة الموصل في العراق، كانت تقع مدينة الحضر، والتي خص أهلها الشمس بالأولوية في العبادة، وكانت عندهم إلهاً مذكراً يُعرف باسم "شمش"، واعتبروه كبير آلهتهم الذي يبعث الحياة في الأشياء، ويخلق الكائنات، ويمنح الخير والفوز والعدل والنظام للبشر، روى قطوش.

وبسبب هذه المكانة الكبيرة، شيد الحضريون في وسط المدينة معبداً كبيراً أطلقوا عليه اسم "بيت إلها"، فكان مركزاً للنشاط الديني والاجتماعي، ومكاناً يحج إليه الناس من أماكن بعيدة، ويدفنون بجواره موتاهم.

وإلى جانب المعبد الكبير، أقام الحضريون أحد عشر معبداً صغيراً، وخصصوا كل واحد منها لإله من آلهتهم الوثنية، وأقاموا أمامه فناء مربع الشكل، على جوانبه صف من الحجرات لسكن الكهنة وإقامة الزائرين. وفي كل معبد وُضع صندوق لجمع النقود من المتبرعين للمعبد، يروي قطوش.

الكعبة اليمانية... ذو الخصلة

كعبة أخرى نازعت كعبة مكة منزلتها عند العرب قبل الإسلام هي "اليمانية"، وكانت خاصة بالإله "ذي الخصلة".

يذكر سميح دغيم، في كتابه "أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام"، أن هذا المعبد كان يقع بين مكة واليمن في موضع يدعى "تبالة" على مسيرة سبع ليال من مكة، وعبدته قبائل خثعم وبجيلة وأزد والسراة وأقرباؤهم من هوازن.

وروى قطوش أن الحجاج كانوا يلبسونه القلائد ويهدون له الشعير والحنطة، ويصبون عليه اللبن، ويعلقون عليه بيض النعام.

الربة... كعبة نجران

وفي نجران، أقام الأحباش بعد احتلالهم اليمن (525–599) كنيسة عظيمة، لقبوها بـ"كعبة نجران". بحسب دغيم، صُممت لتضاهي كعبة مكة، وكان إذا جاءها خائف أمن، أو طالب حاجة تُقضى، وحج إليها الناس وطافوا حولها ونحروا عندها.

غير أن جواد علي يستخلص من الروايات الواردة عن هذه الكعبة أنها كانت "بِيعة" (مكان عبادة للمسيحيين) أسسها المسيحيون في مركز المسيحية في اليمن، وهو موضع نجران، ولا علاقة لها بالوثنية، وأن بني عبد المدان ابن الديّان الحارثي أقاموها هناك لمضاهاة الكعبة.

ويقترب ذلك مما ذكره أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي في كتابه "الأصنام" من أن كعبة نجران لم تكن كعبة عبادة، وإنما كانت غرفة يعظمها القوم من بني الحارث بن كعب رؤساء "نصارى نجران"، وعرفت بـ"الربة".

كنيسة القليس

أما صنعاء، فكانت موضعاً لكنيسة بناها أبرهة الحبشي سمّاها "القليس"، ونصب فيها صلباناً من الذهب والفضة ومنابر من العاج والأبنوس، في محاولة لصرف العرب عن مكة إلى هذه الكنيسة.

وروي الكلبي، أن أبرهة لما أتم بناء القليس كتب إلى النجاشي ملك الحبشة: "إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها أحدُ قط، ولست تاركاً العرب حتى أصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجون إليه"، فأرسل رجلين من قومه وأمرهما أن يتغوطا فيها، ففعلا، فلما بلغ ذلك أبرهة غضب، وقال: من اجترأ على هذا؟، فقيل: بعض أهل مكة، فغضب وكانت قصة الفيل.

ويذكر أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي، في كتابه "الروض الأنف"، أنه لما تلاشى ملك الحبشة في اليمن، أقفر محيط الكنيسة ولم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والأفاعي، فكان العرب يتخوفون من القرب منها، ويزعمون أن مَن أخذ شيئاً من أنقاضها استهوته الجن.

وبقيت القليس على حالها إلى زمن أبي العباس السفاح حين أرسل لها عامله في اليمن أبا العباس بن الربيع، فخربها وأخذ أنقاضها وما كان فيها من نفائس فباعها وانتهى آثرها.

سنداد... ذي الكعبات

ومن معابد الجاهليين التي صممت على هيئة كعبة "سنداد". بحسب علي، كانت قصراً يحج العرب إليه، فيطوفون حوله، وقد عرف بـ"الكعبات"، وبـ"ذي الكعبات".

ويذكر علي أن "سنداد" كان مركز حج قبائل بكر بن وائل وإياد، ولكن لا توجد معلومات عن هذا المعبد وشكله والتماثيل التي كانت فيه.

غير أن الكلبي ذكر أن هذا البيت لم يكن بيت عبادة، وإنما كان منزلاً شريفاً.

كعبات أخرى

وكان للعرب بيوتات أخرى يحجون إليها وينحرون عندها، منها "بساء" وهو بيت بنته غطفان مضاهاة للكعبة، وكانوا يستجلبون الرزق من الطواف حوله، حسبما ذكر هشام عبد الكريم العكيدي في دراسته "الكعبات عبر التاريخ/ دراسة مقارنة" نقلاً عن "معجم البلدان" لياقوت الحموي.

وفي اليمن كان هناك بيت "رئام" الذي كان العرب يعظمونه وينحرون عنده. أما "رضاء"، فكان صنماً وبيتاً لبني ربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم.

وبحسب العكيدي، هُدمت كل هذه "الكعبات" والبيوتات لما جاء الإسلام، إذ جهز الرسول إلى كل بيت سرايا تخربه، وإلى تلك الأصنام مَن كسرها حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard