شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في مسألة الربيع العربي وما بعده.. ماذا تعني الكرامة بالنسبة إليك؟

في مسألة الربيع العربي وما بعده.. ماذا تعني الكرامة بالنسبة إليك؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 17 يوليو 201905:41 م

"ماذا تعني الكرامة بالنسبة إليك؟" طرحتُ هذا السؤال على عدد من الأصدقاء والصديقات على مدار الأسبوعين الفائتين، وحاولتُ قدر الإمكان ألا أتدخّل في توجيه إجابة أيّ منهم/ن. تَضمنّت المجموعة السابقة أصدقاء وصديقات من سوريا والعراق وفلسطين، اختلفت أماكن تواجدهم، ما بين البلاد والمنافي، فضلاً عن عددٍ من المولودين/ات في دول أوروبية، وكذلك الواصلين/ات إليها في أعمار صغيرة. وإن كان ثمّة شيء واحد يجمع ما بين كلّ "محاولات" الإجابة على هذا السؤال، فقد كانت تلك اللحظات الطويلة من الصمت المشوب بالتلبُّك، أو "الضياع"، بحسب تعبير أحد الأصدقاء، التي استغرق فيها الجميع بلا استثناء قبل الانطلاق في محاولات لا نهائية للبحث عن تعريفهم الخاص لهذه "الكرامة".

لم تكن هناك إجابة مجرّدة، وإنما استخدموا جميعاً أمثلة مختلفة للتعبير عمّا تعنيه الكرامة بالنسبة إليهم/ن، فحاولت التركيز قدر الإمكان على أول ما خطر في بالهم/ن من أمثلة، والتي يمكن اعتبارها إلى حد ما مؤشراً مبدئياً لتصوّرات كل فرد عن الكرامة بمفهومه الخاص، في هذه المرحلة من حياته/ا. تفاوتت تلك الأمثلة الأولى ما بين العمل، والعائلة، و"الشرف"- وما يتضمّنه هذا المفهوم المطّاطي أيضاً من تعقيدات لا حصر لها هنا، والحب، والأرض/ الوطن، وجوهر الإنسان نفسه...إلخ.

 لا يمكن للكرامة أن تتحقّق في ظلِّ غياب أمرين جوهريين لا مجال للاستغناء أي منهما: الاعتراف، والمساواة

فلنتذكر محمد البوعزيزي، والذي كانت صورته ما دفعني في الأصل للتفكير بكتابة هذه المقالة، لقد حاولتُ جاهداً أن أتخيّل أنني اتصلتُ به أيضاً، وسألته: "يا بطل، ماذا تعني الكرامة بالنسبة إليك؟". أزعم أنه كان سيصمت لبضع لحظات، مثلما فعل الآخرون والأخريات، ثم سيأتي غالباً بإجابة أخرى تُضاف إلى قائمة تعاريف الكرامة التي لا نهاية لها. لكن، لم يكن البوعزيزي مستعدّاً فحسب لإشعال النار في جسده فداءً لهذه الكرامة المستعصية على الفهم، بل فعل ذلك حقاً! وجعل من جسده مشعلاً لربيع عربي أسقط أنظمةً وهزّ أخرى، وأربَك العالم بشرقه وغربه، بمفكريه وسياسييه. وقد دفعني هذا إلى الاعتقاد لاحقاً بأن الكرامة تشبه الله في الموروث الديني، فبرغم أنها لا تُرى، إلا ان بعضنا سيحرقون أجسادهم لأجلها إن مَسّها أحد ما بسوء.

قادني السؤال السابق عن معنى الكرامة إلى سؤال آخر- ربما أكثر عمقاً- ففي حال اتفقنا على الكرامة، على اختلاف ما تعنيه بالنسبة إلى كلّ منا، فهل ثمّة إجابة بصدد ما إذا كانت هذا الكرامة مُكوّناً أصيلاً من مكوناتنا البشرية، أم أنها تُعطى من قِبل المجتمع عندما يلتزم الفرد بتحقيق مجموعة من القيم التي قد تختلف بين مجتمع وآخر؟

يُعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سنة 1948 أبرز الوثائق الدوليّة التي ركّزت على الكرامة. فمنذ البداية، وردت في ديباجة الإعلان عبارة "الاعتراف بالكرامة المتأصّلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية". وجاء في نصِّ المادة الأولى منه أنه "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق". ولطالما أثارت الأسبقية هنا للكرامة على الحقوق نقاشات واسعة، تتعلّق بأن الكرامة تحدّد الحقوق، وأنه من الممكن في حالات طارئة أن يتخلّى الفرد عن بعض حقوقه في سبيل الحفاظ على كرامته. وبالمقارنة، يبدو أن هذا بعينه ما تستغلّه ديكتاتوريات المنطقة العربية أسوأ استغلال منذ خمسينيات القرن المنصرم، فنراها تحرم الفرد من أبسط حقوقه، معلّلة ذلك بترسانة من شعارات "كرامة الوطن" لا تمت للواقع بِصلة على- غرار "الممانعة والمقاومة ومحاربة الإمبريالية"- والشيء نفسه ينطبق على الديكتاتوريات الدينية، وتكون النتيجة في نهاية المطاف أن الاستبداد يسلب الكرامة من الفرد، فيشعر الأخير بنقص الكرامة أو غيابها. وبالتالي، فإن حماية كرامة الإنسان يتطلّب من الطرف الذي توكَل إليه السلطة أن يبذل القدر نفسه من الجهد اللازم لحماية الحياة. ولعلّ هذا ما أدى إلى أن تَرِد مفردة الكرامة فيما يزيد عن 160 دستوراً حول العالم.

للحديث عن وجهة النظر الأخرى، أعود هنا إلى ميدان التحرير في القاهرة، فإلى جانب اللافتات الإبداعية الساحرة، على غرار "إنجِز عندنا ثانوية عامّة"، و"ارحَلْ، مراتي وحشتني.. مُتزوّج من 20 يوم"، ثمة لافتة رفعتها متظاهرة مصرية تحمل إجابتها المباشرة على السؤال السابق. لم تكتب السيدة الأربعينية في لافتتها سوى كلمتين فقط: "عايزين كرامة"، دون أي إشارة لهوية الـ "عايزين"، ولا للجهة التي ستمحنهم/ن هذه الكرامة. وقد وردَ أيضاً في النصّ القرآني أنه "ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً"، ما يشير إلى أن الإله قد منح الإنسان الكرامة بعد أن فرغ من خلق كلِّ شيء، وليس قبل ذلك. ويمكن أن يُقاس ما سبق على ما ورد أيضاً في الإصحاح الأول من سفر التكوين: "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض". وفي كلتا الحالتين، ثمّة ما يشير إلى أن الكرامة تُعطى: سواء من خلال عقد اجتماعي كما في الحالة الأولى، أو من الإله مُباشرة كما في الحالة الثانية.

جعل البوعزيزي من جسده مشعلاً لربيع عربي... وقد دفعني هذا إلى الاعتقاد لاحقاً بأن الكرامة تشبه الله في الموروث الديني، فبرغم أنها لا تُرى، إلا ان بعضنا سيحرقون أجسادهم لأجلها إن مَسّها أحد ما بسوء

في حال اتفقنا على الكرامة، على اختلاف ما تعنيه بالنسبة إلى كلّ منا، فهل ثمّة إجابة بصدد ما إذا كانت الكرامة مُكوّناً أصيلاً من مكوناتنا البشرية، أم أنها تُعطى من قِبل المجتمع عندما يلتزم الفرد بتحقيق  القيم التي قد تختلف بين مجتمع وآخر؟

إن الأصل اللاتيني لكلمة Dignity في الإنكليزية، Dignitas، أقرب في معناه إلى "القيمة" و"المكانة"؛ ويبدو هذا متناسقاً تماماً مع النصوص الدينية السابقة، (وهُنا أجد نفسي مُضطّراً لكبح جماح هذه الفكرة آنياً، وأن أترُكَ الاستفاضة فيها لنعوم تشومسكي، أو أقرب عالم لسانيات مقارنة إليكم!). وسأحاول الاكتفاء بالإشارة إلى ما جاء على لسان ماري روبنسون، رئيسة سابقة لأيرلندا، ومفوضة الأمم المتحدة السابقة لحقوق الإنسان، والتي ترى بأن الكرامة "إحساس داخلي بقيمة الذات". وبغض النظر عن مصدرها أنطولوجياً، فإنه لا يمكن للكرامة أن تتحقّق في ظلِّ غياب أمرين جوهريين لا مجال للاستغناء أي منهما: الاعتراف، والمساواة.

ثمة رأي يقول إنه ليس هناك جدوى من تعريف الكرامة فلسفياً، ومع ذلك، فإنه من الخطير بمكان أن نتجاهل أهميتها الكبرى على الصعيد الاجتماعي. لاسيما وأننا نعتبر أنفسنا جزءاً من ثورات الربيع العربي- ثورات "الحرية والكرامة"، و"عيش حريّة كرامة إنسانيّة". ولأنه لم يكن يفترض بما حدث في أواخر 2010 وأوائل 2011، أن يفضي به المطاف إلى هذا التحوّل الكارثي، أعتقد أنه بات من الضروري جداً إجراء مراجعات نقدية عميقة وحقيقية لتفسير الراهن السياسي، الذي كان الوصول إليه ضرباً من الخيال، إذا ما قورِن بالتفاؤل الجمعي الذي عاشته جماهير الربيع العربي في الشوارع والساحات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard