شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لغز الأعمال الفنية الناقصة: منحوتات لم تنجز، روايات لا تنتهي، وسمفونيات لا تكتمل

لغز الأعمال الفنية الناقصة: منحوتات لم تنجز، روايات لا تنتهي، وسمفونيات لا تكتمل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 24 يونيو 201907:03 م

Posthume باللاتينيّة تطلق على المولود(ة) بعد وفاة الوالد، ومنها Posthumous، المفهوم الذي انتقل إلى اللغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة، ويُطلق على الأعمال الفنيّة التي قُدِّمت للجمهور بعد وفاة مؤلّفها. ببساطة، إنها الأعمال الفنيّة التي لم تكتمل بسبب موت مبدعيها قبل إتمامها، سواء في الكتابة أو الرسم أو الموسيقى.

لطالما أُحيطت الأعمال الفنيّة غير المكتملة بالكثير من الغموض والإثارة في الذهن البشري، وأُلّفت قصص عديدة تروي عنها ما لم ينكشف أو يكتمل.

في كتابه (قصر الكتب) يخصّص المؤلّف (روجيه غرينييه) فصلاً عن الأعمال غير المكتملة، وهو ينبّه إلى أن الموت ليس وحده العائق القسري لعدم إنهاء عملٍ فني، بل أيضاً الطيش والاستهتار اللذان يستسلم لهما المؤلّف أحياناً.

في النحت، أشهر الأعمال غير المكتملة هو "العبيد الأربعة" لمايكل أنجلو (صورة المقالة): أربعة تماثيل رخاميّة، تُعتبر نموذجاً في براعة استخراج حضور الجسد الإنساني وإيحاءاته من الرخام، ويعتقد العديد من المختصّين أن أنجلو لم ينهها قصداً، ليعبّر عن صعوبة إفلات الحضور الإنساني من المادة، ومن هنا أتى الاسم الذي أطلق أتباعه على هذا العمل، أيّ العبيد الأربعة أو السجناء الأربعة، والمقصود أنهم حبيسو المادة، لم ينفصلوا عن القطعة الرخاميّة التي جسّدت حضورهم من الصخر بفعل دور النحات.

لكن نقّاداً آخرين مثل إيلي فور، يرجعون سبب عدم اكتمال التماثيل لفوضويّة أنجلو، فيكتب: (كلّما أنهى مايكل أنجلو نصف تمثالٍ لأحد أولئك العبيد، تظهر عذابات أخرى، وانتصارات أخرى وهزائم أخرى تطالب بأخذ دورها. في معظم الأحيان لم يكن ينهي تماثيله ومجموعاته الصرحيّة).


مؤلّفات صمّمت لئلّا تكتمل

في نهاية رواية (الخادم المغضوب عليه)، يعدنا المؤلف (تريستان ليرميت) أن مغامرات بطله لم تنته، ويعد القرّاء بكتابين آخرين، ومرّ بعدها اثنا عشر عاماً، دون أن يعمل على هذين الكتابين. هنا نجد أن عدم الاكتمال كان سببه إهمال الكاتب لمتابعة مشروعه، أكثر منه بسبب الموت.

عدا عن الإهمال، هناك الطموح المفرط الذي يدفع المؤلّف أحياناً إلى عملٍ لن يكون إنجازه معقولاً، كتاب (الخلاصة اللاهوتيّة) لتوما الإكويني مثال جيد على ذلك، وكذلك كتاب (رأس المال، كارل ماركس).

وفي إطار الأعمال الطموحة غير المنتهية يحدّثنا أناتول فرانس عن: (كلّ محاسن وإنجازات اللامكتمل واللا إرادي)، أما غوستاف فلوبير، وفي رواية بوفار وبيكوشيه، فأعلن عن رغبته بابتكار شخصيتين، وهما بوفار وبيكوشيه، يتمتّعان بفضولٍ موسوعي للمعرفة، ما جعل هذه الرواية لا نهائيّة التشعّبات، وأصبحت مستحيلة الاكتمال، وهكذا تضافر عاملان في عدم انتهاء هذه الرواية، وهي فكرتها وموت فلوبير نفسه.

لننتقل الآن إلى (البحث عن الزمن المفقود) الذي طُبع جزءٌ منها بعد وفاة مؤلّفها مارسيل بروست، يمكن اعتبار البحث عن الزمن المفقود، عملاً منتيهاً، أو غير منته، على غرار الحياة، إذ يمكن الافتراض أن مؤلّفه، حتى لو عاش أيضاً عشر، عشرين، أو ثلاثين سنة إضافية، لما توقّف عن تصحيحه وتنقيحه وتضخيمه.

عدم الاكتمال يفتح الخيال

مثلما رأينا مع مايكل أنجلو أن عدم الاكتمال يمكن أن يكون أسلوباً في التعبير، فإن النحّات الفرنسي رودان جعل ذلك أسلوباً في بداية القرن العشرين، أبقى بعضاً من منحوتاته غير مكتملة، عمداً أحياناً، لتترك مجالاً للخيال.

أما القاص والروائي فرانز كافكا فقد ترك لنا روايته الشهيرة، القصر، 1926، غير منتهية بالفعل. شبّه نفسه برجلٍ لديه منزل خَرِب، مصنوع من ذكرياته، فراح يستخدم ذلك المنزل من أجل أخذ بعض المواد الأوليّة لبناء منزلٍ آخر، هي رواياته. إلا أن القوة خانته في منتصف عمله، بحيث وجد أمامه بيتاً نصف مهدّم وبيتاً آخر غير مكتمل (لينك رواية كافكا).

قانون اللامكتمل

لكي ينشر روايته التي لا تنتهي، رواية المقدّم مومور، ابتكر روجيه مارتان دي غار، حيلةً تنطوي بكلِّ بساطة على أن يفسّر عدم انتهاء الرواية بموت الشخصيّة، إن لم نقل بموت الكاتب، أما العمل الروائي غير المنتهي الحقيقي هو رجل بلا صفات، تلك الورشة الأدبيّة الرائعة التي تركها لنا النمساوي روبرت موسيل، والذي رحل في العام 1942.

في كتابه الكتاب الوثني، يكتب برونو شولتز: (هناك أشياء لا يمكن أن تحدث بالكامل حتى نهايتها، إنها أكبر وأكثر روعة من أن تضمّن في حدثٍ واحد). في رواية بيتر إيبستون، للمؤلّف جورج دي مورييه، ينتصر الحبّ على الفراق وحتى على الموت. بيد أن مذكرات بيتر تنقطع في منتصف جملة: "أوّل كلّ شيء، أنوي ..." كما لو أن الكاتب قد فهم أنه بالرغم من كلِّ جهوده لعرض حكايته المتألّقة والمؤثرة، كان يعود دائماً إلى القانون العام – قانون اللامنتهي.

الأعمال الفنيّة التي لم تكتمل بسبب رحيل مبدعيها قبل إتمامها، فتحت عوالم إبداع في الأجيال اللاحقة، ولا زلنا نتفنّن في تفسيرها وكتابة نهايات جديدة لها. هنا إطلالة على أشهرها

موزارت يكتب قداس موته

طلب الكونت فرانز فون فازليغ من موزارت أن يكتب له مقطوعةً موسيقيّةً من فنِّ القدّاس، لتُعزف في الذكرى السنويّة لوفاة زوجته. كان موزارت مصاباً بالسلِّ، وعمل بجهدِ على هذه التحفة الموسيقيّة لكنه فارق الحياة دون إنهائها.

يكتب فوزي كريم عن فنّ الـ Requiem موسيقى القدّاس، بأن مهمّة فنِّ القدّاس أن يحرّر الفّنان من دائرته الضيّقة إلى رحابٍ أوسع، وهكذا حقّق قدّاس موزارت تأثيره على مبدعه متوجّهاً به إلى الموت. فرانز خافيير سوسماير طالب موزارت، وهو من أكمل كتابة القطع الناقصة من هذا القدّاس، الذي أصبح يحمل اسم قدّاس موزارت، ويُعتبر واحداً من أميز الأعمال الموسيقيّة في تاريخ فنّ القدّاس، ومن أكثرها تقديراً.

إكمال سمفونية بيتهوفن العاشرة في القرن العشرين

في العام 1825م قدّم بيتهوفن سمفونيته التاسعة، كانت أطول سمفونيّةٍ في التاريخ آنذاك (بين 65 و75 دقيقة)، وأوّل عملٍ من هذه الفئة يدخل إليه الصوت البشري (أربعة مغنّين منفردين وجوقة). يدخل الغناء («نشيد الفرح» للأديب الألماني شيلر)، وهي اليوم واحدة من أشهر الأعمال في تاريخ الموسيقى السيمفوني. بعدها توصل بيتهوفن إلى لحن البيانو في الحركة الأولى من "السمفونيّة العاشرة"، التي مات في العام 1827 دون أن يكملها.

في النصف الثاني من القرن العشرين، اختصّ الباحث والمؤلّف والعازف الموسيقي الإنجليزي باري كوبر، بأعمال بيتهوفن، ووضع عنه العديد من الدراسات والكتب، وتعمّق في المسودات الأصليّة لأعماله، وكان نتاجه الأشهر هو ما أطلق عليه سمفونية بيتهوفن الافتراضيّة العاشرة.

في أبحاثه عثر باري كوبر على العديد من الوثائق والمسودات المتعلّقة بالحركة الأولى التي كتبها بيتهوفن في حينها، وأكمل على أساس ما تقدّمه من فكرٍ موسيقي وأسلوب توزيعٍ لحني باقي حركات السمفونية التي قدّمت للجمهور في العام 1988م، أي أن 160 سنة فصلت بين الحركة الأولى والحركات الثلاث التالية.

شوبرت وأشهر سمفونيّة غير مكتملة

حين يقال "السمفونيّة غير المكتملة" دون ذكر اسم المؤلّف، فإن المقصود في الحديث هو السمفونيّة التي تعود لشوبرت، وبالتالي تعدّ أشهر السمفونيات غير المكتملة في تاريخ الموسيقى.

لكن النقطة المثيرة للتساؤل لماذا اعتبرت سمفونيته هذه أشهر سمفونياته، رغم أنه ألّف قبلها ثماني سمفونيات تامّة؟ أما روجيه غرينييه فينبّه أن شوبرت اختار سلم C Meneur لسمفونيته هذه، ما يعني أنه كان يقرأ في مصيره أجواءً من الغموض واليأس اللذين يقاربان مواصفات وحضور الموت. 

مؤلفون يكملون سمفونيات أسلافهم

كذلك، توفّي المؤلف الرومانسي الروسي ألكسندر بورودين، دون أن ينهي سمفونيته الثالثة والتي لا نعرف منها سوى حركتين مسجّلتين فقط، وقد حاول أن يكملها من بعده ألكسندر كلازينوف.

لم يكمل المؤلّف نوربرت بوركوميل، سمفونيته الثانية، التي لا نملك منها إلا الحركتين الأولى والثانية، لكن من عمل على إكمال الحركة الثالثة منها هو واحد من أبرع موسيقي الحركة الرومانسيّة، المؤلّف العازف المتوّج على عرش العزف والتأليف لكونشرتو البيانو، روبرت شومان. هكذا حصل بوركوميل على أحد أعلام الموسيقى العالمية ليتمّم له سمفونيته.

وفي العام 1997 نجح أنتوني باين في تقديم السمفونية الثالثة التي لم يكن مؤلّفها إدوارد ألغار، قد أنهاها، فقد تركها مع عددٍ كبيرٍ من السكيتشات والأوراق المبعثرة التي جعلت من تسجيل الحركة الرابعة عملاً مضنياً، في تفكيك شيفرة تسلسل وترتيب الأوراق.

تفضيل السمفونية بعدم اكتمالها

من أكثر السمفونيات غير المكتملة التي تمّ تقديم اقتراحاتٍ موسيقيّة لمتابعتها بعد وفاة مؤلّفها، هي السمفونية التاسعة لأنطون بروكنر، ولدينا منها فقط الحركات الثلاث الأولى، ومسودة للحركة الرابعة، وعبر التاريخ رغب العديد من المؤلّفين الموسيقيين تقديم اقتراحات متعلّقة بالحركة الرابعة.

إلا أن قادة الأوركسترا ما يزالون يفضّلون تقديم الحركات الثلاث الأولى فقط ما يعني أن رغبة مؤلفٍ موسيقي متابعة عملٍ غير مكتمل لم تعد تكفي، فهنا لابد من إقناع القيّمين والحكّام، وقد لعب قادة الأوركسترا هذا الدور الذي يستحقّ التأمّل، لأنه يبين أن قادة الأوركسترا تذوّقوا السمفونية بنقصها، مفضّلين هذا النقص على الكمال المزعوم.

هذه المختارات من بعض أشهر الأعمال الفنيّة غير المنتهية في مجال الأدب، الفنِّ التشكيلي، والأعمال الموسيقيّة، ننهيها أخيراً بالتساؤل اللمّاح الذي أورده (روجيه غرينييه) في كتابه (قصر الكتب)، قائلاً: (لكن ما هو الأسوأ؟ أن يكون الشيء منتهياً أم غير منتهٍ؟"


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard