شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قصّة الإيدز وأمي والكنيسة… أو ماذا يفعل بنا غياب التوعية بالأمراض الجنسية؟

قصّة الإيدز وأمي والكنيسة… أو ماذا يفعل بنا غياب التوعية بالأمراض الجنسية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 12 يوليو 201903:40 م

في منتصف التسعينات تعرّف العالم العربي على فايروس الإيدز عبر وسائل الإعلام، وأصبح هذا الموضوع "الشغل الشاغل" لدى الناس، مرفقاً بالسؤال ما هو هذا الفايروس العجيب؟

سارعت البرامج الحوارية التلفزيونية إلى ركوب الموجة، فبدأت تتحدث عن "هذا المرض"، من أين بدأ وكيف انتشر؟ إلّا أن أغلب المعلومات التي تناقلها الناس كانت غير صحيحة، إذ لم يسلّط الإعلامُ الضوءَ على الفايروس بحد ذاته، بل على العار الذي يحيط بالشخص المصاب وعائلته.

أثار هذا الموضوع موجة هلع لدى العديد من الناس، فمن ضمن المعلومات الخاطئة حوله أنه يصيب فقط الرجل الذي يمارس الجنس مع رجل آخر، أي أن المثلية الجنسية تُعدّ سبباً من أسباب الإصابة بالإيدز، وليس ممارسة الجنس بشكل عام. الخبر الذي أسعد المجموعات المتشدّدة في الشرق الأوسط، فبدأت حملات لمهاجمة المثليين واعتبارهم "نجسين" حاملين لآفة شيطانية لذا يجب التخلّص منهم!، فبدل حملات العلاج والوقاية والتوعية حول الأمراض الجنسية، استغلّت المجموعات الدينية هذا الموضوع لنشر حقدها تجاه المثليين. هنالك أيضاً من كان يعتقد بأن الإيدز ينتقل بواسطة اللعاب، أي إذا استخدمت ملعقة المصاب أو إذا أكلت من صحنه أو استعملت فرشاة أسنانه، تكون عرضة للعدوى.

في تلك الفترة، أي بالعودة إلى التسعينيات، أذكر تماماً عندما فاتحتنا أمي بموضوع الإيدز، كانت تشاهد برنامجاً حوارياً، وكغيرها من المواطنين والمواطنات كانت تصدّق كل ما يُذاع، إذ ليس لديها أي مصدر آخر للمعرفة... لم يكن هناك غوغل ولا تويتر، ولم تر في المكتبات بعد، أي كتب علمية باللغة العربية تتحدث عن الإيدز. تأثرت أمي بتلك الأخبار المنتشرة وأصابتها حالة من الخوف، فمنعتنا من تناول القربان في الكنيسة صباح يوم الأحد، إذ أن الخوري عند الطائفة الأرثوذوكسية، يستخدم ملعقة واحدة ليناول القربان فيها إلى كل المؤمنين والمؤمنات، فهناك من يلعقها وهناك من ينقضّ عليها ليبتلع "جسد المسيح بالكامل" فيسيل لعابه على الملعقة "القربان في الكنيسة هو دلالة على جسد المسيح، والنبيذ الذي يُشرب بعده دلالة على دم المسيح". بغضّ النظر عن الأمراض الأخرى التي قد يسبّبها تناول القربان بهذه الطريقة، إلا أن أمي حصرت تركيزها على فايروس الإيدز، وكانت تطلق عليه اسم "هيداك المرض" أو "يا رب تنجينا".

لكن على الرغم من ارتعابها من فكرة الإصابة بـ "هيداك المرض"، كان عليها كمؤمنة أن تثق بالله، إلا أن مخاوفها تغلّبت على إيمانها، فهي لم تعد أكيدة من أن الله يحمي عباده في الكنيسة، عليها أن تحمينا بنفسها.

تحتاج مجتمعاتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى للتوعية فيما يتعلّق بفايروس الإيدز والأمراض المنقولة جنسياً، كي نتمكّن من الانتقال من إلقاء اللوم على المصاب ورفض التعامل معه، إلى نشر التوعية للوقاية من هذه الأمراض

لا يمكننا أن نستمرّ بجهلنا وكرهنا للآخر، إذ تقع على المجتمعات التي تدّعي الإيمان بالله وبكتبه مسؤولية كبيرة، فعليها أن تبرهن أن تعاليمها الدينية تدعو إلى المحبة والغفران وتقبّل المرضى من دون أن نصفهم بالمنحلّين أخلاقياً

مع الوقت، بحثت والدتي، مع غيرها من الناس في المجتمعات العربية، في موضوع فايروس نقص المناعة البشري الذي يهاجم جهاز المناعة، وهو الجهاز المسؤول عن التصدّي للأمراض التي قد تصيب جسم الإنسان، وأدركت أن انتقاله من إنسان إلى آخر يكون عن طريق الدم، أي مشاركة المصاب استخدام الحقن أو التعرّض غير المقصود لوخزة من إبرة، أو أداة حادّة ملوّثة بدم شخص مصاب، أو عن طريق الاتصال الجنسي غير المحصور بالعلاقات المثلية بل يشمل علاقات الجنس المغايرة، بما في ذلك الفموي، الشرجي، والمهبلي، كما أدركت والدتي أن بإمكان هذا الفايروس أن ينتقل من الأم إلى جنينها خلال الحمل. ولكن هل إدراكهم لطريقة انتقال هذا الفايروس أزال وصمة العار التي يلصقونها بالمصاب؟ هل ساعدت قراءتهم العلمية على الانفتاح وتقبّل المصاب وعدم الحكم عليه بالنفي اجتماعياً؟

تحتاج مجتمعاتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى للتوعية فيما يتعلّق بفايروس نقص المناعة والأمراض المنقولة جنسياً، كي نتمكّن من الانتقال من إلقاء اللوم على المصاب ورفض التعامل معه، إلى نشر التوعية للوقاية من هذه الأمراض. لا يمكننا كشعوب تعيش في القرن الواحد والعشرين أن نستمرّ بجهلنا وكرهنا للآخر، إذ تقع على المجتمعات التي تدّعي الإيمان بالله وبكتبه مسؤولية كبيرة، فعليها أن تبرهن أن تعاليمها الدينية تدعو إلى المحبة والغفران وتقبّل المرضى من دون أن نصفهم بالمنحلّين أخلاقياً.

أمّا والدتي، فلن تعترف أبداً بأنها في يوم من الأيام لم تثق بالله، فهي ككثيرين من عباده، مؤمنة بقدرته وسلطانه، ولكنّها بلحظة ضعف أمام الفايروس الذي تراه، اكتشفت أنه أقوى من قدرة الله الذي لا تراه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard