شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
القصّة القصيرة جدّاً

القصّة القصيرة جدّاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 11 يوليو 201904:58 م

نَظّرَ الكثير لها. رفضها البعض مبرّراً إنها دخيلة على الجنس الأدبي، ولا تعد جنساً أدبيّاً مستقلّاً بذاته. اختفلوا حول تسميتها. تعدّدت المصطلحات. كَثُرت العبارات. بعضهم أوجب اقترانها بلفظ "جدّاً" تأكيداً على الاختزال والتكثيف، والبعض الأخر لم يتقبّلها كليّاً، القليل قبلها واعترف بها وكتبها على اختلاف مسمّياتها.

هنا نقدّم فنّ القصّة الومضة،. اختلف النقاد في تسميتها، فالناقد رياض عصمت سمّاها قصص الصرعة، كما أطلق عليها يوسف الشاروني "قصص في دقائق"، وعباس العقّاد قال عنها الحكاية القصيرة أو الحكاية النادرة، وأشار يحيي حقي في كتابه فجر القصّة المصريّة أنها القصّة الصغيرة، أما محمد يوسف نجم فأطلق عليها "أقصوصة"، كما تعدّدت المسمّيات في أمريكا اللاتينيّة والتي منها قصص بحجم راحة اليد، قصص ما بعد الحداثة، قصص أوقات التدخين، القصص السريعة، القصص المجهريّة، القصص البرقيّة، القّصة اللقطة، القصّة الكبسولة، القصّة الحديثة، القصّة الجديدة، القصّة الشعر، اللوحة القصصيّة، المغامرة القصصيّة، القصّة الموجزة جدّاً، القصّة الصادمة، القصّة المكثفة، القصّة التجريبيّة، الاسكتش، الميكرو.

ظهر مصطلح القصّة القصيرة جدّاً في سبعينيات القرن العشرين، حيث نشرت الأديبة الفرنسيّة ناتالي ساروت كتابها انفعالات، في باريس 1969، والذي يحوي أربعاً وعشرين قصّة قصيرة جدّاً، وتمّت ترجمته للغة العربيّة عام 1971، وكتب مترجمه فتحي العشري على غلافه: قصص قصيرة جدّاً، مستخدماً هذا المصطلح لأوّل مرّة في الأدب العربي الحديث.

وبدأت إبداعات الأدباء تتوالى في هذا الفنّ إلى أن قدّم الأديب السوري نبيل جديد، مجموعته: الرقص فوق الأسطحة في 1976، التي اشتملت على قصص قصيرة جدّاً، أقدمها قّصة "السرطان" المكتوبة في 1974.

وتوالت بعدها منتجات هذا الفنِّ المكثّف. كما يشير البعض أنها ظهرت في أمريكا اللاتينيّة منذ مطلع القرن العشرين مع ارنست هيمنجواي 1925، فكانت قصّة قصيرة جدّاً تقع في كلمات محدودة هي "للبيع: حذاء لطفل، لم يُلبس قط"، كما يُعدّ الكاتب أوجستو مونتيروسو من أوائل من كتبها في العالم، إذ كتب قصة "الديناصور". ونصّها "حين استيقظ كان الديناصور ما يزال هناك". وللكاتب المكسيكي لوي فيليي لولومي قصّة في أربع كلمات.

وهناك من يرى أنها ظهرت في 1950، على يد مجموعةٍ من الكتاب مثل بيوي كازاريس، لويس بورخيس الذي كتب بعض قصصه القصيرة في سطرين. كما لمعت في كتابات جبران خليل جبران في كتابيه: التائه والمجنون. وأخذت تنتشر في أربعينيات القرن العشرين عندما نشر القاص اللبناني توفيق يوسف عواد مجموعته العذارى 1944، التي احتوت على قصصٍ قصيرة جدّاً، ثمّ تلاحقت الأجيال التي كتبتها في العراق مثل عبد الحميد حمودي، شكري الطيار، بثينة الناصري في مجموعتها حدوة حصان، ونشر القاص خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدّاً ضمن مجموعته "القطار الليلي" الصادرة عام 1975، ونشر عبد الرحمن مجد الربيعي، وهيثم بهنام بردي قصته "صدى"، كما نجدها عند يوسف الشاروني ونجيب محفوظ ومحمد زفزاف وأحمد زيادي وابراهيم بوعلو في مجموعته "خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة".

ماذا تعني القصّة الومضة؟

حكاية مختزلة. نصّ سردي مكثّف. فهي قصّة الحذف الفني والاقتصاد الدلالي الموجز، وازالة العوائق اللغويّة والحشو الوصفي، فهي تعتمد على التكثيف العالي والاختزال الشديد

من حيث المفهوم تعني حكاية مختزلة. نصّ سردي مكثّف. فهي قصّة الحذف الفني والاقتصاد الدلالي الموجز، وازالة العوائق اللغويّة والحشو الوصفي، فهي تعتمد على التكثيف العالي والاختزال الشديد، فنجدها بعدّة كلمات وصفت حكايةً كبيرةً واسعة، ورغم أنها تتفق مع القصّة القصيرة في ذات العناصر، فهي تنطوي على ما يعرف ببداية ومتن وخاتمة، إلا أنها تحتاج إلى تقنيةٍ خاصةٍ في الشكل والبناء ومهارةٍ في سبك اللغة واختزال الحدث في عدّة كلماتٍ، ليعبّر عن الحكاية المطروحة بأقلّ عدد من الكلمات.

فيقول في تعريفها د. جابر عصفور في مقالته "أوتار الماء عمل يستحقّ التقدير" التي كتبها في الأهرام تعليقاً على قراءته لمجموعة "أوتار الماء" للأديب محمد المخزنجي إنها "فنّ صعب لا يبرع فيها سوى الأكفّاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعريّة بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعّة في أكثر من اتجاه". فالقصّة الومضة جنسٌ أدبي حديث، يمتاز بقصر الحجم والايحاء المكثّف والانتقاء الدقيق ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصيّة الموجزة والقصد الرمزي، فضلاً عن خاصيّة التلميح والاقتضاب واستعمال النفس الجُمَلي القصير الموسوم بالحركيّة، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما تتميّز بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ما هو مجازي، حيث تتمثل سماتها في الإدهاش، الإرباك، الاشتباك، المفارقة، الحكائيّة، تراكب الأفعال، التكثيف، الترميز، التلغيز، التناص، السخريّة، تصغير الحجم أكثر مما ينبغي، انتقاءً وتدقيقاً وتركيزاً.

القصة القصيرة جداً: رفضها البعض مبرّراً إنها لا تعد جنساً أدبيّاً مستقلّاً بذاته. اختفلوا حول تسميتها. تعدّدت المصطلحات. بعضهم أوجب اقترانها بلفظ "جدّاً" تأكيداً على الاختزال والتكثيف، والبعض الأخر لم يتقبّلها كليّاً

يعتبرها البعض "قصص في دقائق"، كما أطلق عليها أسماء كثيرة: القصّة الصغيرة. الحكاية النادرة. القصّة الومضة. الفنّ المطلق. قصص بحجم راحة اليد، قصص ما بعد الحداثة، قصص أوقات التدخين، القصص السريعة، القصص المجهريّة، القصص البرقيّة، القّصة اللقطة، القصّة الكبسولة، القصّة الشعر، اللوحة القصصيّة، المغامرة القصصيّة، القصّة الصادمة، القصّة التجريبيّة، الاسكتش، الميكرو.

أسباب اختفائها: وجهات نظر بعض النقاد والكتاب المعاصرين

في سؤال الكاتب والناقد ايهاب الملاح: فيما أظنّ أن القصّة الومضة اختفت لأنها ليست نوعاً جماهيريّاً أبداً، ومن الصعب أن تكون كذلك. فلدينا أزمة ثقافة وصلت إلى التنميط والتسطيح بين مجموعاتٍ واسعةٍ من القرّاء والكتاب. مستويات بشعة من الجهل وعدم التمييز وفقدان الحسِّ وانعدام الذائقة، وهذا فيما يتصل بالفنون الجماهيريّة كالرواية، فما بالك بقصّةٍ مكثّفةٍ مختزلة تكاد ترتقي إلى مصاف الشعر تصويراً وإيحاءً وتعبيراً. ولذلك أعتقد أيضاً أنه من الصعب عودتها.

ونقلاً عن القاص والروائي بيتر ماهر، لم يكن الهدف من بدايات قصّة الومضة تصدير شكلٍ جديدٍ للقارئ، بل تكثيف المعاني لأقصى حدٍّ ممكن. فهي في رأيه مقطوعة من قصيدة النثر وتحمل مواصفات الحدث القصصي، وفي ذات الوقت في أقلّ عددٍ من الكلمات الدلاليّة المجرّدة من الأسماء والأماكن والأزمنة أحياناً، ليبقى الحدث مجرّداً من كلّ الأشياء السابق ذكرها.

والقصّة الومضة قد نراها محدّدة في نطاقٍ ضيّقٍ يقترب للتلاشي لعدّة أسباب، أهمّها الغموض الشديد الذي يغلّف النصوص لدرجة أن بعض النصوص تحتاج شرحاً من الكاتب نفسه أو من ناقد معين. الاختزال والتجريد والتكثيف في القصّة الومضة هو نوع من أنواع الاختلاف والتجديد الذي لا يقبله الجميع. مثال على ذلك في الفنِّ التشكيلي من التعبيريّة إلى السرياليّة إلى التكعيبيّة، من هذا إلى ذاك، تفقد كلُّ مدرسةٍ فنيةٍ نوعاً من الجمهور البسيط الذي تجاهله الفنُّ وأصبحت التكعيبية تختصُّ بفئةٍ معينة. وفي سؤاله هل يمكن أن تعود الومضة في ظل الذائقة الحالية للجمهور وسوق النشر، قال: يمكن لكن مع تطور الوعي أوّلاً بمعنى أن يتحوّل وعي القارئ لقدرة ما على قبول الجديد المختلف، وأظن تدريب الوعي الجمعي يحتاج سنواتٍ طويلة. فحتى الآن لدينا مشكلة في قبول القصص القصيرة بسبب مصطلح زمن الرواية، ولكن مع الوقت قد يتطوّر الوعي ويهتمُّ بأشكالٍ أخرى وأنماطٍ مختلفة من الفنّ.

وفي سؤال الأديب الدكتور محمد المخزنجي، عن القصّة الومضة، أوضح أن ما يهمّه في القصّة أن تكون قصّة أوّلاً، تحمل مقومات القصّة، من بداية لتنوير لنهاية، أما أن تخرج في النهاية قصّة قصيرة أو أقصوصة فلا يهمّ. أرى عدّة عوامل ساهمت في تراجعها، أوّلها تغليب الرواية، والترويج لها سواء من الناشرين أو من القرّاء الذين يفضّلون أن يعيشوا مع حكايةٍ مطوّلة كالمسلسل المرئي بالضبط، ولأن القصّة القصيرة ترتبط بالصحافة التي تراجعت هي الأخرى. وأشار إلى أهمّ من كتبها الكاتب ادواردو غالينو.

كما أطلق عليها بعض الكتّاب الفنّ المطلق. وأشار الكاتب الروائي أحمد عبد المجيد قائلاً: هي قصّة أكثر تكثيفاً من حيث عدد الكلمات، ويزعجني التكلّف في كتابتها، والخلط بينها وبين الأقوال المأثورة والحكم. أما عن أسباب اختفائها فقال إنها لم تنتشر من الأساس لتختفي. باعتبارها قصّة فهي إلى الآن لا تتصدّر.

التباسها مع الشعر والنثر

التبست القصّة الومضة بالشعر الحديث، حيث أشارت جويس كارول أوتس في كتابها القصّة الصادمة، أن الشكل الإيقاعي للأقصوصة أكثر صلة بالشعر المنفتح على تجسيد الخبرة وإثارة العاطفة. ودعمت رأيها بقصّة "جنيات البحر" لكافكا يقول فيها "هذه هي أصوات الليل الساحرة، أصوات جنيات البحر يغنين بطريقتهن المغوية، فهم يعرفن أنهن صاحبات مخالب وأرحام عميقة، وأنهن يغنين بأصواتهن الجميلة في ظاهرها".

ويضيف تشارلز جونسون أن القصّة الومضة تتشابه مع الشعر في التكثيف والاقتصاد في اللغة. ويؤكد روبرت فوكس أنها يمكنها أن تصير نغماتٍ موحيةً مثل القصائد، وهذا يتمثّل في بنية العمل ككل، ويضيف أنها أيضاً تتداخل مع قصيدة النثر من حيث الغموض والإبهام. وتوضّح سارة بروليت أن الأقصوصة فنّ هجين يجمع بين القصّة القصيرة والنثر والكتابة الصحفيّة، فهي فنّ الاقتطاف بجدارة. ونشير في الخاتمة إلى أن القصة القصيرة جدّاً (الومضة) كأيّ فنّ له جمهور وصنّاع وسيذهب إليه متذوقوه حتى وإن ندروا.

المصادر: -القصة القصيرة جدا بين اشكالية المصطلح والتجنيس. عامر رضا -القصة القصيرة جدا: جنس أدبي جديد. جميل حمداوي -سطوة البدايات: دراسة في نصوص رواد القصة القصيرة جدا في العالم العربي. د.أسامة البحيري. -القصة القصيرة جدا: قراءة في التراث العربي. مجدي عبد المعروف حسين أحمد. -شعرية القصة القصيرة جدا. جاسم خلف إلياس -القصة القصيرة جدا اشكالية في النص أم جدلية حول المصطلح. عدنان كنعاني -القصة القصيرة جدا.. تاريخها، فنها، رأي النقاد فيها. د.جمال حمداوي -القصة القصيرة جدا. رشيد كرمة -شعرية الواقع في القصة القصيرة. عبد الدائم السلامي -محنة القصة القصيرة جدا. ابراهيم السبتي -القصة القصيرة جدا مواقف ورؤى. عبد الله المتقي -مقاربة حول أدب القصة القصيرة جدا. أحمد عمران. -القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق. د.يوسف حنيطي. -أوتار الماء عمل يستحق التقدير. د.جابر عصفور. -القصة القصيرة جدا. أحمد جاسم حسين. -فجر القصة المصرية. يحيي حقي -الغلاف الخلافي لمجموعة الآتي. نجيب محفوظ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard